“أؤكد لكم أني لم أكن على علم بأن السيارة عائدة للوزير رشيد درباس ولم أعلم بهذا الأمر إلا حين مشاهدتي له داخل السيارة. ف… قلت للوزير درباس من خلف زجاج السيارة أنني طارق الملاح وأني لدي حقوق عنده”. هذه العبارة وردت حرفيّا في إفادة طارق الملاح الأولى المدوّنة في محضر التّحقيقات الأوليّة لدى شعبة المعلومات في قضية التعرّض لسيارة وزير الشؤون الإجتماعية رشيد درباس. وكان الملاح احتُجز من جرّاء هذا التعرض مع ثلاثة شبّان آخرين شاركوا في تظاهرة نظمتها حملة “طلعت ريحتكم” إحتجاجاً على عجز السلطات العامة عن لمّ القمامة في بيروت وجبل لبنان. وقد تأكّدت هذه الواقعة عند تفريغ الفيديو المستخرج من هاتف الملاح نفسه: فهو فعلاً قرع زجاج السيارة وقال له أن له حق عنده. وهي الواقعة التي تركزت عليها أصلاً التحقيقات المجراة معه والإفادات المدلى بها ضدّه. وهذا ما تأكد في إفادتيْ مرافقيْ الوزير درباس نفسه واللذين صرّحا بالفم الملآن أنهما لم يُشاهدا هذا الأخير يعتدي على السيارة[1]. وتالياً، بدا واضحاً أن ردّة الفعل الأولى والوحيدة للملاح عند التعرّف الى شخص الوزير، تمثلت في أن يشهر بوجهه ما يعتبره حقّا له، وهو “الحقّ” الذي طالما طالب الوزير به فلم يلق إلا الإنكار والشتم. والحق هذا هو للتذكير الحقّ بالتعويض عن الضرر الذي كان الملاح تكبده من جراء إيداعه في مؤسسة رعاية طوال 12 سنة من دون إتخاذ التدابير اللازمة لضمان سلامته. وقد تجسّد حقّه المذكور في دعوى قضائية رفعها أمام مجلس شورى الدولة ضدّ الدولة اللبنانية ممثلة بوزارة الشؤون الإجتماعية ودار الأيتام الإسلامية على أساس أن الرعاية البديلة تشكّل مرفقاً عاماً، لزّمته الدولة لدور الرعاية ومنها دار الأيتام بموجب دفاتر شروط تملي عليها ضمان سلامة الأطفال المودعين فيها وأن الجهتين تكونان اذاً مسؤولتين عن الخلل الناتج عن سوء إدارة هذا المرفق.
ولإدراك أهمية هذه اللحظات بالنسبة الى الملاح، يقتضي التذكير في كيفية تعاطي درباس مع ملفّه منذ بداية طرحه. فعدا عن أنه رفض مقابلته، فإنه سارع الى التهجم عليه متهما إياه بالإفتراء والإبتزاز وحبّ الظهور، كل ذلك من دون تحقيق مسبق. وفي مقابل التنكّر لمطالب هذا الشابّ، أسهب درباس في الإطناب بدار الأيتام الإسلامية وبدورها الاجتماعي، محذرا من مغبة التعرض لها وواصفا أي اتهام لها بأنه تحامل (حملة) ضد الطائفة السنية. وهو بالمحصلة بدا وكأنه يجدّ في تحصين مؤسسات الرعاية إزاء أيّ مساءلة مانحاً إيّاها براءة ذمّة شاملة عن أعمالها الماضية والمستقبلية على حدّ سواء ومتخليّا سلفاً عن أي مسؤولية في مراقبتها.
وعليه، ومع إستعادة ظروف هذه العلاقة، بإمكان أيّ كان أن يتصوّر ما قد يُثيره إلتقاء الرجلين الفجائي للمرة الأولى من مشاعر لديهما. فمن جهة، تصرّف الملاح وكأنه أمام فرصة ثمينة لفرض المواجهة التي طالما رفضها درباس. فنسي في تلك اللحظات مطلبه الذي نزل الى الشارع من أجله وهو رفع القمامة، لتطغو عليه مجدداً قضيته الأساسية. هدئ… قرع نافذة السيارة… عرّف عن نفسه… وذكر بأن لديه حقّا وضمناً بأنه ما زال متشبثاً بالمطالبة به. بالمقابل، لزم درباس صمتاً مطبقاً. وتعين اذا أن نستشفّ أثر المواجهة عليه من تصرفاته وتصريحاته اللاحقة والتي جاءت بمثابة صدى لها: “تعرفت على أحد المعتدين وهو طارق الملاح الذي ظهر في برنامج تلفزيوني متحدثاً عن أنه اعتدي عليه من قبل الطلاب في دار الأيتام قبل 12 عاماً، أراد من ظهوره السابق أن يقيم عرضًا واليوم كذلك يريد الظهور“.وبلغة التحقيقات البوليسية، يفيد هذا الكلام اتهاما للملاح بأنه المحرض الأساسي على اعتراض سيارة الوزير. وقد تأكّد هذا التوجّه الانتقاميّ للوزير من خلال حمأة تهديداته اللاحقة. ف”اذا الدولة لم تأخذ حقّي فأنا أعلم كيف آخذه، أنا لست سهلاً ولن أسكت، لا يُرهبني أحد، والنفايات التي رشقني بها هؤلاء الناس أشرف منهم“.ولا يجد المراقب تفسيراً لهذه التهديدات التي لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الحادثة وخلفياتها، الا من خلال المواجهة الحاصلة بين الوزير والملاح وما ولّدت لدى الأول من مشاعر رفض وإنكار وربما رغبة جامحة في التخلص من شبح الضحية التي تجرأت في الإنتقال من مرحلة المطالبة عن بُعد (على الاعلام أو في القضاء) إلى مرحلة شهر الحقّ وجهاً لوجهونجحت ولو للحظة في اجتياح الجدران العالية التي كان أحاط نفسه بها.
ومن هذه الزاوية، يتبدّى أن الإعتداء على السيارة من قبل متظاهرين (وهو أمر حصل مع سيارات حكومية عدة) لم يكن سبب ملاحقتهم، انّما الحجة (الغطاء) التي سمحت للوزير أن يطلق مشاعر النقمة ضدّ الملاح. وهذا ما تظهره مجريات التحقيق والتي تظهر توجّها نحو التعامل مع المواجهة التي فرضها الملاح على أنها دليل جرمي. بالمقابل، بدا الوزير زاهياً ومفاخراً بما لديه من إمكانات في الدولة وخارجها، تجعله قادراً على الحصول على ما يريد.
وبذلك، اكتست قضية الملاح رمزية هائلة: فمن جهة، مواطن عادي يتجرأ على شهر حقه في وجه وزير فيصطدم بقمع مدوّ، ومن جهة أخرى، نافذٌ يتبجح بتمتعه بحقوق استثنائية وبقدرته الفائقة على تجييش أجهزة الدولة خدمة لرغباته.
حين أصبحت مطالبة المواطن بالحق دليلاً جُرمياً
ما سأسعى الى برهانه هنا هو أنّ التحقيق الأولي من قبل “شعبة المعلومات” تعامل مع المواجهة الكلامية التي فرضها الملاح على أنها دليل جرمي. وهذا ما نستشفه من خلال تركّز التحقيق على أمرين اثنين:
الأول، صحة تفوهه بعبارة (الي عندك حقّ). وقد تمّ استجوابه بشأنها ثلاث مرات متتالية وكأنما المحقّق يستشفّ من إقراره بذلك إثباتاً على ارتكابه جرم ما بحق الوزير. واللافت أن إعادة استيضاحه بهذا الشأن تمّت رغم إقرار الملاح بها منذ مباشرة الإستماع اليه ومن تلقاء نفسه. واذ خلا الملف من أي إثبات على حصول أي اعتداء لفظي أو جسدي آخر من قبل الملاح، لا يمكن تفسير ادعاء النائب العام الاستئنافي في بيروت عليه بجرم التحقير والذم إلا من خلال الإستناد الى هذه العبارة (ص.36). فأن يقول مواطن لوزير: الي حق عندك، انما يشكل وفق منطق النيابة العامة على ما يبدو تحقيراً وذماً… وبالدارجة “تطاولاً” لا يجوز التسامح معه.
الأمر الثاني تمثل في التعامل مع هذه الواقعة على أنها دليل على نية الملاح الجرمية وربما على سابق تصوّر وتصميم لديه للإعتداء على الوزير وسبب أساسيّ لإبقائه موقوفا لثلاثة أيام. وهذا ما نستشفه من كمّ من الأسئلة الموجهة إلى الملاح نفسه أو إلى الشبان الموقوفين معه. ومن الأسئلة الموجهة الى الملاح: “لدينا معلومات تفيد أنك قمت بحثّ المعتصمين على مهاجمة سيارة الوزير درباس بعد علمك أن السيارة عائدة له وأنه موجود داخلها”. ومن الأسئلة الموجهة الى الموقوفين الآخرين، أسئلة تضمنت بحد ذاتها فرضية أن الملاح هو المحرض على اعتراض السيارة: “أخبرنا عن الشخص الذي دفع المتظاهرين الى التوجه الى سيارة الوزير” (ص 11). وقد بدت هذه الفرضية شديدة الوضوح عند استجواب بو زين الدين. فاذ أجاب عند سؤاله: “من كان يقود تلك المظاهرة؟” بأن الحادثة كانت عفوية نافيا معرفته بالمدعو طارق الملاح، عاد المحقق ليسأله: “هل أنت على معرفة بهوية الشخص الذي قام بتحريض المتظاهرين على التهجم على السيارة السوداء والتي كانت تقل الوزير درباس؟”
واللافت أن المحققين خصصوا جزءا هاما من أسئلتهم للتحقق مما اذا كان الملاح محرضا، رغم تعارض هذه الفرضية مع أفلام الفيديو والتقارير الأمنية الواردة إليهم بل حتى مع إفادات مرافقي الوزير نفسه. وعلى الرغم من سقوط هذه الفرضية بالكامل، يصعب تفسير موقفي النائبين العامين التمييزي والاستئنافي في إبقاء الملاح قيد الاحتجاز، بمعزل عن حمأة الوزير ضد الملاح الذي تجرأ على مواجهته وفقاً لما تقدم.
وما يعزّز الإعتقاد باستهداف الملاح أنه رغم مسارعة النيابة العامة الى إعطاء إشارة بتوقيف ثلاثة شبان آخرين، فإنها لم تقم بأي جهد لملاحقة سائر الأشخاص الذين ظهرت صورهم في فيديو التعرض لسيارة الوزير، على الرغم من أن أسماء بعضهم وردت في تقرير أمنيّ عن الحادثة تم ضمه الى الملف. فكأنما الملاحقة هدفت في أساسها إلى قمع الملاح وتم توقيف أشخاص آخرين لتوفير أدلة على تورطه في التحريض على الوزير درباس، فإذا سقطت هذه الفرضية بفعل الأفلام (ومنها الفيلم المصور من الملاح نفسه)، فقدت النيابة العامة حماستها للتعرف على سائر المشاركين في حادثة التعرض أو لمزيد من التحقيق في هذه القضية.
وإلى جانب ما تكشفه هذه القضية لهذه الجهة، فإنها تكشف بعداً آخر لا يقل خطورة وهو المنحى الإستثنائي الذي تأخذه التحقيقات عند حصول إعتداء على أحد كبار القوم والذي يقارب المنحى القمعي بكل ما للكلمة من معنى. فأن يتجرأ مواطن على المطالبة بحق مناوئ لمصالح النظام يوجب ردّ فعل مناسباً يؤدي بالنتيجة الى إخراسه. وثمة ضرورة اذا في استنفار ترسانة السلطة كاملة في مواجهة هذا التمرّد.
أصول تحقيق استثنائية في قضايا كبار القوم
تتكشف هذه الأصول الإستثنائية بداية مع وضع النيابة العامة التمييزية من خلال النائب العام التمييزي نفسه يدها على الملف. وهذا الأمر إنما يكشف عن ممارسة طويلة مفادها تحوّل النيابة العامة التمييزية إلى نيابة عامة إمتيازية. فهي تعمد الى التحقيق في أي شكوى يقدمها أحد أصحاب النفوذ بمعزل عن مدى خطورتها. وبذلك، نصبح أمام وضع تمييزي واضح: فلكبار القوم نيابة عامة تحقق في شكاويهم بكل ما لديها من أدوات ونفوذ، فيما يتعين على سائر المواطنين اللجوء الى النيابات العامة الإستئنافية التي تحقق في شكاويهم وفق الأصول العادية. وعليه، رأينا النيابة العامة التمييزية في صدد التحقيق في الشكاوى المقدمة من هذا القائد أو ذاك أو هذا الحزب أو ذاك، والمتصلة بجرائم قدح أو ذمّ، وهي من الجرائم الأقل خطورة بطبيعتها.
ومن هذه الزاوية، تشكل القضية المعروضة أمامنا أحد النماذج الفاقعة على هذا التمييز القضائي. ولا يغير من ذلك شيء أن قانون أصول المحاكمات الجزائية يولي النيابة العامة التمييزية صلاحية شاملة للتحقيق في أي ملفّ قبل إحالته الى النيابة العامة الإستئنافية. فالتطبيق الصحيح لهذا القانون يفرض تفسير إختصاصها على النحو الذي يجعله متوافقاً مع مبدأ المساواة أمام القانون، مما يفرض على النيابة العامة التمييزية إعتماد معايير لتدخّلها أو عدم تدخّلها، أهمها معيار خطورة الجرم موضوع الشكوى.
الأخطر من ذلك هي سائر أصول التحقيق المتبعة. فالشعبة التي تولّت التحقيق هي شعبة المعلومات التي أنشئت أصلاً كي تتولى التحقيق بجرائم خطيرة كجرائم الإرهاب. واذ اعتادت هذه الشعبة على تجاوز أصول التحقيق الأولي مع المتهمين بالإرهاب، فإنها لم تجد حرجاً في اعتماد التجاوز نفسه في هذه القضية. فتم إجراء التحقيق مع الشبان واقتيادهم الى قصر العدل وهم معصومو الأعين. وقد طلب منهم التوقيع على إفاداتهم من دون قراءتها أو تلاوتها عليهم. وفيما عدا اتصال مقتضب مع الأهل لإعلامهم بحصول التوقيف، تم منعهم من أي تواصل خارجي، وبشكل خاص من أي تواصل مع محام. كما مُنع من جهة أخرى محام حائز على وكالة الملاح من مخابرته بما يشكل خروجاً تاماً عن أصول المادة 47 من قانون المحاكمات. وعليه، تمت التحقيقات كلها وفق أصول خاصة جداً. هذا دون الحديث عن تعرية الشبان بحجة تفتيشهم أو إجراء فحوصات المخدرات عليهم والتعرض النفسي لهم وفق ما تم توثيقه من شهادات.
نشر هذا المقال في العدد | 31 | أب/ أغسطس 2015، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
معارك النفايات المتشعبة: حَيَّ على الفرز
[1] إفادة سائق الوزير غسان عيوشي، (ص. 29). وأيضا إفادة مرافقه بسام ستوت (ص.33).