حالة احتقان قصوى عاشها مجلس نواب الشعب طيلة الأسبوع الماضي، والتي انطلقت بمشادة كلامية بين النائبتين جميلة الكسيكسي التي تنتمي إلى حزب حركة النهضة، وبين رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، لتتطور طيلة الأيام اللاحقة إلى اعتصام حاز على اهتمام أغلب وسائل الإعلام. في نفس الوقت، وخارج قبة البرلمان، كان الشارع التونسي يتحرك في أكثر من محافظة في وسط البلاد وجنوبها، لكن وسط تعتيم أو تغطية إعلامية محتشمة، لم تثرها على ما يبدو هتافات الغضب بقدر ما أغراها العرض البرلماني الصاخب.
قاعة الجلسة العامة في مجلس نواب الشعب تخطف الأبصار
لم تكن جلسة مناقشة قانون المالية لسنة 2020 يوم 4 ديسمبر جلسة هادئة، فبعد مداولات عديدة وطرح النواب لوجهات نظرهم حول موضوع المالية العمومية والإصلاح الهيكلي للملفات التي لا تزال عالقة، طلبت النائبة جميلة الكسيكسي نقطة نظام، وصفت فيها خطاب النائبة عبير موسي المدافع عن سياسات نظام بن علي بالبلطجة والإجرام واتهمتها بتهديد المسار الديمقراطي التونسي. حدث كانت له تبعاته، إذ قامت عبير موسي رفقة كتلة حزبها بالاعتصام ليلا داخل مجلس النواب لما اعتبرته إهانة وُجهت إلى شخصها وإلى كتلتها النيابية وكل المنتمين إلى العائلة الدستورية، وشددت على أنها لن تفك هذا الاعتصام إلا عندما تقوم حركة النهضة بالاعتذار عما بدر من نائبتهم تجاهها وحذف مداخلتها.
مناوشات كانت فاتحة لسلسلة من التجاذبات وسيل من التصريحات الصادرة عن نواب مختلف الكتل، ومادة إعلامية مغرية للصحافة المحلية والأجنبية التي أدارت كاميراتها ومصادحها نحو قاعة الجلسات العامة لترصد تطورات هذا الحدث لا سيما أن أشغال المجلس ظلت متقطعة لأيام نظرا لتكرر المشادات وتواصل اعتصام نواب الحزب الدستوري الحر. وبالرغم من أن رئاسة المجلس قد قررت منع الصحفيين من الدخول إلى قبة باردو يوم 7 ديسمبر إلا أن التغطية ظلت متواصلة، بعد ضغط وامتعاض من النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، التي اعتبرت في بيان لها صدر صباح ذات اليوم أن قرار المنع يعتبر خطوة خطيرة إلى الوراء في مجال حرية الصحافة وتكريسا لسياسة التعتيم التي ينتهجها القائمون على إدارة المجلس، وضربا لجوهر حق المواطن في الحصول على المعلومة وإعلان نوايا لضرب حرية العمل الصحفي.
كم التصريحات وساعات البث التي خصصت لمناقشة هذه الحادثة والتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، شتت الأنظار عن موجة من التحركات الاحتجاجية التي تزامنت مع ذلك التاريخ والتي لم تقتصر على مدينة أو بلدة واحدة. بل وصل الأمر إلى الإعلام العمومي، فالنشرة الرئيسية للأنباء التي تبث يوميا على القناة الوطنية الأولى لم تستعرض في عناوينها الرئيسية أي تحرك احتجاجي، بل اقتصرت في الآونة الأخيرة على متابعة ملف مشاورات تشكيل الحكومة وملفات أخرى.
ديسمبر الساخن
على عكس الاهتمام الإعلامي وانشغال جزء من التونسيين بتطورات الساحة السياسية، كان للمحتجين أولويات أخرى على رأسها الاستجابة لمطالبتهم بتسوية وضعياتهم الاجتماعية والاقتصادية لا سيما أن العديد من الملفات لم تعد تحتمل الانتظار أكثر وأخرى ما تزال عالقة منذ سنوات.
وقد كان ملف تحديد تسعيرة الزيتون من بين المطالب العاجلة التي حركت الشارع. فقد تصدّر الفلاحون الصفوف الأولى للمحتجين في الفترة الأخيرة في مناطق متعددة. بداية الاحتجاجات كانت يوم 4 ديسمبر 2019 لما عمد عدد من الفلاحين وأصحاب معاصر الزيت بمعتمدية حاجب العيون من محافظة القيروان إلى غلق الطريق الوطنية عدد 3 الرابطة بين حاجب العيون والقيروان إضافة إلى تعطيل حركة المرور في الاتجاهين وحرق العجلات المطاطية، تنديدا بالانخفاض المفاجئ في أسعار الزيتون، وبعدم زيارة أي مسؤول لهم من أجل التفاوض أو إيصال أصواتهم.
احتجاجات الفلاحين لم تقتصر فقط على مدينة حاجب العيون بل شملت مناطق أخرى في محافظة القيروان انتفض فيها الفلاحون من أجل نفس المطالب مثل معتمدية بوحجلة والشبيكة والشراردة وغيرهم.
الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري دخل على الخط هو الآخر، ليعلن في 5 ديسمبر 2019، عن تذمره من تدني أسعار بيع الزيتون وقراره الاحتجاج وإيقاف عملية الجني وبيع الزيتون وهدد عضو الاتحاد أنور حراثي برفع قضية ضد رئيس الحكومة وزير الفلاحة ومدير ديوان الزيت.
هذه الموجة تمددت إلى خارج القيروان لتلحق بها محافظة سيدي بوزيد. حيث استجاب مئات الفلاحين لدعوة الاتحادات المحلية للفلاحة والصيد البحري الداعية إلى وقف جمع صابة الزيتون واغلاق المعاصر بالجهة. وتم تنظيم وقفة احتجاجية حاشدة أمام مقر الاتحاد الجهوي للفلاحين بسيدي بوزيد يوم 6 ديسمبر 2019، قبل التوجه إلى مقر الولاية، حيث هدد الفلاحون بقطع الطريق الرئيسية إن لم يتم الإصغاء إلى مطالبهم والتدخل لرفع المظلمة المسلطة عليهم وانقاذ صابة الزيتون من الضياع، وفق تعبيرهم.
من الوسط الغربي للجمهورية التونسية إلى الجنوب الشرقي حيث نظم الفلاحون في محافظة صفاقس صباح يوم 9 ديسمبر 2019 وقفة احتجاجية أمام مقر الولاية رافعين نفس الشعارات ومعبرين عن رفضهم لسياسة تهميش منظومات الإنتاج بمختلف القطاعات الفلاحية.
ملف الفلاحة ومشكلة جني الزيتون وغياب تعديل التسعيرة بما يتلاءم مع مصالح الجميع، قد ينذر بكارثة حقيقية في هذا القطاع الذي يمثل أحد أهم الصادرات التونسية و مصدرا للعملة الصعبة. مخاوف عبر عنها الكاتب العام للجامعة الوطنية لمنتجي الزيتون محمد نصراوي لإحدى الإذاعات الخاصة حيث أكد أن عدم جني الزيتون في الوقت المناسب قد يؤدي إلى التقليل من جودته أو إتلافه كليا. لكن الاحتجاجات لم تقتصر فقط على الفلاحين، بل مثلت مشكلة الحضائر أحد أهم القضايا التي حركت الشارع.
هذا الملف الذي يعتبر من بين النقاط السوداء الذي لطالما كان مصيره التعتيم والتسويف لما يحوم حوله من شبهات فساد، كان سببا في اندلاع موجة من الاحتجاجات طيلة الأسبوع الأخير. فقد نفذ عمال الحضائر بالرديف في محافظة قفصة وقفة احتجاجية يوم 5 ديسمبر 2019 أمام مقر المعتمدية للمطالبة بتفعيل محضر الجلسة المبرم بين الأطراف الحكومية والمنظمة الشغيلة القاضي بتسوية وضعياتهم المهنية. اتفاق ظل حبرا على ورق منذ 30 ديسمبر 2018، وهو ما جعل المحتجين يلوحون بالدخول في إضراب جوع وحشي إن لم يتم الاستجابة إلى مطالبهم.
غير بعيد عن قفصة، وتحديدا في مدينة سيدي علي بن عون في محافظة سيدي بوزيد، انطلق عمال الحضائر بالمستشفى المحلي في تنفيذ إضراب عن العمل منذ الأسبوع الأول من شهر ديسمبر مطالبين بتسوية وضعياتهم المهنية الهشة، واحتجاجا على ما شهده هذا الملف من مماطلة. كما عبر المحتجون في تصريحات إعلامية عن تمسكهم بمواصلة إضرابهم إلى حين إيجاد حل لوضعياتهم التي باتت لا تطاق.
لكن الاحتجاجات الأعنف كانت في مدينة جلمة في نفس المحافظة، بعد إقدام الشاب عبد الوهاب الحبلاني ذي السبعة والعشرين ربيعا يوم 29 نوفمبر 2019، على إضرام النار في جسده احتجاجا على أوضاعه الاجتماعية القاسية وبعد مطالبته السلطة الجهوية أكثر من مرة بتسوية وضعيته المهنية الهشة. حيث صرحت والدة هذا الشاب لإحدى الصحف التونسية أنّ “ابنها قد عمل لمدة سنة ونصف كحارس في عدة مؤسسات عمومية بدءا بالمعتمدية والبلدية والشؤون الاجتماعية ولكنه لم يتلقّ مقابل ذلك أي أجر يذكر”.
وفاة عبد الوهاب متأثرا بحروقه البليغة، وأمام أعين أبناء مدينته لم تمر دون ردة فعل. حيث شهدت مدينة جلمة ابتداء من مساء يوم السبت 30 نوفمبر 2019 موجة احتجاجات عارمة ومواجهات بين الوحدات الأمنية المرتكزة بالجهة والمحتجين بعدما تمّ غلق الطريق الوطنية الرابطة بين محافظتي تونس وقفصة عبر استعمال الحجارة والإطارات المطاطية المشتعلة. خطوة ردت عليها القوات الأمنية باستعمال مكثف لقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق هؤلاء المحتجين وفتح الطريق وهو ما تسبب في اختناق عدد من المتساكنين الذين تم نقلهم إلى المستشفيات الجهوية. وليتم على إثرها إيقاف 10 من المحتجين والاحتفاظ بهم لدى مصالح الأمن بسيدي بوزيد.
حراك اعتبره نائب الجهة بدر الدين القمودي في تصريح ل “المفكرة” أن “له بعد ظاهري وهو احتجاج على ما آلت إليه وضعية الشاب عبد الوهاب الحبلاني، ولكنه في العمق يتعلق بقضية تنموية ظلت معلقة منذ عقود بالتوصيات والتمنيات والوعود الكاذبة، فجلمة مدينة فلاحية بها 21 بئرا عميقة إلا أن المواطنين فيها عطشى ولا يملكون الماء الصالح للشراب، هي أيضا احتجاجات على البطالة التي طالت 500 خريج جامعة عاطل عن العمل، وهي أيضا احتجاجات مطالبة بالحد الأدنى من الخدمات”.
حالة الاحتقان تواصلت لأيام مما اضطر والي الجهة إلى دعوة ممثلي الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والإطارات الأمنية الجهوية وعدد من مكونات المجتمع المدني بحضور معتمد جلمة ورئيس بلديتها، لعقد جلسة عمل بمقر الولاية يوم 2 ديسمبر ولتدارس سبل التهدئة والدعوة إلى تغليب الحوار بهدف إيجاد حلول جذرية والمحافظة على الأمن وسلامة المنشآت العموميّة. خطوة ثمنها النائب بدر الدين قمودي، حيث تقرر على إثرها سحب كل التعزيزات الأمنية والإبقاء على النسق العادي للتواجد الأمني، ذلك بعد سلسلة من الاحتجاجات وغلق الطرقات والمناوشات الحادة التي أدت إلى إيقاف 11 محتجا وإصابة 10 أمنيين.
معضلة البطالة كانت هي الأخرى حاضرة كأحد أسباب الغضب الشعبي والاحتجاج، فقد أقدم عدد من الشباب المعطلين عن العمل بمعتمدية “المزونة” التابعة لمحافظة سيدي بوزيد على غلق السكة الحديدية ومنعوا قطار المسافرين من العبور يوم 4 ديسمبر 2019، وذلك للمطالبة بضرورة الإسراع بتسوية وضعية أصحاب الشهائد العليا وعمال الحضائر وبحق أبناء الجهة في التنمية والانتداب في الوظيفة العمومية وفتح ملف مركب البلاستيك بالجهة، إضافة إلى التسريع في انطلاق انتاج معمل الإسمنت الذي تم تدشينه منذ 17 ديسمبر 2018.
حراك اجتماعي في الظل
لم تكن الاحتجاجات التي انطلقت منذ بداية شهر ديسمبر الجاري سوى عينة من شارع يتحرك منذ بداية السنة وسط تعتيم إعلامي وصمم حكومي عن الإصغاء لمطالب الناس. فوفق تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي تناول موضوع الحراك الاجتماعي خلال السداسي الأول لسنة 2019 ناهز عدد التحركات الاحتجاجية 5000 في مختلف جهات الجمهورية من دون استثناء. وقد تصدرت محافظة القيروان ترتيب المناطق التي شهدت أكبر عدد من الاحتجاجات بمجموع تحركات بلغ 821 تحركا احتجاجيا من أصل 4948 في كامل تراب الجمهورية أي بنسبة 16.5 %، تليها محافظة سيدي بوزيد أين بلغ عدد التحركات 453 تحركا بنسبة 9.1 % من إجمالي الحراك الاجتماعي. ووفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن هذه الاحتجاجات كانت في معظمها ذات خلفية اقتصادية واجتماعية من قبيل تحسين ظروف العيش وتوفير مواطن الشغل وتحسين البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية كمياه الشرب والكهرباء والنقل والخدمات الصحية.
ولئن تطور الحراك الاجتماعي في تونس على الصعيد الكمي فإنه تميز أيضا بتنوع الفاعلين فيه. فلم يكن الشارع حكرا على التحركات الاجتماعية الخاصة بعمال الحضائر أو المعطلين عن العمل، بل شمل نشطاء حقوق الإنسان والأساتذة والتلاميذ والعمال والأطباء والفلاحين. فسيفساء الفئات الاجتماعية والمهنية لمكونات التحركات الاحتجاجية انعكست على آليات الاحتجاج التي تنوعت بين وقفات عادية ونداءات وحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى عمليات غلق الطرق ومقرات العمل وصولا إلى اقتحام مؤسسات العمل وإضرابات الجوع والعصيان مدني.
ازدحام المشهد السياسي الذي تتغير معطياته بشكل جنوني منذ وفاة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي مرورا بالانتخابات التشريعية والرئاسية وصولا إلى مشاورات تشكيل الحكومة والمداولات الصاخبة في البرلمان، غيبت القضايا الاجتماعية والاقتصادية عن الواجهة واستأثرت بالاهتمام الإعلامي طيلة السنة المنقضية. لكن حالة الغليان الاجتماعي وتواصل التجاهل الرسمي لمطالب المحتجين، قد تتصاعد أكثر فأكثر مع اقتراب شهر جانفي الذي يعرف بشتاء الغضب، حينها فقط قد يجبر الجميع إلى الالتفات إلى تلك الأصوات.