“حتّى الحرب، لها قواعدها”. هذه هي الجملة التي أثارتْ غضب وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهن في الأمم المتحدة. وهي جملة بديهية تفرضها ألف باء القانون الدولي الإنساني[1]، وإن حاول مسؤولون أميركيون وأوروبيون إغراقها أو تنسِيَتنا إياها في سياق هوسهم في التشديد على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” أو حتى الإيحاء بأنّ هذا الحقّ “غير مشروط”.
والواقع أنّ هذا الغضب ينمّ ليس عن حساسية إسرائيلية في الظرف الحالي، إنّما عن موقف قوامه إنكار مرجعيّة القانون الدولي برمّته. فحتى حين يتذرّع الاحتلال الإسرائيلي بحق الدفاع، فإنّه يستند في ذلك إلى حقّ طبيعي مطلق من دون أي إشارة إلى سنده القانوني أو الإطار القانوني الذي يندرج فيه. وإذ ذكرت السلطات الإسرائيلية أنّ عملية “طوفان الأقصى” تشكّل جريمة حرب، فإنها عادت لتتخلّى عن هذا التوصيف في موازاة التركيز على توصيف “حماس” بمنظمة “إرهابية” شبيهة تمامًا بـ “داعش” و”القاعدة”. وقد ترافق كل ذلك مع توصيف الحرب على أنّها حرب بين “الحضارة” و”البربرية” أو “أبناء النور وأبناء الظلام”، وصولًا إلى استخدام أسناد دينية غالبها مستقى من التوراة. وفيما صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد أسبوع من حربه الدموية: “سنحاول حماية المدنيين” بما قد يشكل استعادة ولو ضمنًا لقواعد القانون الدولي، فإنّه سارع إلى نسف أيّ اعتقاد بذلك من خلال تحميله مسؤولية موت المدنيين لـ “حماس” وتشبيه الفلسطينيين بـ “العماليق” الذين دعت التوراة إلى إبادتهم. وعليه، بدا جليًّا أنّ الكيان الإسرائيلي لا يكتفي بتحوير طبيعة القانون الدولي أو بإجراء قراءة انتقائية له كما تفعل العديد من الدول المعتدية، بل ذهب إلى إنكار مرجعيّته بالكامل. وقد تجلّى ذلك بوضوح كلّي في دعوة مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة، أمين عام المنظمة الدولية إلى الاستقالة على خلفية تصريحات تذكّر الكيان بالقواعد الدولية وببديهيّات واقعية بأنّ للصراع الحالي سياق تاريخي[2]. كما تجلّى في رفض إسرائيل التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والتحقيقات الدولية في جرائم الحرب وصولًا إلى منع دخول الخبراء ولجان التّحقيق الأمميّين ومنظّمات حقوق الإنسان إلى الأراضي المحتلة.
وفيما دحضْنا في الحلقة الأولى من بحثنا هذا مقولة تمتّع إسرائيل كدولة محتلّة بحقّ الدفاع عن نفسها، نتناول في هذه الحلقة كيف انتهكتْ إسرائيل مجمل المبادئ التي يرسو عليها القانون الدولي، لنفصّل في الحلقة اللاحقة جرائم الحرب المرتكبة من اسرائيل والتي تصل وفق مراقبين كثيرين حدود الجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية.
وقبل المضي في ذلك، يجدر التذكير بأنّ قواعد ومبادئ القانون الدولي تدخل ضمن ما يعرف بالـ “jus cogens”، وهي مجموعة القوانين أو القواعد الواجب احترامها والتي تعتبر ملزمةً حكمًا للدول كافّة بشكل لا يمكن التنازل عنه أو تجاوزه. وهذا ما جاء في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حيث أكّدت أنّ عددًا واسعًا من قوانين القانون الإنساني المطبقة في النزاعات المسلحة تشكل مبادئ لا يمكن تجاوزها في القانون العرفي الدولي[3]. هذا يعني أيضًا أنّ “شرط الاعتراف المتبادل” المعتمد غالبًا في القانون الدولي لا يطبّق في هذه الحالة: إّذ أنّ الأطراف ملزمة باحترام هذه القاعدة، حتى ولو لم يحترمها الطرف الخصم[4].
مبدأ الإنسانية لا ينطبق على “الفلسطينيين”
أوّل المبادئ التي يجدر لحظها هو مبدأ الإنسانية، وقوامها حماية الإنسان[5]، كلّ إنسان وضمنًا المقاتلين. وقد تجلّى هذا المبدأ في تبديل تسمية القواعد الناظمة للحروب من “قانون الحرب” إلى “القانون الدولي الإنساني” ابتداءً من النصف الثاني من القرن العشرين. هذا التبدّل في التسمية لا يقتصر على الرمزية بل يترجم الهمّ الأساسي الذي من أجله يتمّ تطوير هذه القواعد بعد أهوال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد اكتسب هذا المبدأ حاليًا مكانه كقاعدة عرفية، قوامها وجوب تجنّب قدر الإمكان الأذى الزائد الناجم عن استخدام القوة سواء فيما يتعلق بالسكان المدنيين أو حتى المقاتلين أنفسهم.
وقد أعلنت إسرائيل بوضوح عدم التزامها بهذا المبدأ، تبعًا لإنكار إنسانية الفلسطينيين، وهو أمر وجد تعبيرات واسعة في العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية تمّت الإشارة إليها تحت مسمى dehumanization. وليس أدلّ على ذلك من التصريح الذي أدلى به وزير “الدفاع” الإسرائيلي يوآف غالانت بأنّ دولته تحارب “حيوانات بشرية” وأنّها “ستتصرّف على هذا الأساس”، تمهيدًا لإعلان حصار شامل على غزة يخلو من أي اعتبارات إنسانيّة. وهذا ما عاد ليتكرر على ألسنة العديد من المسؤولين منهم نتنياهو الذي ذهب إلى حدّ وصف أهل غزة بـ “أبناء الظلام” أو “العماليق” الذين أمرت التوراة وتنبّأت بإبادتهم. كما استعاد دان جيلرمان، المندوب السابق للكيان الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، توصيف الفلسطينيين بـ”حيوانات فظيعة وغير إنسانية”. من جهته، رفض الباحث الإسرائيلي مردخاي كيدار هذا التوصيف “لأنّ في ذلك تحقير للحيوانات”[6].
وأن ينكر هؤلاء كما كثيرين سواهم إنسانية الفلسطينيين ليس أمرًا ظرفيًا ولا حصل بالصدفة بل هو في صلب العقيدة الصهيونية وقد حصلت أمثلة عديدة له منذ قيام الكيان الإسرائيلي لا بل حتى من قبله[7].
استبعاد مبدأ التمييز لأنّ “التركيز الآن على الأضرار، لا على الدقّة”
المبدأ الأساسي الثاني في القانون الدولي الإنساني هو مبدأ التمييز بين المدنيين والعسكريين[8]، وهو المبدأ الذي تنبع منه كلّ القواعد الرامية إلى ضمان حماية المدنيين وممتلكاتهم[9]. وعليه، بموجب هذا المبدأ، وحدها الهجمات الموجّهة ضدّ الأهداف العسكرية هي المسموحة. في المقابل، يُمنع منعًا باتًا الاستهداف العمدي للأهداف المدنية الذي يشكّل جريمة حرب[10]، وأيضًا الأعمال العسكرية التي لا تميّز بين الأهداف العسكرية المشروعة من جهة، وبين السكان المدنيين والممتلكات ذات الطابع المدني من جهة أخرى[11]. كما تُمنع الهجمات العشوائية وهي الهجمات التي لا تستهدف هدفًا عسكريًا معيّنًا، أو التي تستخدم فيها أساليب أو وسائل قتالية لا يمكن توجيهها نحو هدف عسكري محدّد، أو الهجمات التي تستخدم فيها أساليب أو وسائل قتالية تتجاوز تأثيراتها القيود المفروضة بموجب القانون الإنساني الدولي، بحيث تؤدي إلى إصابة أهداف عسكرية وأشخاص مدنيين أو ممتلكات مدنية من دون تمييز.
ومن البيّن أنّ إسرائيل لم تكتفِ في هذه الحرب، وأمام ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين وضمنِهم آلاف الأطفال، بدفاعها المعتاد لجهة أنّ مجمل أهدافها عسكرية وأنّ إصابات المدنيين تحصل بشكل عرضي بفعل تواجدهم على مقربة من هذه الأهداف أو بفعل استخدامهم كدروع بشرية من قبل “حماس”، إنّما ذهبت أبعد من ذلك وعلى نحو لا يخلو من التناقض في اتجاه تبرير استهداف المدنيين بكثير من الازدراء ومن دون إبداء أي أسف عليهم.
من أهم الشواهد على ذلك، هو خطاب الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، لجهة تحميل المدنيين مسؤولية الرضوخ لـ “حماس” و”مشاركتهم” تاليًا في أفعالها[12]. واللافت أنّ هذا الخطاب بالغ الخطورة وجد صداه لدى العديد من وسائل الإعلام والمسؤولين السياسيين داخل إسرائيل وخارجها. ويضاف إلى حجة عدم اعتراض سكان غزة على “حماس”، حجج أخرى مثل (1) وجود روابط عائلية بين السكان والمقاتلين في “حماس”[13]، أو (2) أنّ “حماس” حظيت بتأييد واسع في انتخابات 2006[14] أو أيضًا، وهي الحجة الأفظع (3) أنّ الأطفال قد يصبحون مقاتلين عندما يكبرون بما يحمّلهم منذ اليوم مسؤولية خيارات مستقبلية محتملة[15]. يفهم من هذا الخطاب، أنّه ليس للمدنيين أن يستفيدوا من نظام الحماية إلّا في حال إعلان القطيعة الجماعية مع “حماس”. وليس هناك أدنى شكّ في تعارض هذا الخطاب التبريري لتجريد المدنيين من أي حماية مع منطق القانون الدولي بوجه عام ومبدأ التمييز بوجه خاص، طالما أنّ القانون الإنساني يطبّق في حالات النزاع المسلّحة ويهدف إلى حماية “المدنيين” (أي الذين لا يشاركون في القتال) من دون أن يشترط إطلاقًا حياديّتهم إزاء الصراع، بل على العكس بوصفهم طرفًا فيه على وجه التحديد.
ومن المؤشرات الأخرى الواضحة على تنكّر إسرائيل لهذا المبدأ هي التدابير الحربية المتخذة فعليًا وقوامها الحصار الشامل لفرض التجويع كوسيلة حرب، واستهداف مناطق بأكملها بما فيها من مستشفيات ومدارس ودور عبادة أدّت إلى أضرار فادحة في الأرواح والمباني والمنشآت، فضلًا عن استخدام الأسلحة الحارقة في منطقة مكتظة سكانيًّا. وما فاقم من ذلك هي المخططات المعلن عنها لجهة تفريغ غزة من سكانها وتهجيرهم إلى صحراء سيناء كتدبير ضروري لاجتثاث “حماس” وضمان أمن إسرائيل، بما يظهّر استهداف المدنيين كهدف ملازم للحرب المعلنة ضد “حماس”. وليس أدلّ على ذلك من تشبيه نتنياهو الفلسطينيين للعماليق (وهو شعب يرجّح أنّه أسطوري) الذين يجدر قتلهم وقتل نسائهم وأولادهم وفق ما جاء في التوراة.
في الاتجاه نفسه، وإذ اعترف المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، الأدميرال دانييل هاغاري، صراحةً بأنّ “مئات الأطنان من القنابل” قد ألقيت بالفعل على القطاع الضئيل المساحة، فإنّه أعلن أنّ “التركيز الآن على الأضرار وليس على الدقة”. بمعنى أنّ أهميّة المعركة تحتّم بالنسبة إليه العمل على تحقيق أكبر ضرر في بنية “حماس” حتى ولو تطلّب ذلك شنّ هجمات غير دقيقة (يفهم عشوائية) وبمعزل عمّا ينتج عنها من أضرار في أرواح المدنيين وأملاكهم. وفق هذا المنطق، يصبح مقبولًا إنذار مستشفى بالإخلاء مهما كان عدد المصابين فيها أو حتى استهدافها في حال توفر أدنى مؤشر ولو غير مؤكد على استخدام أي من أجزاء المستشفى لخدمة “حماس”. وكانت لجنة تقصّي الحقائق في حرب غزة 2014 قد تناولت هذه المسألة بوضوح عند النظر في استهداف إسرائيل سيارات المدنيين بما فيها سيارات الإسعاف بحجّة أنّه يحتمل أن تستخدم هذه السيارات لنقل مقاتلي “حماس” وخلصت على ضوء تعميم الاستهداف على كلّ السيارات المتواجدة في منطقة ما من دون توفّر أدلة واضحة على استخدامها في تقديم مساهمة في العمليات العسكرية على حصول استهداف مباشر للمدنيين[16].
استبعاد “مبدأ التناسب” في مجلس الأمن
ينبع من مبدأ “التمييز” مبدأ التناسب، حيث يجب ألّا تكون الخسائر البشريّة العرضية في السكان المدنيين و/أو الأضرار بالممتلكات ذات الطابع المدني مفرطة بالنسبة للفائدة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة[17]. .يجب على الأطراف أن يبذلوا قصارى جهدهم للحفاظ على أقصى مسافة ممكنة بين الأهداف العسكرية ومراكز السكان المدنيين. وإذا كان يمكن توقّع أنّ هجومًا سيسبب أضرارًا مدنية جانبية زائدة بالنسبة للفائدة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة، يجب إلغاء الهجوم أو توقفه بموجب مبدأ التناسب. وعليه، لا يمكن قياس احترام مبدأ التناسب من خلال الرجوع إلى أهداف الحملة العسكرية ككلّ. على العكس، يجب أن تتمّ مراعاة التناسب بالنسبة إلى كلّ عملية عسكرية على حدة، وتحديدًا بين الهدف العسكري المرجو منها والخسائر التي قد تتسبب فيها[18]. وعليه، في حال وجد أحد أطراف النزاع نفسه غير قادر على تقدير واضح للضرر الجانبي الذي قد ينجم عن الهجوم المخطط له في سياق معيّن، يجب عليه ببساطة الامتناع عن تنفيذ هذا الهجوم[19].
وقد طُرح موضوع التناسب بشكل مفصّل في الحروب الجوية، وهي الحرب التي تنتهجها إسرائيل بصورة منتظمة في سلسلة حروبها ضد قطاع غزّة، مستفيدة من احتكارها السلاح الجوي وتجنّبًا للخسائر التي قد تتكبدها في أيّ حرب برية. وثمّة مؤشرات لم تتأكّد بعد أنّ الحرب الحاضرة لن تحيد عن هذا السّيناربو أقلّه لفترة طويلة حيث يستمر سلاح الجوّ في شنّ هجماته منذ ثلاثة أسابيع في ظل تردّد كبير في التوغل برًّا. وقد برّرت بعض الأطراف المنخرطة في حروب جويّة ومنها إسرائيل الأضرار الجسيمة التي خلّفتها هجماتها الجوية بأنّه يصعب قياس التناسب بسبب شنّ الهجمة من ارتفاع لا يسمح بتقدير الأضرار بشكل صحيح[20]. لكنّ هذا التبرير غير منطقي، حيث يصبح بإمكان الأطراف التي تنتهج الحروب الجوية بهدف التقليل من خسائرها أن تحرّر نفسها من هذا المبدأ بمجرّد أنّها وضعت نفسها بملء إرادتها في وضع يصعب فيه قِياس التناسب.
وأمام بعض الإدانات الرسمية المتتالية المندّدة بطبيعة الهجمات الإسرائيلية غير المتناسبة[21]، رفض صراحةً وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهن هذا المبدأ، متسائلًا “ما هو الردّ المُتناسب؟” على عملية “طوفان الأقصى”. وقد جاء في إدلائه الحرفي “ما هو الرد المتناسب مع قتل الأطفال، اغتصاب النساء وحرقهنّ، وقطع رؤوس الأطفال”؟ ليركّز على فظاعة عملية 7 تشرين الأوّل التي تبرر وفق رأيه ردًّا من دون قيود. وعدا عن أنّ هذا الخطاب استعاد أفعالًا عدّة ثبتتْ عدم صحتها، فهو يندرج مرّة جديدة ضمن خطاب الاحتلال الذي يصوّر المعتدي على أنّه ضحية ليبرر أفعاله، معارضًا بذلك مبادئ القانون الدولي الإنساني: إنّ احترام القانون الإنساني الدولي لا براعي مبدأ المعاملة بالمثل[22]، فلا يمكن لجريمة مرتكبة أن تبرّر اقتراف جريمة أخرى.
فيما عدا ذلك، ثمة مؤشرات واضحة جدًا على عدم مراعاة مبدأ التناسب. حيث أنّ عدد القتلى الذين زاد عن 7700، وزاد عدد الجرحى عن 19700 في تاريخ 27 تشرين الأوّل، علمًا أنّ مواصفات هؤلاء تؤشر إلى كون غالبيتهم الكبرى من المدنيين، حيث أنّ حوالي 66 في المئة منهم من الأطفال والنساء بحسب التقرير اليومي الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وفيما أدّى ارتفاع أعداد هؤلاء إلى إحراج كبير لحلفاء إسرائيل وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، لم يجد رئيسها جو بايدن سوى التشكيك بصحة هذه الأرقام في معرض تأكيده على بشاعة الحروب وضرورة احترام القانون الدولي. وقد سارعت وزارة الصحة الفلسطينية إذّاك إلى نشر لائحة من 7028 اسم في تاريخ 26 تشرين الأول، وهي لائحة ما برحت تطول بعد كلّ غارة. وما عزّز من وجاهة هذا المؤشر هو عدم إفصاح إسرائيل عن المبرّرات التي حملتها إلى تدمير عدد هائل من الأبنية على رؤوس سكانها، ومنها أبراج سكنية، ولا عن المكاسب العسكرية المحققة منها، مكتفيةً بترداد أنّ لا أهداف عسكرية محدّدة سوى “القضاء على حماس”.
الإيهام الكاذب باحترام مبدأ الوقاية
حتّى عندما يكون الهدف “عسكريًّا” ومشروعًا، تفرض قوانين الحرب على الأطراف اتّخاذ كلّ التدابير الوقائية المتاحة والاحتياطات العملية الممكنة كافّة لتجنّب الخسائر لدى المدنيين والأضرار في الممتلكات المدنية التي قد يُسبّبها الهجوم أو التخفيف منها. ويستتبِع احترام مبدأ الوقاية واجبات عدّة منها: (1) التحقق من أنّ الهدف هو هدف عسكري وأنّ الهجوم يحترم مبدأ التناسب؛ (2) اختيار الأسلحة وتوقيت الهجوم بغية تجنّب أو تقليل الخسائر المدنية[23]؛ (3) إصدار إنذارات مسبقة كلما كان ذلك ممكنًا؛ و(4) تعليق الهجوم إذا تبيّن أنّه لا يحترم مبدأ التناسب.
ورغم أنّ موجب الإنذار ليس مطلقًا بمعنى أنه مفروض ” ما لم تسمح الظروف بذلك”، ويقصد بذلك الحالات التي يبرز فيها عنصر المفاجأة أو سرعة الهجوم لضرورات عسكرية، إلّا أنّ المبدأ هو ضرورة الإنذار واستحالاته تشكّل استثناء. ويشترط أن يكون الإنذار “فعّالًا” ومناسبًا حيث أنّه لا يكفي إصدار إنذارات شكلية لاحترام مبدأ الوقاية. وقد حدّدت لجنة التحقيق المستقلّة الناظرة في الانتهاكات القانونية في عدوان 2014 على غزّة معياريْن لاعتبار الإنذار فعّالًا أو مناسبًا، ألا وهما: (1) أن تكون صياغة الإنذار واضحة بالنسبة للأشخاص الذين يرسل إليهم، و(2) أن يكون الامتثال للإنذار ممكنًا واقعيًا “can be realistically acted upon”. وإذ يؤكّد الجيش الإسرائيلي بانتظام حرصه على إصدار إنذارات في محاولة منه لتبرير هجماته، تبقى هذه الإنذارات وفق مراقبين عدّة غير مناسبة وغير “فعالة” أو قابلة للتطبيق. وهذا ما نقرأه بشكل خاص في تقرير أعدّته منظمّة العفو الدوليّة وتناولت فيه مخالفة اسرائيل لمبدأ الوقاية، حيث وثقت غياب الإنذارات في حالات عدّة، أو اقتصار الإنذار على تبليغ شخص واحد من حي كامل[24]. كما تناولت المنظمة الإنذارات التي ثبتَ توجيهها والتي تطرح إشكاليات قانونية حين نقارنها بالمعايير المفصّلة التي حددتها لجنة التحقيق المستقلة في العدوان على غزة (2014).
ومن أهمّ ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، الإنذارات الآتية:
- إنذارات غير واضحة لجهة المهلة الزمنية: يقوم الجيش الاسرائيلي بالاتصال هاتفيًا بالسكان لإنذارهم بواجب الإخلاء، من دون توضيح المدى الزمنيّ ويتمّ القصف بعد ساعات طويلة وأحيانًا بعد أيام. في هذه الحالة، يفرض القانون الدولي أن يصار إلى إصدار إنذار جديد وهو ما لا يقوم به الجيش الإسرائيلي. وقد وثقت المنظمة أنّ العديد من السكان الذين امتثلوا لإنذارات عامّة لم يحدّد مداها الزمني، عادوا إلى منازلهم بعد انقضاء فترة طويلة نسبيًا من امتثالهم للإنذارات العامّة الموجّهة إليهم، بفعل الظروف السيئة للملاجئ أو لجمع الأشياء التي يحتاجُونها هم وعائلاتهم وقتلوا حينها[25].
- إنذارات بالإخلاء في ظلّ غياب “مكان آمن”: لا تحدد الإنذارات الوجهة التي يجدر سلوكها. كما تمّ في بعض الحالات تسجيل قصف لطرق الإخلاء ذاتها أو حتى الأماكن التي أُنذِر المدنيون بوجوب التوجه إليها[26]. وإذا يركز الجيش الإسرائيلي في إنذاراته على إخلاء “شمال القطاع”، لا تقتصر غاراته على الشمال، فقد تكرّر قصف مناطق خان يونس ورفح جنوب القطاع. وقد أوضح مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك في بيان أنّه “ما من مكان آمنًا في غزة”. غياب المكان الآمن جعل المدنيين الذين تلقوا الإنذارات غير واثقين من فعالية النزوح وجدواه نظرًا لوتيرة الضربات الجوية ومداها. ما يجعل الإنذارات غير قابلة للتطبيق ومخالفة للقانون.
- إنذارات بإخلاء المستشفيات غير قابلة للتطبيق: أمر آخر بالغ الخطورة وهو توجيه إنذارات متتالية بوجوب إخلاء المستشفيات تتولّى معالجة مئات المصابين ويلجأ إليها آلاف سكان غزة، من دون أن يكون هنالك مستشفيات أخرى قادرة على استقبال المصابين. فقد خرجت أكثر من ثلث المستشفيات في غزة (12 من أصل 35) وقرابة نصف مراكز الرعاية الصحية الأساسية (46 من أصل 72) عن العمل جرّاء القصف وانقطاع مواد التشغيل بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وقد أتى الهجوم الذي تعرّض له مستشفى المعمداني (والذي نفت إسرائيل مسؤوليتها عنه بحجج تولّت الصحافة الاستقصائية إسقاطها الواحدة بعد الأخرى)، كشاهد على الكارثة البشرية التي قد تتأتّى عن استهداف المستشفيات والتي لا يمكن تبريرها بالضرورة العسكرية بالنظر للعواقب الإنسانية، والتي من شأن رفض الطواقم الطبية إخلاءها أن يدفع الإسرائيليين إلى العدول عن هجماتهم لمخالفتها مبدأي التناسب والوقاية على حد سواء.
- إنذارات شكلية لا تستهدف المدنيين بل تهدف إلى تبرئة الجهة الإسرائيلية أمام الرأي العام: في تاريخ 28 تشرين الأوّل، حذّر المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري في فيديو بالإنكليزيّة منشور على صفحة الجيش على منصّة “إكس” لإخلاء شمال القطاع ومدينة غزة بشكل “مؤقّت” مع العلم أنّ القوات الإسرائيلية كانت قد قطعت شبكة الإنترنت بالكامل عن غزة. وقد فهم منها أنّها موجهة للرأي العام الأجنبيّ تبريرًا للعمليات العسكرية، أكثر مما هي موجهة لمن يخاطبهم الإنذار أي سكّان غزة. بعد ما انهالت التعليقات التي تفضح “صورية” هذا الإنذار وعدم فاعليته، أضاف الحساب الرسمي للجيش الاسرائيلي منشورًا تعقيبيًا يورد ترجمة للفيديو وتذكيرًا بالإنذارات السابقة التي أتت على شكل مناشير. إلّا أنّ هذه المناشير بدورها غير قانونية.
- إنذارات ومناشير تفرض نزع الصفة المدنية: تجدر الإشارة مرّة جديدة إلى أنّ مبدأ الوقاية يطبّق بالتوازي مع مبدأي التمييز والتناسب. وعليه، لا يعفي توجيه الإنذارات الجيش الإسرائيلي من حظر الهجوم على المدنيين ولا يشرّع لهم الباب لاستهداف هؤلاء أو شنّ هجمات عشوائية. كما أنّه لا يسمح بانتزاع الصفة المدنية عن الأشخاص الذين لا يمتثلون به[27]. ومن أخطر المناشير التي رمتها القوات الجوية الإسرائيلية في حربها الأخيرة، مناشير أشارت صراحة إلى “أنّ الأشخاص المدنيين الذين بقوا في المناطق التي تمّ “إنذارها” اعتبروا وفهموا على أنّهم اختاروا البقاء ويمكن اعتبارهم أهدافًا مشروعة”[28]. وهي إذًا إنذارات غير قانونية حكمًا إذ أنّ عدم مغادرة منطقة بعد إنذار لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُعتبر تورُّطًا مباشرًا في الأعمال العدائية أو أن يشكّل قرينة على ذلك. ومؤدّى إنذارات كهذه أن تخلق بيئة تسهم في شنّ هجمات ضد المدنيين.
- إنذارات ومناشير تهدف إلى إفراغ مناطق كاملة: لا يمكن أن ينتج عن الإنذار إفراغ مناطق كاملة، وبخاصّة بالنظر إلى صغر مساحة غزّة الجغرافية ونسبة اكتظاظها السكاني المرتفع، وبسبب الحصار وعدم إمكانية الخروج من القطاع، وتدمير أكثر من نصف الوحدات السكنية فيه ونزوح مليون و400 ألف شخص من سكانها. بمعنى أنّ إنذارات كهذه (وأخطرها الإنذار الذي وجه لمجمل سكان شمالي غزة والذين يقدر عددهم بمليون نسمة بوجوب التوجّه إلى جنوبه) إنّما تندرج ضمن محاولات “تفريغ” مناطق بأكملها من دون أن تشكل تدابير وقائية أو تحذيرات فعلية قابلة للتطبيق. وهذا ما أشارت إليه المقررة الخاصّة لدى الأمم المتحدة حول حقوق الأشخاص النازحين داخليًا بولا غافيريا بيتانكور طالبة علنًا من إسرائيل العدول عن تحذير إخلاء شمال القطاع الذي يتعدّى كونه مجرّد مخالفة لمبدأ الوقاية ويشكّل جريمة التهجير القسري.
[1]القانون الدولي الإنساني هو مجموعة “القواعد الدولية، سواء كانت اتفاقية أو عرفية، التي تهدف بشكل خاص إلى تنظيم القضايا الإنسانية الناتجة مباشرة عن النزاعات المسلحة، سواء كانت هذه النزاعات دولية أو غير دولية، والتي تقيد، لأسباب إنسانية، حق الأطراف المتصارعة في النزاع في استخدام أساليب ووسائل الحرب أو تحمي الأشخاص والممتلكات المتأثرة بالنزاع وذلك بغضّ النظر عن شرعية وقانونية النزاع بحد ذاته.” تعريف من صياغة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهو المتعارف عليه.
[2] UN Secretary-General Antonio Guterres on Tuesday 24 October 2023 at the UN Security Council meeting : “Palestine has been subjected to 56 years of suffocating occupation. So, October 7 attacks have not taken place in a vacuum,”
[3] محكمة العدل الدولية، الرأي الاستشاري في قضية مشروعية استخدام الأسلحة النووية، الصادر في تاريخ 8 تموز 1996، الفقرة 79
[4] اتفاقيات جنيف (1949) المادة الأولى والمادة الثالثة.
[5] يعرف هذا المبدأ أيضًا بـ”البند مارتين” حيث حاول الدبلوماسي الروسي تضمين بند يحمي المدنيين عام 1899 في مقدّمة معاهدة لاهاي، قبل أن يتطوّر القانون الدولي، حيث جاء فيها: “إلى حين إصدار المزيد من قوانين الحرب الشاملة، ترى الأطراف المتعاقدة مناسبًا إعلان – في الحالات التي لم تشملها بعد القوانين الحالية – أن السكان وأطراف النزاع يبقون تحت حماية وسيادة قانون الأمم، كما ينبثق من العرف الذي أقرته الشعوب المتحضرة، ومن قوانين الإنسانية وما يمليه الضمير العام”. وقد ترجم هذا المبدأ في النسخة “الحديثة” في البروتوكول الإضافي الأوّل، المادة الأولى الفقرة الثانية.
[6] في برنامج على قناة “بي بي سي” عربي.
[7] رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن: “الفلسطينيون وحوش يمشون على قدمين” (1982)، رئيس الوزراء السابق إسحق شامير: “سنسحق الفلسطينيين كالجراد وستنفجر رؤوسهم على الصخور والجدران” (1988).
[8] محكمة العدل الدولية ( قضية مشروعية استخدام الأسلحة النووية، 1996)، الفقرة 78:
“Le premier principe est destiné à protéger la population civile et les biens de caractère civil, et établit la distinction entre combattants et non-combattants; les Etats ne doivent jamais prendre pour cible des civils, ni en conséquence utiliser des armes qui sont dans l’incapacité de distinguer entre cibles civiles et cibles militaires.”
[9]البروتوكول الإضافي الأول (1977)، المادة 48
[10]نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، المادة 8، الفقرة 2، ب)2)،
[11]البروتوكول الإضافي الأول (1977)، المادة 52
[12] “هناك أمة بأكملها مسؤولة. ليست صحيحة هذه الخطابات التي تزعم عدم وعي المدنيين وعدم مشاركتهم”. “It is an entire nation out there that is responsible. It’s not true this rhetoric about civilians not aware, not involved”
[13] تصريح عضو الكنيست الإسرائيلي ايلات شاكد: “يجب قتل أمهات جميع الفلسطينيين لأنهنّ يلدن ثعابين صغيرة. الشعب الفلسطيني بأكمله هو العدو، بشيوخه، بنسائه، بمدنه، بقراه، بممتلكاته وبناه التحتية”.
[14] DeSantis says US shouldn’t take in Palestinian refugees from Gaza because they’re ‘all antisemitic’ | AP News. “The U.S. should not be absorbing any of those. I think the culture — so they elected Hamas, let’s just be clear about that. Not everyone’s a member of Hamas, most probably aren’t. But they did elect Hamas.”
[15] Israeli politician: ‘The children of Gaza have brought this upon themselves’ – Mondoweiss; L’avocate franco-israelienne Nili Naouri, présidente de l’association Israël for ever qui sur un plateau francais affirme “Il n’y a pas de population civile innocente à Gaza. A partir de la naissance, l’éducation est antijuive, on leur apprend à tuer”.
[16] تقرير النتائج المفصلة للجنة التحقيق المستقلة المنشأة وفقًا لقرار مجلس حقوق الإنسان رقم S-21/1، الفقرة 365
[17] البروتوكول الإضافي الأول (1977)، المادة 51 الفقرة الثانية، والمادة 52 الفقرة الأولى
[18] Le CICR a déclaré, lors de la conférence de Rome sur la création d’une Cour criminelle internationale, que l’insertion des mots «l’ensemble de» dans la définition du crime ne saurait être interprétée comme ayant pour objet de modifier le droit existant. CICR, déclaration à la conférence diplomatique de plénipotentiaires des Nations Unies sur la création d’une Cour criminelle internationale, paragraphe 190
[19] تقرير النتائج المفصلة للجنة التحقيق المستقلة المنشأة وفقًا لقرار مجلس حقوق الإنسان رقم S-21/1، الفقرة 37
[20]أثير هذا الموضوع تحديدًا أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بشأن الهجوم الجوي لحلف شمال الأطلسي ضد يوغوسلافيا لتقييم مطابقته للقانون الإنساني الدولي وللبحث في جرائم الحرب المرتكبة.
[21] Pakistan condemns ‘indiscriminate, disproportionate’ Israeli force against Palestinians, calls for ceasefire (leadpakistan.com.pk); Israel’s response to Hamas attack is disproportionate, Norway says | Al Arabiya English
[22]اتفاقيات جنيف (1949)، المادة الأولى
[23] المادة 57 (3) من البروتوكول الإضافي الأول: “يجب إعطاء تحذير مسبق فعّال بالهجمات التي قد تؤثر على السكان المدنيين، ما لم تسمح الظروف بذلك.”
[24] “In some instances, they informed a single person about a strike which affected whole buildings or streets full of people or issued unclear “evacuation” orders which left residents confused about the timeframe.” Damning evidence of war crimes as Israeli attacks wipe out entire families in Gaza – Amnesty International
[25] “Ismail al-Naqla told Amnesty International that their next-door neighbour received a call from the Israeli military at around 10:30am, warning that his building was about to be bombed. Ismail and Mohammed and their families left the building immediately, as did their neighbours. By 3:30pm, there had been no attack, so the al-Naqlas and others went home to collect necessities. Ismail explained that they had thought it would be safe to do so as five hours had elapsed since the warning, though they planned to leave again very quickly.” Damning evidence of war crimes as Israeli attacks wipe out entire families in Gaza – Amnesty International
[26] “In one attack on Jabalia market attack, people had left their homes in response to an “evacuation” order, only to be killed in the place to which they had fled”. Damning evidence of war crimes as Israeli attacks wipe out entire families in Gaza – Amnesty International
[27]وقد ورد حرفيًّا في هذه المناشير ما يلي: “كل من اختار أن لا يخلي من شمال القطاع إلى الجنوب من وادي غزة، من الممكن أن يتم تحديده على أنّه شريك بتنظيم إرهابي”
[28] A/HRC/29/CRP.4, paragraphe 404