العمل على تشجيع الحكومة اللبنانية لقبول توصيات الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان، هي الخلفية التي تم على أساسها تنظيم مؤتمر وطني تحت عنوان تقارير "حقوق الإنسان الدورية الشاملة للعام 2015". وكان يفترض بالـ “مؤتمر الوطني"، الذي عقد يوم أمس الخميس أن يكون جامعاً بين السلطات المعنية، التشريعية ممثلة بالنواب والتنفيذية بوزير الخارجية، وبينها وبين المنظمات غير الحكومية. غير أن واقع اهتمام السلطات بحقوق الإنسان، وهو أمر تعكسه التوصيات المتزايدة مع السنين، ترجم غياباً شبه تام للسلطة. ليتحول المؤتمر الى استعراض مكرر وتداول متأخر بالمطالب والتوصيات بعيداً عن مسامع المسؤولين.
والحال أن الحضور الرسمي الوحيد الذي يظهر شيئاً من الجدية، اقتصر على مديرة المنظمات الدولية بالإنابة في وزارة الخارجية والمغتربين، ممثلةً لوزير الخارجية جبران باسيل، عبير طه. أما بالنسبة للقلة من النواب الذين حضروا، فقد انسحبوا تباعاً، بنفس الهدوء الذي حضروا فيه، وذلك قبل بلوغ الجلسة الأخيرة من المؤتمر حتى. ويسجل لهذه الناحية استثناء للنائب سامي جميل الذي حضر الجلسة الأخيرة من المؤتمر حصراً، ولم يكن أحداً ليلحظ حضوره لو لم تشير ممثلته أنها موجودة لهذه الغاية. ففي مداخلة وحيدة لها، بررت لـ "الجميل" غيابه لأسباب أمنية.
وإن كانت أولى الملاحظات تتعلق بفداحة الغياب الرسمي عن المؤتمر. فإن ثانيها يصب مباشرةً في مقاربات هذه السلطة لقضاياحقوق الإنسان. وقد برز خلال المؤتمر مقاربتين، أولهما مقاربة السلطة، وهي ذات طابع أمني بالدرجة الأولى، تجنح الى الربط بين وجود اللاجئين السوريين والحالة الامنية، والى تحميلهم ثقل كل أشكال فشلها ونتائج تقاعسها. وأهم ما في هذه المقاربة هو التوجه نحو "الحفاظ على صورة لبنان أمام المجتمع الدولي". يقابلها مقاربة المنظمات غير الحكومية التي تربط تفاقم المشكلة بشلل المؤسسات الدستورية بشكل خاص. وفي تفاصيل المقاربتين، يظهر الشكل التقليدي للعلاقة بين السلطة والمنظمات المدنية، التي تدور في فلك إشكالية "الأمن أم الحقوق؟". والحال أن الواقع الأبرز الذي يعكسه المؤتمر هو مراوحة الحقوق مكانها، وكذلك الأمر بالنسبة لعلاقات السلطة والمنظمات غير الحكومية.
تكرر السلطة نبذها لرأي المنظمات غير الحكومية وتعبيرها عن عدم اكتراثها لموضوع حقوق الإنسان في تغيّبها عن المؤتمر. ذلك أن هذا الحدث كان يفترض ان يكون أساسياً بالنسبة للسلطة، لتبني عليه قبولها التوصيات من عدمه قبل آذار المقبل، الموعد الأخير لإنهاء دراستها للتوصيات. غير أن السلطة تعبّر عن عدم اكتراثها بوضوح مطلق. وتغيّبها ليس التعبير الأول الصادر عنها، حيث يوضح المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية زياد عبد الصمد، كيفية تعامل الحكومة خلال مراحل إعداد التقرير. وقد اعتبرت وقتها أن "لا شيء يلزمها إطلاع جمعيات المجتمع المدني على التقرير" وقد بقي "سرياً الى أن نشر على الموقع اللجنة الدولية لحقوق الإنسان قبل أسابيع على مناقشته".
من بين النواب الذين حضروا في المؤتمر، رئيس اللجنة النيابية لحقوق الإنسان ميشال موسى. يستهل موسى كلمته بالقول "كنا نتمنى شراكة أفضل بين مجلس النواب ولجنة حقوق الإنسان". ليقول بالمعنى الأبعد أن مجلس النواب كهيئة عامة لا تتعاون حتى مع لجانها، وامتناعها لا يتعلق فقط بالمجتمع المدني. وهكذا ينسحب التمني نفسه على مطلقه، فتتمنى الجمعيات لو تعاونت لجنة حقوق الإنسان أكثر،الأخص بعدما تبين أن النواب رحلوا بعد أداء أدوارهم بإلقاء كلماتهم. وكأنهم يقولون إن الكلام الأول والأخير لهم، والقرار محصور بهم، وباقي ما تبقى كلام، وللجمعيات حرية الكلام في المجالس المغلقة.
يجد موسى كغيره من ممثلي السلطة أن "قبل الكلام عن الحقوق، نجد أن مقدمة هذه الحقوق هي الحقوق السياسية العامة المنتهكة من خلال تعثر الحياة السياسية". بالطبع موسى لا يتكلم هنا عن تمديد المجلس لنفسه، بل فقط عن مجلس النواب الذي "لا يجتمع الا بعملية قيصرية". "فيما تنتظر الكثير من القوانين تتعلق بحقوق الإنسان إقرارها وأولها إنشاء هيئة مستقلة لحقوق الإنسان" لا يغيب عن بال موسى التطرق لـ “الأوضاع الإقليمية والأزمة السورية…". غير أن "الصورة السوداوية" وفقاً له، لا تعفي أحداً من القيام بواجباته. موقف إيجابي لولا عودة موسى الى المحاذير. ذلك أن "بعض الأمور" التي لم يحددها، "تتطلب جهود كبيرة غير متوافرة في ظل التعثر والإرباك والظروف الأمنية والعنيفة التي تضرب المنطقة". بالمقابل، يسجل موسى اعتراف بوجود "أمور تتطلب جهداً بسيطاً في تطبيق القوانين التي أقرت كتنفيذ القانون الخاص بذوي الإعاقة 220/2000).
ويصح القول إن هذه المقاربة الأمنية كانت الألطف. ذلك أن الطرح الأكثر تكراراً من جهة السلطة يختصر بفكرة مفادها أن "لبنان قام بواجبه الإنساني باستقبال النازحين والحفاظ على كراماتهم، وأنه على الرغم من ثقل الأزمة على كاهل لبنان، وشح التقديمات التي حصل عليها في هذا المجال، وعلى الرغم من أن النزوح السوري يهدد وجود لبنان وكيانه وأمنه وتوازنه الديمغرافي، فإن الدولة لم تبعد أي من النازحين الذين قد يتعرضون لمخاطر جسدية في بلدهم".
مقاربة طرحها موسى، ولم تكف طه عن تكرارها في مداخلاتها، تشكل المبرر الأساسي للدولة أمام الأمم المتحدة. وهي محاولة للإيحاء أنه لولا النزوح السوري في لبنان لكان تطور حقوق الإنسان يسير على قدم وساق. ولكن لا بد من التأكيد على كمّ المغالطات الهائل التي تنطوي عليه هذه المقاربة. فالدولة وإن كانت لا تصدر قرارات إبعاد صريحة، الا تعمل على إبعاد النازحين بصورة منظمة من خلال نظام الإقامات الذي استحدثته عام 2014. والحال أيضاَ أن الاعتقالات اليومية التي تتم تحت عنوان مكافحة الإرهاب لا تخضع لرقابة جدية، لا سيما في ظل التباطؤ في محاكمة هؤلاء الى الحدود القصوى. أما تحمل الدولة لثقل وجود النازحين، أمر قد يطول نقاشه، وكان للسنتين الماضيتين موضوع ثبات وإثبات مضاد من خلال التقارير الاقتصادية والاجتماعية التي تتناول أحوال اللاجئين في لبنان.
أما الإجابة الأوفى، فقد تكون من خلال ما أوضحه عبد الصمد. ذلك أن أوضاع حقوق الإنسان في لبنان في حالة من المراوحة "منذ 5 سنوات". فالتوصيات التي تلقاها لبنان منذ 5 سنوات يتلقاها نفسها اليوم. والمعنى أن حالة حقوق الإنسان كانت منذ ما قبل الـ 2010 متدهورة، وأن التوصيات التي تلقاها لبنان سابقاً ويتلقاها نفسها الآن، تتعلق بفترة ما قبل الأزمة السورية حتى. يعلق عبد الصمد على تقرير الدولة أمام الأمم المتحدة معتبراً إياه "دون التوقعات في بلد تنتهك فيه الحقوق، لا سيما لناحية ما جاء فيه عن تنفيذ لبنان لـ 69 توصية من توصيات العام 2010، وهو كلام يحتاج الى الكثير من التدقيق".
العرض الذي قدمه عبد الصمد حول تقرير الحكومة، بالإضافة الى مداخلة طه، التي تمحورت حول "أبرز إنجازات الدولة على مستوى حقوق الإنسان". يفضحان تعامل الدولة مع "صورة لبنان" كأولوية تتقدم حتى على الأمن، وبالتالي على الحقوق. فهذه السلطة على ما يبدو، تنظر للاستعراض الدوري على أنه مساحة تختلق فيها الدول صورة لنفسها، وليس مساحة مراقبة ومتابعة وتطوير بأي شكل من الأشكال.
أخيراً، تستحق بعض المداخلات أن يلقى الضوء عليها لما تحمله من دلالات. فمثلاً، قد تطالب ممثلة وزير الخارجية عرضاً ضمن سلة من المطالب التي طرحتها تتعلق بحقوق المرأة بـ “إلغاء جريمة الشرف"، الملغاة أصلاً منذ زمن. هذه السقطة أو الهفوة، وهي دليل على حجم المتابعة للقضايا الحقوقية من قبل السلطة تبدو بسيطة أما ما ورد في مداخلة أخرى لطه نفسها. وفي إطار ما سمّته "سمعة لبنان حكومةً ومجتمع"، اعتبرت أن الإعلام والمنظمات تلقي الضوء على حادثة التعذيب في سجن رومية التي سربت فيديوهاتها، بينما لا تهتم بنفس الزخم بحادثة ضرب السجناء في رومية للدرك. وفي هذا الإطار لم تنسَ طه أن تشير الى أن "السجناء برومية منن ملايكة، وعندن أيباد وتلفون وبخططوا لعمليات من داخل السجن…".
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.