لم يكن هناك في دردغيا ما يقلق البال. فالقرية الجنوبية الصغيرة، ذات البيوت الحجرية القديمة، تبعد 4 كيلومترات عن مدينة صور، هي بعيدة نسبيًا عن الخط الحدودي الأوّل مع فلسطين المحتلّة وكذلك الثاني. كانت كنيستها القديمة مع بيت الأُنطش (حيث يسكن خوري الرعية) وقاعاتها وصالونها، تبثّ الطمأنينة في قلوب من بقي من أهلها بين جنباتها. ودردغيا معروفة بنسبة نزوح عالية بين أهلها بحثًا عن فرصة عمل تندر في الأرياف، ولا يتعدّى عدد من تبقى من رعيّة الكنيسة، وفق ما أكد الأب موريس خوري لـ “المفكرة”، 125 شخصًا “هؤلاء لم يكن لديهم بيوتٌ في بيروت ولا وظائف يستأجرون من رواتبها منازل خارجها، وبعضهم عاد إلى القرية بعد الأزمة الاقتصادية في 2019 بعدما فقدوا وظائفهم، ومداخيلهم”.
الكنيسة قبل أن تدمّرها الغارة الإسرائيلية
لكن هدوء دردغيّا النسبي قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان المندلع منذ تشرين الأوّل 2023 لم ينجِّها من الطيران الإسرائيلي الحربي الذي استهدفها ليل الأربعاء الخميس 9-10 تشرين الأوّل 2024 بثلاث غارات دفعة واحدة، يفصل الأولى عن الثانية والثالثة دقائق قليلة. استشهد نتيجة الغارات خمسة عناصر من الدفاع المدني اللبناني في البلدة، إضافة إلى عنصر في كشافة الرسالة الإسلامية: “غارة على صالون الكنيسة وقاعاتها، وثانية على منزل بالقرب من الكنيسة (ربما يكون بيت الأنطش) والثالثة على مركز الدفاع المدني في دردغيا الذي يبعد عن الكنيسة نحو 500 متر. وأدّت الغارات إلى سقوط 7 شهداء بينهم خمسة من عناصر الدفاع المدني الذين كانوا يتأهّبون لتلبية نداء الإنقاذ”، وفق ما أكّد مصدر في الدفاع المدني اللبناني لـ “لمفكّرة”.
وفي بيان نعى الدفاع المدني اللبناني “خمسة شهداء من الموظفين العملانيين من عديد مركز صور الإقليمي، على إثر غارة إسرائيلية استهدفت مركزهم في دردغيا، حيث كانوا يتواجدون داخل المركز على أهبة الاستعداد لتلقي نداءات الإغاثة”. وأكد المدير العام للدفاع المدني العميد ريمون خطار “الاستمرار في هذه الرسالة الإنسانية مهما عظمت التضحيات”. والشهداء هم رئيس مركز صور الإقليمي في الدفاع المدني اللبناني عبدالله الموسوي والعناصر بسام الموسوي وعلي سمير نجدي وجوزيف جريس البدوي وحسن نمر عيسى فيما نعت كشافة الرسالة الإسلامية الشهيد محمد حسن نزّال.
وقد أشار بيان الدفاع المدني إلى “أنّه قد سقط في الاستهداف أيضًا إضافة الى عناصر الدفاع المدني عدد من المدنيين” وأنّ “عمليات انتشال الجثامين تجري في ظروف صعبة بسبب التحليق المستمر للطيران المعادي”.
الدمار مكان الغارة وتبدو آلية الدفاع المدني بين الركام
معلومات متضاربة عن وجود نازحين في الكنيسة عند الاستهداف
يروي الأب موريس خوري أنّه ترك القرية يوم الأحد 22 أيلول، إثر اشتداد القصف الإسرائيلي في المنطقة “خلّصنا القداس ومشيت، وغادر نصف الرعية بعد ظهر اليوم نفسه، فيما غادر البقية في 23 أيلول، أي في اليوم التالي”.
وتضاربت المعلومات حول مدى وجود نازحين من القرى الحدودية في صالون الكنيسة من عدمه في وقت الغارة. فبحسب الأب خوري ومع تسارع القصف العنيف على القرى الحدودية في الخطّين الأول والثاني في جنوب لبنان، “لجأ عدد من العائلات النازحة إلى مبنى مجاور للكنيسة حيث يوجد منزل الكاهن ظنًّا منهم أنّ وجودهم في الكنيسة سيحميهم”. ويتكوّن المبنى من “قاعتين واسعتين في الطابقين الأوّل والثاني، إضافة إلى طابق تحت الأرض”. ووفق الأب خوري دمّر القصف المبنى بعد استهدافه مباشرة، فيما تضرّرت الكنيسة بشكل كبير، و”أدى ضغط القصف إلى اقتلاع سقفها ووقوعه فوق منزل قريب منها”.
ولدى محاولة “المفكرة” التقصّي عن استهداف النازحين في الكنيسة وفي ما إذا كان هناك شهداء أو عالقون تحت الركام، أبلغنا الأب خوري أنّه لا يعرف شيئًا عن عدد النازحين الذين كانوا متواجدين في المبنى أو عن عدد الشهداء منهم أو الذين علقوا تحت الردم، “لكن بعض الأشخاص أبلغوني أنّ عائلات نازحة غادرت القرية بعد استهداف الكنيسة والدفاع المدني”.
في المقابل، نفت خمسة مصادر إنقاذية ومن السلطات المحلية في المنطقة، وجود نازحين لدى استهداف المبنى الملاصق للكنيسة، ولم يتمّ نعي أي من هؤلاء أيضًا. ولم نتمكن من التأكد من المعلومات التي أوردها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا عن وجود نازحين في المنشآت التابعة للكنيسة.
جوزيف الذي أبى ترك الواجب ودردغيا
من بين شهداء الدفاع المدني اللبناني الذين ارتقوا في استهداف مركزهم في دردغيا، حظي العنصر العملاني الشهيد جوزيف جريس البدوي باهتمام كبير، إذ نعاه أصدقاؤه وجيرانه في القرية ومحيطها مشيدين بعلاقاته الطيبة والجيدة مع الجميع في محيطه. وزوّدت زوجة جوزيف سابين كرم “المفكرة” بمنشور له وضعه على صفحته على فيسبوك يقول فيه: “نحن من طينة هذه الأرض المقدّسة، التي كانت معبرًا لأنبياء وأولياء الله الصالحين، ومنهم يسوع المسيح، الذي نحن ننتمي إليه وإلى ديانته المسيحية، فهنا ولد أجدادنا، وهنا تربّينا، وهذه القرية تشهد على كلّ مناسبة كانت ومازالت تقام مسيحية أم إسلامية، فنحن تربينا جنبًا إلى جنب مع أخواننا من الطائفة الشيعية الكريمة، على مشاركة بعضنا البعض في الأفراح والأحزان، ومناسبة عاشوراء الحسين كان لها التأثير فينا منذ القدم، وها هي مستمرّة جيلًا بعد جيل، فالحسين هو القدوة لكلّ طالب حرّية في هذه الدنيا، من دون تمييز عنصري أو مذهبي، فرايته هي راية حق لنصرة كل مظلوم…. وللعبرة فإنّ آلام الحسين وآلام السيّد المسيح هي نفس التضحية لحرية وخلاص الإنسان، وبدوري ما رفعت هذه الراية من على سطح منزلي في بلدتي دردغيا، إلّا لإيماني بها وبالعيش المشترك…”.
وشارك عدد من أصدقاء جوزيف هذا المنشور، إضافة إلى ناشطين آخرين على وسائل التواصل الإجتماعي، بعد إضافة عبارة: “جوزيف بدوي شهيدًا على درب الإمام الحسين والسيّد المسيح عليهما السلام.. وتحت راية إمام العيش المشترك السيّد موسى الصدر”.
وليلة استشهاد جوزيف، كان الطيران الحربيّ الإسرائيلي يزنّر بنيران القصف العنيف المنطقة الجنوبية الحدودية، ومعها قرى قضاء صور، ومن بينها دردغيا التي تقع على بعد 4 كيلومترات من المدينة، حينما اتصل جوزيف جريس البدوي بزوجته سابين، ليتحدّث إلى طفلاته الثلاث قبل خلودهنّ إلى النوم، على عادته كلّ مساء، حين يكون في الخدمة. جمعت سابين الصغيرات جويا (6 سنوات) وجنى (3 سنوات ونصف) وإلهام (سنة ونصف) أمام شاشة الهاتف، وجعل جوزيف يسألهنّ عمّا يرغبن بأن يحمله إليهنّ عند عودته إلى البيت، قائلًا لهنّ: “ناموا هلأ، وبكرا راجع بابا قبل ما توعوا”. وهو عاد وأكد ذلك لزوجته عندما اعتقدت أنّه يمازح الصغيرات :”بكرا الصبح رح نبدّل المناوبة وبجي بشوفكن قبل ما إرجع ع الخدمة”.
جوزف وبناته الثلاثة
بعد ساعة من الاتصال، وفيما كانت سابين التي نزحت من دردغيا إلى منزل أهلها في عبرا، شرق صيدا، تتابع مع عائلتها وقائع العدوان الإسرائيلي على لبنان، بثت إحدى القنوات التلفزيونية خبرًا عاجلًا: “غارة إسرائيلية على دردغيا”. وما إن ركضت نحو هاتفها لتتصل بجوزيف حتى بًثّ الخبر الثاني “استهداف مركز الدفاع المدني في دردغيا”. هاتفت سابين جوزيف، ورفاقه ممن أعطاها أرقامهم في حال الطوارئ، وعندما لم يردّ أحد، اتصلت على الرقم الأرضي للمركز، ولم تلق جوابًا.
ظهر أمس الخميس 10 تشرين الأوّل، أقيم القداس الجنائزي لجوزيف البدوي في كنيسة الروم الملكيين (الكاثوليك) في صور ودفن فيها “وديعة”، إذ ستقوم والدته وزوجته وأخوته بإعادتها إلى ثرى دردغيا: “بدنا نرجع ندفنه في دردغيا”، تقول سابين “بس تخلص الحرب، بدنا نرجّع جوزيف ع دردغيا التي أحبّها ولم يتركها، سندفنه قربنا هناك”، تقول سابين ودموعها تخنقها “البنات كلّ الوقت بيسألو عن بيّهم، وأيمتى راجع”. لم يتسنَ لعائلة جوزيف وداعه بسبب العدوان “ما قدرنا ودعناه، بكرا منودعه لمّن نرده ع دردغيا”، تؤكد سابين وهي تغالب فجيعتها.
شهداء الواجب
ولكلّ شهيد من شهداء مركز الدفاع المدني في دردغيا عائلة وأطفال وقصّة وحياة وتضحيات بذلها في خدمة مجتمعه مع المؤسّسة منذ 15 عامًا وأكثر، وحازوا جميعهم على تنويهات مدير عام الدفاع المدني على تفانيهم في خدمة الوطن والمجتمع. وقد شيّعوا أمس جماعيًا في صور ودفنوا فيها “وديعة” في حفرة واحدة بانتظار العودة إلى ثرى قراهم.
فمدير المركز عبدالله محمد حسن الموسوي (موليد 1961، أرزون، صور) تعاقد مع الدفاع المدني منذ العام 1997، وعاش في مراكز خدمته أكثر مما عاش في بيته، ولم يترك الخدمة في أحلك الظروف والمخاطر مثله مثل زملائه العناصر الشهداء علي سمير نجدي (مواليد 1983، صريفا)، وحسن نمر عيسى (مواليد 1978 الشحور)، وبسام محمد حسن الموسوي (مواليد 1976، أرزون).
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.