خلف شعار “بلد الحريّات”، انتهاكات جسيمة تطال العاملين في الإعلام وانعدام للأمان الاقتصادي والوظيفي أكدتها دراستان للصحافيتان والناشطتان دجى داود وناي الراعي لصالح تجمّع نقابة الصحافة البديلة وبدعم من مؤسسة “فريدريش إيبرت”. وأتت الدراستان اللّتان أُطلقتا في اليوم العالمي لحريّة الصحافة في 3 أيّار من معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، في سياق يشهد فيه لبنان انتهاكات عديدة لحريّة الصحافة وحريّة الرأي والتعبير واتجاهات أكثر وضوحًا لقمعها. ففي الآونة الأخيرة تمّ استدعاء صحافيين أمام الأجهزة الأمنيّة وأدخلت نقابة المحامين تعديلات على آداب المهنة تفرض عليهم الإذن المسبق قبل الظهور الإعلامي، قبل أن يصدر وزير العدل هنري خوري تعميمين يُقيّدان حريّة القضاة في الظهور الإعلامي والسفر والتواصل مع هيئات حكومية وغير حكوميّة.
حملت الدراسة الأولى عنوان “الحرّيات الإعلاميّة في لبنان، صراعٌ على الهامش“، والثانية “العاملون والعاملات في القطاع الإعلامي في لبنان انعدام أمان ثلاثي الأبعاد: معيشي – جسدي – نفسي“، وتطرّقت الأولى إلى الانتهاكات التي يتعرّض لها الصحافيون والصحافيات في لبنان والجهات المنتهكة لها عبر مسح ومقابلات وشهادات لعاملين في المجال الإعلامي بشكل يُعرّي الخطاب الذي يوهم بوجود سقف عالٍ من الحريّات في لبنان عبر تقديم الوقائع والأرقام. وتطرّقت الدراسة الثانية إلى الأوضاع الاقتصادية للصحافيين والصحافيات في ظلّ الأزمة الاقتصادية وحالات الصرف التعسّفي التي حصلت نتيجة لذلك كما غياب الأمان الجسدي والنفسي داخل المؤسسات الإعلامية. وأطلقت الدراستان من معهد العلوم السياسية في جامعة القدّيس يوسف، في دلالة على تبنّي هذا الصرح لحريّات كرسالة إنسانيّة، حسبما أوضح مدير معهد العلوم السياسية د. سامي نادر. ولفت نادر إلى أنّ “الجامعة تتمسك بحريّة الإنسان والأفراد والكرامة الانسانية، وتحديداً حريّة الإعلام التي وقع ضحيتها إبن جامعة القديس يوسف الصحافي سمير قصير”. وحذّر من أنّ هذه “الرسالة تواجه مخاطر جرّاء نظام المحاصصة الذي يتناتش على المساحة الإعلاميّة كما فعل بالمساحة السياسية والاقتصادية”. وقدّمت المؤتمر الصحافيّة إليسار قبيسي، فيما أدارت الحوار مديرة موقع “درج” الصحافيّة ديانا مقلّد بحضور ومشاركة المديرة التنفيذية لجمعيّة سيدز المحامية منال صقر ومنسقة تجمّع نقابة الصحافة البديلة الإعلاميّة إلسي مفرّج.
“الحرّيات الإعلاميّة في لبنان، صراعٌ على الهامش”
بحثت دراسة “الحرّيات الإعلاميّة في لبنان، صراعٌ على الهامش” التي نفذتها الصحافية دجى داود، في خمسة مفاصل تتصل بالحريّات الإعلامية، وهي احترام حريّة الإعلام والتمويل وإملاءاته، الانتهاكات ومرتكبيها ونتائجها، المشاكل البنيويّة للإعلام وتنظيم الإعلام و الحماية والوصاية.
وخلصت الدراسة إلى أنّ الحريّة في لبنان هي “هامش” انطلاقًا ممّا أجمعت عليه معظم الآراء التي استطلعتها من 127 من العاملين في القطاع الإعلامي عبر استبيان إلكتروني. وأوضحت دجى داود في كلمتها أنّ مساحة هذا الهامش “تختلف بحسب الظروف التي تمرّ بها البلاد، فيما لم يغفل أغلب من شملتهم الدراسة على أهميّة النضال من أجل توسيعه”.
وركّزت داود في الدراسة وخلال حديثها في الحوار على خطورة استمرار ملاحقة الصحافيين جزائياً بموجب مواد تتضمن عقوبة الحبس، واستسهال ملاحقتهم بسبب عملهم الصحافي خصوصاً في قضايا الفساد، بالإضافة إلى ملاحقتهم المستمرة بتهم القدح والذم والتشهير، مشددة على أنّ هذه جميعها من أشد القيود على الحرية الصحافية.
احترام الحريّات
وأوضحت داود أنّ الدراسة وجّهت سؤالًا موحدًا إلى جميع الّذين قابلتهم وهو “هل تؤمنون بوجود حريّات إعلامية في لبنان؟” كان الجواب بنسبة 69% أنّه “لا يوجد حريّات إعلاميّة في لبنان”. ومن هنا لفتت إلى أنّ المقارنة بين لبنان والدولة المجاورة التي تحكمها أنظمة استبدادية لا تعطي صورة حقيقيّة عن الحريّات معتبرة أنّ “المقارنة بالأسوأ لا تعني أنّنا بخير بينما المقارنة بالأفضل تُظهر كم نحن سيّئون”. وشرحت أنّ “أبرز المعوّقات أمام الحريّات هو التمويل الذي هو بمعظمه تمويل سياسي يسيطر عليه سياسيون ومصارف وأحزاب وفاعلون ونافذون ومؤثرون بالعمل السياسي في لبنان، وخلصت إلى التأكيد على أنّ “الحرية هي مجرّد وهم في لبنان”. وأضاءت على وسائل إعلام جديدة تحاول تأمين تمويل غير مشروط عبر مصادر مختلفة تُركّز على البرامج ومرتبطة باختصاصها.
ومن أخطر النتائج التي أبرزتها الدراسة، أنّ 75% من المشاركين قالوا إنّهم تعرّضوا لأحد أنواع القمع، وعددت داود أبرز الانتهاكات التي تمثلت بالمنع من التغطية أو الاعتداء الجسدي ووصلت إلى التهديد والترهيب والرقابة والابتزاز والقرصنة والتحريض الالكتروني. وأوضحت أنّ “التهديدات التي يتلقاها الصحافيون عبر الوسائل الإلكترونية تستهدفهم أيضًا على أرض الواقع”. وفي رد ضمني على تصريحأخير لنقيب المحررين جوزيف قصيفي، انتقدت داود الخطاب الذي يعتبر أنّ “شهداء الصحافة هم دليل على الحريّة، بينما الاغتيالات التي حصلت على مرّ 150 سنة على لبنان مستمرة، وآخرها اغتيال الإعلامي لقمان سليم”. واعتبرت أنّ نتائج هذه الانتهاكات أودت بعدد من الصحافيين إلى ممارسة الرقابة الذاتية ما يُشكّل خطرًا على حرّيتهم ويُساهم في غياب المحاسبة وتكريس الانتهاكات وتعزيز نتائجها، كما يسبّب آثارًا نفسية عليهم كالصدمة ويؤدي أيضًا في بعض الأحيان إلى الخوف من ممارسة المهنة والاعتكاف عنها نهائيًا.
الرقابة الإداريّة أسوأ أنواع الانتهاكات
المثير للاهتمام في نتائج هذه الدراسة أيضًا أنّها توصّلت إلى أنّ أبرز الجهات التي تمارس رقابة على الصحافيين هي إدارية. وأعطت مثالًا عن “كثر يواجهون عدم نشر مواد صحافية بعد إنجازها بسبب هذه الرقابة، أو تشويه التقارير التي ينجزها الصحافيّون أو عدم إشراك المصوّرين الصحافيين في القرار التحريري”. ولفتت إلى عائق آخر يقف أمام حريّة الصحافة يتمثل برهاب المثلية والميسوجينية (كره النساء) كما العنصرية. كما تُمارس المؤسسات الرقابة الذاتية، فتغيب عنها الاستقلالية، ويواجه الصحافيّون مشكلة الوصول إلى المعلومات التي تفرض على الصحافيين علاقات مع سياسيين أو انتماء معيّنًا.
وفي الفصل الأخير من الدراسة، ظهر الشرخ الكبير بين العاملين في الإعلام والنقابات المهنيّة والهيئات التي تمثّل الإعلام، كوزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام، إذ اعتبر 53.5% أنّ دور نقابة المحررين ونقابة المرئي والمسموع ونقابة المصوّرين والمجلس الوطني للإعلام “سيّئ”، فيما رأى 42.2% أنّ لا دور لها. واعتبر فقط 6.3% أنّ أداءها جيّد.وشرحت داود أنّه “يوجد خمس نقابات في لبنان للصحافة، ودائمًا تطال التجمّع انتقادات أنّه شرذم العمل النقابي فيما الحقيقة أنّ التجمّع يجمع جميع العاملين في الصحافة على مختلف اختصاصاتهم بدلًا من التقسيم الحاصل في النقابات المتعددة المقسّمة طائفيًا وسياسيًا. وشرحت أنّ 97.6% اعتبروا أنّ النقابات هذه لا تمثّلهم”.
العاملون والعاملات في القطاع الإعلامي في لبنان انعدام أمان ثلاثي الأبعاد: معيشي – جسدي – نفسي”
واجهت الصحافيّة ناي الراعي منذ اللحظة الأولى رفض مُعظم الّذين قابلتهم الكشف عن أسمائهم الحقيقيّة، خلال تنفيذ الدراسة التي حملت عنوان “العاملون والعاملات في القطاع الإعلامي في لبنان انعدام أمان ثلاثي الأبعاد: معيشي – جسدي – نفسي”، ما يؤشر على تقييد حريّة الصحافيين في التعبير. وقابلت الراعي 21 صحافيًا وصحافية، من بينهم 19 رفضوا ذكر أسمائهم الحقيقيّة أو اسم المؤسسة التي يعملون فيها، واعتمدت أيضًا على الاستبيان الإلكتروني الذي اعتمد في الدراسة الأولى.
وأوضحت الراعي أنّ الدراسة ركّزت على أوضاع العاملين في المؤسسات الإعلاميّة بعد الأزمة الاقتصاديّة في فترة العامين 2019 و2021، وتتطرق إلى الأمان المعيشي والجسدي والنفسي للعاملين والعاملات في المجال الإعلامي. ومن التحديّات التي أشارت إليها الراعي وواجهتها الدراسة هي غياب المعلومات عن أعداد العاملين في الإعلام، مشيرة إلى أنّ انتخابات نقابة المحررين الأخيرة كشفت عن وجود 900 صحافي على جداول النقابة، علمًا أنّ هذا لا يعكس الواقع بسبب وجود خمس نقابات فيما يوجد الكثير من الصحافيين الّذين لا ينتمون لأي نقابة أو تجمّع”.
وفي المنحى الاقتصادي، أظهرت الدراسة أنماطًا متعددة للأوضاع الاقتصادية للصحافيين والصحافيّات، إذ برز لديهم شعور بانعدام الأمان الاجتماعي والاقتصادي والوظيفي ناتج بالدرجة الأولى عن انخفاض قيمة الرواتب مع الأزمة الاقتصادية، حيث قال 53% من المشاركين في الاستبيان إنّهم في تلك الفترة كانوا يتقاضون راتبًا شهريًا يبلغ 6 ملايين ليرة لبنانية أو أقل. وأكد معظمهم أنّ المؤسسات لم تمنح زيادات على الرواتب بالليرة طيلة سنة بعد الأزمة الاقتصادية، فيما كانوا يتقاضون رواتبهم إمّا متأخرة أو كانوا يتقاضون نصف راتب. هذا بالإضافة إلى إغلاق بعض المؤسسات بما يعنيه ذلك من تشريد موظفيها أو إقدام غيرها على تسريح موظفين أو طردهم تعسفيًا. كما أنّ هذا الواقع الاقتصادي بحسب الراعي ينطبق على “العاملين بدوامات حرّة، (فريلانس) وهم يشكلون 36% ممَّن شملتهم الدراسة، وهؤلاء لا يتمتعون بأي أمان مادي لتغطية كلفة عملهم من ناحية الاتصالات والمواصلات كما الضمان الاجتماعي والتغطية الصحيّة وطوارئ العمل”.
وشرحت الراعي أنّ إدارة المؤسسات لا تواجه موظفيها بالمعلومات حول الرواتب، وهوية أصحاب المؤسسات الذين يجب مراجعتهم في خصوص الرواتب أو الصرف التعسفي، كما تتعمّد تجهيل المموّل، كما لا تصارحهم بأي خطوات مستقبليّة، كحال إحدى وسائل الإعلام التي علم موظفوها أنّها ستُغلق أبوابها، من خلال خبر ورد في جريدة محليّة.
الأمان الجسدي مفقود
ورصدت الدراسة افتقاد الصحافيين الأمان الجسدي وهو المنحى الثاني الذي ركّزت عليه. وأكدت الراعي أنّ “72% من المشمولين بالدراسة يعتبرون أنّ مؤسساتهم غير حريصة على سلامتهم”. وشرحت أنّ “المؤسسات لا تخضع الصحافيين للتدريب عن كيفيّة تغطية الأحداث التي تشهد عنف التظاهرات أو البيئة العدائية، كما لا تؤمن لهم مستلزمات الوقائية كالخوذ والسترات الواقية”.
وأمّا بالنسبة للمنحى الثالث وهو الأمان النفسي فتوصّلت الدراسة إلى أنّ “52% من الصحافيّات تعرّضن للتحرّش في مكان العمل، ومعظم الصحافيّات يصنّفن المجال أنّه “مُقصٍ” للنساء”. ولفتت الراعي إلى أنّ 20% من الّذين شملتهم الدراسة سمعوا عن تعرّض زميلات للتحرّش.
وشدّدت الراعي على أنّ المؤسسات تفتقر لسياسة واضحة تجاه التحرش، كما أنّها لا تتبنى إجراءات للدعم النفسي بخاصّة بعد الأحداث التي تؤثر على الصحّة النفسيّة للصحافيين، كالاشتباكات المسلحة أو الأحداث الأمنية أو تفجير مرفأ بيروت.
الحريّات بين القضاء والقانون
خلال الحوار الذي دار بعد عرض نتائج الدراسات، ذكّرت المديرة التنفيذيّة لجمعيّة “سيدز” المحاميّة ليال صقر بأحكام قضائية رائدة كرّست أهميّة حريّة الرأي والتعبير، من بينها الحكم الصادر في قضيّة دعوى نقابة المحررين ضدّ تجمّع نقابة الصحافة البديلة أمام قاضي الأمور المستعجلة في بعبدا إلياس مخيبر. إذ قضى الحكم برد طلب نقابة المحررين مؤكدًا أنّه “لا يجوز للقاضي أن يضع أحكامه بصيغة الأنظمة”. وأكدّت صقر على أهميّة حريّة الرأي والتعبير في الوقت الذي يوجد فيه مواد قانونيّة في قانون العقوبات تُستخدم بوجه هذه الحريّة كتجريم التجديف والقدح والذم والمسّ بالشعائر الدينيّة ووحدة الطوائف. وشرحت أنّ “هناك قيود ثقافية واجتماعيّة تمنع من انتقاد المقامات والسياسيين ورجال الدين”. ولخّصت واقع الحريّات بالقول “كنّا في ديمقراطية هجينة واليوم أصبحنا في ظلّ نظام استبدادي”.
ومن جهتها سألت منسقة تجمّع النقابة الصحافة البديلة إلسي مفرّج “إنْ نحن (كصحافيين) سكتنا من الذي سيحكي عن جريمة المرفأ، من الذي سيتناول قضايا الفساد، من الذي سيطالب بالكشف عن مصير مفقودي الحرب اللبنانية وغير ذلك من مطالب أساسية”، مشدّدة على أهمية توفّر الأمان للصحافيين ليؤدوا هذا الدور. لهذا السبب وجد تجمّع نقابة الصحافة البديلة ليؤمّن مساحة أمان للصحافيين والعاملين في المؤسسات الإعلاميّة. وأكدّت مفرّج أنّ التجمّع تمكّن من تكريس دور في التوعية على الحقوق والدعم القانوني في القضاء كما في التفاوض مع المؤسسات الإعلاميّة في إطار إحقاق حقوق الصحافيين. وأكّدت أنّ التجمّع لديه تحفّظاتعديدةعلى اقتراح قانون الإعلام الجديد الذي تضمّن عقوبات بالحبس على الصحافيين، مؤكدة أنّ التجمّع ينسّق مع منظمة الأونيسكو حول مسودّة قانون جديد تعمل عليها المنظّمة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.