خمسُ سنوات بعد رحيل لينا: أثر الفراشة لا يزول


2025-01-27    |   

خمسُ سنوات بعد رحيل لينا: أثر الفراشة لا يزول

في 26 جانفي 2020، تَلقّت لينا بن مهنّي خبر وفاة أستاذها الطّاهر اللباسي الّذي أطّرها في مرحلتَيْ الأستاذيّة والماجستير في كليّة 09 أفريل، اختصاص الألسُنيّة في اللغة الانغليزيّة. بكت لينا أستاذَها بحُرقة وأصرّت أن يذهب والدها ليؤدّي واجب العزاء للعائلة في حدود الساعة الثامنة والنصف ليلا، وظلّت هي في البيت، مُلتصقةً بوالدتها آمنة التي كانت تداعب خصلات شعرها، إذ كانت حالتها الصحّية حرجة في ذلك الوقت ولا تسمح لها بمغادرة المنزل. لم تنتظر لينا كثيرًا حتّى تلتحق بأستاذها، بعد أن تعكّرت صحّتها وتوجّهت إلى مستشفى شارل نيكول بالعاصمة، لتلفظ أنفاسها هناك، في ساعة مُبكّرة من يوم الاثنين 27 جانفي 2020.

نزل الخبر كالصاعقة على أصدقائها ورفاقها وعائلتها، خصوصًا وأنّ والدتها آمنة كانت قد عادت إلى المنزل، بعد أن رافقتها إلى المستشفى، لتُعدّ لها بعض القهوة و “البرودو”، وفق الحِمْية الغذائية التي دأبت على اتّباعها منذ كان عمرها 12 سنة، عندما أُصيبت بالذئبة الحمْراء، التي أضرّت بأعضائها الحيويّة. تقول والدتها للمفكرة القانونية: “إنّ لينا قبلت طواعية أن تذهب إلى المستشفى في تلك الليلة، على غير عادتها، في حدود الرابعة فجْرًا، وصعدت سلالم المستشفى بطريقة عاديّة، وكانت تمزح معَها ومع الأطبّاء والممرّضين الّذين تعوّدوا على زيارات لينا للعلاج، مرّة كلّ شهر تقريبًا”.

طفولة في عائلة مناضلة

نشأت لينا في عائلة مناضلة، حيث كان والدها الصادق بن مهنّي مناضلا يساريًّا قضى ستّ سنوات بين سجون 09 أفريل وبرج الرومي وأقبية وزارة الداخلية، وكانت والدتها آمنة بن غربال هي الأخرى مناضلة، لا تكاد تغيب عن أيّ حراك طلّابي عندما كانت في كليّة 09 أفريل، ودائمًا حاضرة في المظاهرات والتحرّكات الاحتجاجيّة والاجتماعات العامّة. كان البيت الّذي تربّت فيه لينا فضاءً مفتوحًا للقراءة والمُطالعة، وحاضنةً للنقاشات والاجتماعات السياسية، وفيه انعقدت اجتماعات النواة الأولى لمنظمة العفو الدّولية، التي كان الصادق بن مهنّي عضوًا مؤسسًا فيها. وكانت لينا تُشاهد عن قرب أصدقاء والدها ورفاقه في النّضال من حركة “برسبكتيف”. وعندما تحصّل المخرج التونسي النوري بوزيد على التانيت الذّهبي عن فيلم “ريح السدّ” في سنة 1986، كان تكريمه في بيت الصادق بن مهنّي، الّذي تصفه هناء الطرابلسي، إحدى الصديقات المُقرّبات من لينا، بأّنه “بيتُ كَرَم يسع الجميع ويستقبل الوافدين عليه بذراعَين مفتوحَين”.

كانت لينا مولعة بالكتب والمطالعة، ومتميّزة في دراستها ودائما تتحصّل على المراتب الثلاث الأولى. ولكنّها أيضًا تحبّ كرة السلّة ولا تكاد تغيب عن محفل رياضي لجمعيّة “الزهراء الرياضية”، وكان ذلك الفضاء الأوّل الّذي جمعها بهناء، لتتطوّر علاقتهما لاحقًا في فضاء التدوين والنّضال السيبرني. ولكنّ المرض الّذي أصاب لينا عندما كانت في سنّ الثانية عشرة كان “ضربة قاصمة” بالنسبة لوالديها الصادق وآمنة، إذ لم يستوعِبا كيف أنّ فتاةً في مثل نشاطها وحركيّتها، ستصبح عاجزة عن الخروج من المنزل وستخضع إلى نظام غذائي مُحكم، والحال أنّها ما تزال طفلة صغيرة. تروي والدتها للمفكرة القانونية كيف ظهرت على لينا الأعراض الأولى للمرض، حيث بدا على وجهها طفح جلديّ يشبه جناحَيْ فراشة مبسوطَين على خدَّيها، صاحَبَهُ ألم شديد في المفاصل، بعد أن تعرّضت ساعات لأشعة الشمس في البحر. كانت تلك في الحقيقة أعراضَ مرض الذئبة الحمراء الّذي يمسّ الخلايا والأعضاء الحيوية مثل القلب والكِلى. بعد رحلة من العلاج في تونس، هرع بها والداها للسويد ثمّ إلى فرنسا لتشخيص هذه العلّة المفاجئة ومعالجتها، ليكتشفَا فيما بعد أنّ العلاج في تونس لا يكاد يختلف كثيرًا عن العلاج في تلك البلدان، نظرًا لطبيعة هذا المرض المناعيّ النادر، الّذي ما فتئ ينخر شيئًا فشيئًا جسد لينا ليُؤثّر على عمل كليَتَيْها في سنة تخرّجها وتتوقّفا تمامًا عن العمل، ممّا اضطرّها للإقامة في المستشفى، تُراجع دروسها وتعدّ مذكّرة بحثها هناك، لتنطلق في رحلة تصفية الدّم. وبعد سنتَين من المُعاناة، تبرّعت آمنة لابنتها لينا بكليتها، وتروي للمفكرة القانونية كيف سبقها الصادق إلى التبرّع دون علمها، ولكنّه اكتشف أنّه لا يمكن أن يمنح كليته لابنته لأنّه مُصاب بمرض السّكري. وفي يوم 14 فيفري من سنة 2007، في يوم عيد الحبّ، منحت الأمّ كليتها لابنتها المُحَبَّبَة لينا، لتعيش بها طيلة 13 سنة.

رغم مرضها وما يفرضه عليها من امتثال لعدد من القواعد، من بينها تجنّب التعرّض لأشعّة الشمس والامتناع عن أكل الشارع والمصبّرات والملح، إلاّ أنّ لينا ظلّت دائمة الحركة وتخرج في المظاهرات المساندة لفلسطين عندما كانت تدرس في المعهد، وتساند الطّلبة في مطالبهم النقابية عندما كانت في الجامعة. “طبعًا أنا فخورة بابنتي وأنا أيضًا أحبّ الحرية وأنادي بها. كنت أخشى فقط تعرّضها للشمس الّتي تعكّر حالتها الصحية”، تقول والدة لينا للمفكرة القانونية.

بدايات التدوين

عندما أُصيبت لينا بمرض الذئبة الحمراء، سعى والداها إلى تكييف نمط حياتهما وأوقات الترفيه وفق ما تقتضيه احتياجات ابنتهما. فاقتنيَا لها حاسوبًا منذ سنة 1995، لتعوّض حرمانها من اللعب والخروج كما في السابق، فبدأ ولع لينا بالتكنولوجيا والبحث والكتابة منذ سنّ مبكّرة، لتُصبح فيما بعد صاحبة أكثر مدوّنة معروفة في الفضاء السيبرني، تحمل عنوان “بنيّة تونسيّة”، كانت لا تكتفي من خلالها بنقد الوضع السياسي في تونس في زمن بن علي فقط، ولكنّها تتقاسم مع متابعيها روتينها اليومي. “لينا فتاة عادية قبل كل شيء، ولديها اهتمامات رياضيّة ونشاطات على مستوى الحيّ الّذي تقطن فيه، وكانت تهتمّ بنفسها كأي فتاة، واسم مدوّنتها “بنية تونسية” يعكس شيئًا من هذا، فهي لم تُقدّم نفسها كمناضلة أو كناشطة ولم تكن تتحدّث فقط عن السياسة، وكان هناك تنوّع في المواضيع التي تطرحها رغم أن الحديث عن السياسة لا يكاد يغيب في تدويناتها، وهي تتحدّث بوجه مكشوف”، تقول صديقتها المُقرّبة هناء الطرابلسي للمفكرة القانونية.

كانت لينا تنشط في فضاء التدوين مع رفيقها سفيان الشورابي وكوَّنَا مدوّنة مشتركة اسمها “فردة ولقات أختها” (وهي عبارة تعني أنّ الأشخاص المتشابهين يلتقون)، وكانت تلك المساحة كفيلة بتعريف هناء بمشاكل كبرى وقضايا فساد وانتهاكات لم تكن تتداولها وسائل الإعلام الرسمية، مثل قضيّة البراطل بحلق الوادي[1] وقضية الحوض المنجمي، إلى جانب التعرّف إلى عدد من الصّحف التي تحجبها السلطة مثل الطريق الجديد والموقف ومواطنون لا رعايا. “منذ ذلك الوقت، أصبحت لينا ترافقني وتحيطني برعايتها وتقول لي دائمًا انتبهي لنفسك، وكأنّها أمّ ثانية لي”، تقول هناء للمفكرة القانونية.

في إحدى الفيديوهات المنشورة على قناتها على يوتيوب، والتي تعود إلى تاريخ 06 أكتوبر 2011، تقول لينا بن مهنّي إنّ أوّل تحرّك شاركت فيه كان في إطار مدوّنة جماعيّة اسمها “من أجل قفصة”، لنقل انتفاضة الحوض المنجمي والعنف البوليسي الّذي مورس في ذلك الوقت لقمع الاحتجاجات في سنة 2008، إلى جانب المشاركة في مدوّنة ضدّ الحجب. تستذكر لينا كيف تمّ حجب عدد من المدوّنات، ممّا دفع بالناشطين والمدوّنين في 02 ماي 2010 إلى خوض حراك ضدّ الحجب تحت مُسمّى “نهار على عمّار”، وعبارة أطلقها المدوّنون على المواقع التي تحجبها السلطة، والتي تُظهر عبارة 404 not found. ويُحيل رقم 404 إلى إحدى ماركات السيارات القديمة التي تآكلت بمرور الوقت، تمامًا مثل نظام بن علي في نظر هؤلاء. فكأنّ عمّار شخص يقود سيّارة مهترئة ويمنع الناشطين من الإبحار على الإنترنت. .

كانت لينا من النواة المؤسسة لحراك “نهار على عمّار” ضدّ الحجب الإلكتروني، التي جمعت في نسختها المصغّرة الأولية كلّا من لينا وهناء وعزيز عمامي وسليم عمامو، ليلتحق بهم فيما بعد ياسين العياري وعددٌ آخر من الناشطين. تروي هناء للمفكرة كيف أنّ لينا كانت حريصة على سلامة صديقتها التي تصغرها سنًّا ورفضت أن تكون ضمن قائمة المُمضين على مطلب الإعلام بالتجمّع الّذي سيودِعونه لدى وزارة الدّاخلية، ليضمنوا عدم تحجّج السلطة بخرق الإجراءات لقمع التحرّك الميداني، وهو ما تصفه هناء “بالبُعد الإنساني والأمومي المتفجّر في لينا”. مضيفة “كانت حريصة جدّا على مصلحة أصدقائها وصديقاتها الذين يعيشون وضعيات هشاشة بمختلف أشكالها”.

أحداث الثورة وتقاطع النضالات

بدأت لينا تتابع ما يحصل في سيدي بوزيد بداية من تاريخ 17 ديسمبر 2010 عندما أضرم محمد البوعزيزي النّار في نفسه، وكتبت على صفحتها على فايسبوك، يوم 19 ديسمبر، “سيدي بوزيد تحترق”، بالعربية والفرنسية والإنجليزية، حتّى تنتشر المعلومة على نطاق واسع بخصوص حرق محمّد البوعزيزي نفسه وانطلاق الاحتجاجات الشعبية في الجهات، وواصلت الحضور في المظاهرات والتحرّكات وتوثيقها من خلال تصويرها ونشرها، حتّى أنّ عددًا من الصحافيين الأجانب طلبوا منها أن ترافقهم إلى سيدي بوزيد لتسهيل عملهم في نقل ما يحصل هناك، وفق ما ذكرته في إحدى المقابلات الصحفية. وتنقّلت إلى مدينة الرّقاب في سيدي بوزيد لتوثّق وتنشر فيديوهات وصورا للشهداء والجرحى بالمستشفى المحلّي. تقول والدتها للمفكرة القانونية إنّها كانت تشعر “بالرعب” إزاء ما يمكن أن يحصل لابنتها في ذلك الوقت، مع تحفّز آلة البوليس لقمع المتظاهرين وحتّى قتلهم. “بُعد الأمومة في داخلي كان طاغيًا وكنت أشعر بالخوف على لينا، خصوصًا وأنّها لا تردّ على الهاتف، حتّى أنّني ظللت قابعة أمام جهاز التلفاز أنتظر ظهروها في إحدى القنوات الأجنبية لتنقل ما يحدث هناك، وألتقّى بين الحين والآخر مكالمات هاتفيّة ليسألني الناس ما إذا تمّ اعتقال لينا أو لا، مما يؤجّج ذعري وفزعي”، تقول آمنة والدة لينا للمفكّرة.

لم ينتهِ نضال لينا بنهاية نظام بن علي، بل تكثّف أكثر لبناء الدّولة التي تحلم بها، “يعيش فيها التونسي بكرامة وحريّة ونحترم فيها اختلافاتنا”، وفق قولها. تروي صديقتها هندة الشناوي للمفكرة القانونية كيف أنّ لينا لا تكلّ ولا تتعب رغم المرض الّذي يتربّص بها والّذي يريد أن يُقعدها عن الحركة: “كنت أقول في نفسي، إنّ طاقة لينا أسطورية. كنّا نتنقّل من مكان لآخر، بين القصرين وقابس وسيدي بوزيد والرديّف، ولينا تقود السيارة رغم تورّم قدميها بسبب الذئبة الحمراء، في حين أكون نائمة. كنت منبهرة بها وأشعر بالألم لأنها دائمة الحركة رغم مرضها الذي يفرض عليها عدم التعرّض لأشعة الشمس، ولكنها لا تكاد تفوّت حراكًا أو اعتصامًا، حتى أنّها قبل أسبوع واحد من وفاتها حضرت جنازة جريح الثورة، طارق الدزيري. أنا دائمًا ما أُقارن بين قدرتي على الصمود وبين قدرة لينا التي كانت شُعلة من الطاقة والإرادة، ولا يمكن أن يرحل إنسان بمثل هذه الخصال دون أن يترك أثرا في الحياة”.  

بعد الثورة بأشهر قليلة، تمّ ترشيح لينا بن مهنّي للحصول على جائزة نوبل للسلام، تقديرًا للجهد الّذي بذلته في توثيق أحداث الثورة ونقل مشاهد العنف البوليسي والاحتجاجات الشعبية التي لم تتداولها وسائل الإعلام الرسمية.

كانت لينا مدينةً للشهداء والجرحى وعائلاتهم بما تحقّق من حريّة بعد هروب بن علي، وظلّت تُتابع تطوّرات قضاياهم وتساندهم في تحرّكاتهم، وتُحْيي معهم ذكرى الثورة في كلّ يوم 14 جانفي. كتبت في تدوينة لها بتاريخ 14 جانفي 2019: “هؤلاء الأبطال: عائلات شهداء وجرحى الثورة. لا أراهم دائما ولكننا نلتقي وقت الشدّة. مرّت سنوات ونحن نحتجّ مع بعضنا البعض. هؤلاء الناس لم ولن يستسلموا. نلتقي ولا نتكلّم كثيرًا، لكنّ عيوننا تتحدث. عندما أراهم تكون مشاعري مختلطة. أشعر بالسعادة لأنهم لم يستسلموا، وأشعر بالحزن والخجل لأننا لم نقم بأبسط الواجب تجاههم”. واعتادت لينا أن تعدّ كعكة كلّ يوم 14 جانفي، مهما كان الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تكتب عليها “ثورة مستمرة”، وكانت دائمًا تردّد، وفق صديقتها هناء، عبارة “ثورة البرويطة (العربة المتنقلة) تمثّلي”، في إحالة على عربة محمد البوعزيزي، البائع المتجوّل.

تروي هندة الشناوي صديقة لينا كيف أنّها كانت تناضل على عديد الجبهات بلا كلل: “لينا كانت صادقة في نضالها وعادلة في دفاعها عن القضايا دون الفصل بينها. كانت تشتغل على جبهات عديدة، إذ كانت أوّل من اشتغل على توفير الأدوية وحمّلت في ذلك المسؤوليّة للدولة، وكانت تخدم كمناضلة صحافية استقصائية وتشتغل على التوثيق وكان لها قدرة على الوصول إلى المعلومة وإيصال المعلومة، وكانت تشتغل دائما على قضايا حرية التعبير بشكل مسترسل في قضايا ولد الـ15 وأمينة السبوعي وقضية الشهداء والجرحى، وكانت عنصرًا لا يغيب عن التحرّكات. كانت لا تكتفي بدعم القضايا و تُطلق حملات مواطنية مثل حملة توزيع الكتب على السّجون، أو حملات تضامنية لتوفير الغذاء واللباس للمتضررين من الثلوج. في بعض المرّات عندما يشتدّ بها المرض ينتابها الأرق فتلجأ للكتابة حتى في ساعات متأخرة من الليل وتطالب بتعميم الحقوق على مستحقيها، وكانت تتأثر جدّا لما يحصل من أحداث في البلاد”. وقد شاركت لينا في  حملة “مانيش مسامح” ضد قانون المصالحة، وحملة “حاسبهم” ضدّ مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات المسلّحة، وغير ذلك من الحملات والتحرّكات الشبابية. تُضيف هندة: “لينا حاضرة بيننا بقوة، هي وعدد من الرفاق الّذين غادرونا، مثل مالك الصغيري وعدنان المؤدب وريم الحمروني وصوفيا بركات. خسرنا العديد من الأصدقاء ولكن الألم هو نفسه. وكان شعورنا بأنّ وطننا ظَلمَنا طاغيًا . تركت فراغًا عميقًا بعد رحيلها، ونحن نعاني، نعيش تحت وطأة المرسوم 54 وانقلاب قيس سعيد. أفكّر يوميًّا في لينا، ولو ظلّت على قيد الحياة لتحرّكت وجمّعت عائلات المساجين والمحامين، ولبقيت شامخة وثابتة على مبدئها، شوكة في حلق الظالم، خصوصًا وأنّ لها مصداقيّة، ونحن في حاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى”.

الليلة الأخيرة

بدأت حالة لينا الصحّية تتدهور، ولكنّ محيطَها العائلي وأصدقاءَها ظلّوا يطردون من أذهانهم فكرة رحيل لينا، الّذي بدا وشيكًا. تقول والدتها آمنة للمفكرة القانونية: “لم نكن نتخيّل أنّها ستغادرنا بمثل هذه السرعة. كانت مُتعبة وكانت تشعر بأنّها ستفارق، ولكنّها واصلت حياتها بشكل طبيعي وسافرت إلى مالطا قبل أشهر من وفاتها. هناك، تعكّرت حالتها الصحية وذهبت إلى عيادة الطّبيب، فقال لها إنّ كليتها تالفة، وهي تعلم أنّه ليس بالإمكان إجراء عمليّة زرع ثانية في تونس. كانت تدرك جيّدًا أنّها ستغادر قريبا، ولكننا لم نكن نعي ذلك”. فيما تقول هناء صديقتها إنّ “الفترة الأخيرة من حياة لينا كان فيها حب مكثّف. لما احتدّ مرض لينا أخبرتني إحدى صديقاتنا أنّها في أسوأ الحالات التي عشناها معها، وراودني شعور بأن النهاية اقتربت، خصوصا وأنّ المعطيات الطبيّة تُشير إلى هذا، فاقترحت أن نجتمع، نحن أصدقاؤها ورفاقها في مقرّ الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، عندما كان تترأسها يسرى فراوس، حتّى نحيي ذكرى الثورة بحضور لينا، كما اعتادت على ذلك. كانت جرعة أمل كبيرة بالنسبة إليها، وحرصنا في ذلك الوقت على أن نرتدي الأقنعة الواقية حتّى نعبّر لها عن تضامننا معها ونُشعرَها بأنّنا نختنق مثلها، لأنّها كانت في ذلك الوقت تستخدم آلة الأوكسيجين لتنقية الهواء، نظرًا لتدهور مناعتها”.

أمّا صديقتها هندة، فتقول إنّ آخر أيّام لينا كانت “صعبة للغاية”، وإنّ المُقرَّبين منها لم يكونوا ليُدركوا أنّها تعيش آخر أيام حياتها، لأنّ الأمل في الحياة يكاد يكون أكبر من انتظار الموت: “كنت أحاول عبثًا أن أطرد فكرة رحيل لينا من مخيّلتي، وكنت معها قبل وفاتها بيوم، وصُدمت بخبر وفاتها رغم أنّنا كنّا متهيّئين ومتهيّئات نفسيًّا لرحيلها”.

رفضت لينا كلّ محاولة علاجيّة قد تمنحها امتيازًا مقارنةَ مع غيرها من مرضى القُصور الكلوي، إذ أُتيحت لها فرصة أن تحظى بعلاج في أوروبا ولكنّها رفضت وقالت “أنا لست أفضل من غيري”. وكانت متمسّكة بالعلاج في المستشفيات العمومية منذ كانت طفلة. تُفسّر والدتها ذلك بأنّ القطاع العامّ، على تواضع خدماته لا يخلو من الكفاءات الطبيّة. تقول صديقتها هناء للمفكرة القانونية: “قبل وفاتها بليلة، سعت إحدى الصديقات التي تعيش في أوروبا للعثور على طريقة يمكن من خلالها مداواة الكلية التالفة للينا، وظلّت تتوسّل إليها بأن تقبل السفر والعلاج، ولكن عبثًا. كما تطوّع عدد كبير من أفراد عائلتها ومعارفها إلى التبرّع لها بكلية، ولكنّها رفضت قطعيًّا. كانت متمسكة بالمرفق الصحي العمومي تمسكًا رهيبًا، وحين تمّ إخراج جثّة لينا من المستشفى وقف الطاقم الطّبي والممرّضون والعاملون والعاملات إجلالًا لها وأدّوا لها تحيّة لشدّة حبّهم وتقديرهم لها. كانت تعرف المستشفى وتفاصيله أكثر من الأطباء أنفسهم، وأقامت فيه لأسابيع وراجعت دروسها هناك وأجرت امتحاناتها هناك، ورأت الموت والحياة هناك. وكانت لها صفحة اسمها “وينه الدّواء” (أين الدواء) لتوفير الأدوية والعلاج لمستحقّيه، وكانت تشجّع على التبرّع بالأعضاء وتوصي بأن يتمّ التبرّع بأعضائها، ولكن بعد وفاتها تبيّن، للأسف، أنّ أعضاءها متضرّرة ولا يمكن التبرّع بها. كانت لينا حريصةً جدًّا على أن تخفي ألمها عن بقيّة المرضى حتّى لا تهِن عزائمهم، وتصرّ دائماً على أن تظهر بكامل قوّتها أمامهم، لأنّها مبعث أمل بالنسبة إليهم”.

تتأثر هندة صديقة لينا بشدّة عندما تستذكر رحيل لينا وتقول للمفكرة: “كنت خائفة من فقدان لينا، لأنّها من  الصديقات المقربات اللاتي عايشت معهم الثورة عامًا بعام وكنا نشعر بالأمان معها رغم أنّنا ننتمي إلى الجيل ذاته. كنا نشعر بأنّ الأزمات والمصائب تهون بوجودها بيننا. عندما رحلت لينا، عشت حالة من الذّعر ممّا يمكن أن يحلّ بنا بعد ذهابها، ولكنّ والدها هوّن علينا الفراق، وفكرة إحداث جمعيّة تحمل اسم “لينا بن مهنّي” جعلنا نعيش الحداد بطريقة مختلفة، فيها الكثير من النضال والكتابة والمشاريع، وهو ما خفّف عنّا حدّة الألم، فوداع لينا جعلنا نشعر بأنّنا فقدنا فترة مهمّة من حياتنا، فهي رغم ألمها وخيباتها ومعاناتها، تظلّ فترة مليئة بالأفكار والأحلام والأمل”.

لينا حيّة فينا

سعى والد لينا، المناضل الصادق بن مهنّي، مع رفاق لينا وأصدقائها، إلى تخليد ذكرى لينا ومواصلة نضالها بأشكال أخرى، عبر إحداث جمعية لينا بن مهنّي، التي انبثقت عنها مشاريع أخرى مثل المدرسة النسوية لينا بن مهنّي، التي تقدّم ورشات في الكتابة وتنظّم جامعة صيفيّة للنساء والأشخاص الكويريين وذوي الهويات الجندرية اللامعيارية للكتابة والتوثيق حول مواضيع ومشاريع نسويّة. “نحن كبرنا، وموت لينا جعلني أفكّر فيما سنترك للأجيال القادمة، وأتساءل عن الفضاءات المتاحة لهم للتفكير. ففي هذا الإطار تبلورت فكرة إحداث المدرسة النسوية وحملات أخرى، في إطار أن نفكّر مع الأجيال القادمة دون أن نكون أوصياء عليهم”، تقول هندة صديقة لينا، ومديرة المدرسة النسوية الحاملة لاسم الراحلة.

فيما تتواصل حملة جمع الكتب وتوفيرها لمستحقيها، سواء في السجون أو في المدارس والمكتبات، الّتي سبق وأن أطلقتها لينا ووالدها، لشغفهما بالكتب والمطالعة، تمّ أيضا التنسيق مع المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب من أجل تأثيث مكتبات السجون، ولكنّ المجهود الأبرز كان للينا وعائلتها، عبر الفرز والتبويب. “كانت فكرة إحضار كتب أوّل ما خطر ببالي يوم جنازة لينا”، تقول صديقتها هناء، وتضيف: “سجّلنا رقما قياسيًّا في الكتب التي توصّلنا بها يومها، وظلّت والدتها آمنة تشتغل على إعداد قائمات الكتب رغم تعبها ومرضها، وبفضلها وصلت الكتب إلى السجون الإيطالية التي تؤوي عددا من مساجين الجالية التونسية والمغاربية”. “مكتبة بيت لينا تعني لي الكثير، ومن خلالها اطّلعت على أدب السجون عبر كتاب “الحبس كذّاب والحي يروّح” لفتحي بالحاج يحيى، وأُتيحت لي الفرصة لأطّلع على مسودّة كتاب “سارق الطّماطم” للصادق بن مهنّي، الّذي نلت شرف تقديمه، رغم وجود قامات بحجم جيلبير نقاش مثلا الّذي كان بدوره سجينًا في برج الرومي، وهو من رفاق الصادق بن مهنّي”، تقول هناء الطرابلسي للمفكرة القانونية، وتضيف: “رغم مشاغل الحياة، مازالت “مينا” (كنية آمنة والدة لينا) حريصة على أن تجمعنا في بيتها رغم الفراق ورغم طيف الصادق ولينا الذي لا يكاد يفارق المكان”.

 وتخليدا لذكرى لينا انتظم نهاية الأسبوع الفارط مهرجان 27-20 الّذي يوثّق  تاريخ رحيل لينا بن مهني، عبر تظاهرات وورشات وندوات ونقاشات، حتّى تظلّ لينا حاضرة بالغياب.


[1] هذه القضية مرفوعة الآن أمام الدوائر المختصّة في العدالة الانتقالية، تعود إلى سنة 2008، حيث أجبر أحد أصهار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي متساكني حي يقع في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة اسمه “حي البراطل” على إخلاء منازلهم وإخراجهم منها وهدمها بالقوة العامّة بقرار سياسي من الرئيس نفسه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني