“خط زمني” لنضال لجنة المخطوفين والمفقودين: ما زال البحث جاريا عن أحبة بلا أضرحة


2023-03-17    |   

“خط زمني” لنضال لجنة المخطوفين والمفقودين: ما زال البحث جاريا عن أحبة بلا أضرحة

لم تحتفل لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان أمس الخميس بمرور 40 عاماً على ولادتها، إذ لا احتفالات قبل الكشف عن مصير الأحبة من المخطوفين والمفقودين في فترة حرب 1975، هي فقط وثقت في “خط زمني” 40 عاماً من النضال المستمر في معرض “افتتح مساء أمس الخميس، ويستمر لغاية 26 الجاري في قاعة المعارض في الطابق الأرضي في مبنى جريدة السفير في الحمراء.

ولأن توثيق 40 عاماً من النضال والآلام والسعي إلى تكريس حق العائلات بمعرفة مصير أحبتهم وفلذات أكبادهم لا يمر من دون تكريم المرأة التي بادرت في العام 1982 إلى جمع من يشبهونها بعدما خُطف زوجها القيادي في منظمة العمل الشيوعي عدنان حلواني، منحت اللجنة وداد حلواني درعاً تكريمياً واصفة إياها بأيقونة لبنان، التي قضت عمرها تنادي بأن لا سلما حقيقيا ولا انتهاء فعليا للحرب من دون كشف مصير المخطوفين والمفقودين وتكريس ذويهم بمعرفة الحقيقة.    

40 سنة شكلت خط زمني سارت عليه أمهات وزوجات واخوات ومعهن آباء واخوة وأبناء، بحثا عن أحبة اختطفوا  في خضم حرب ال 1975 على ايدي الميليشيات واعتقلوا على أيدي قوى امنية نظامية، ولم يُعدهم ما سُمي سلما ولا كشف مصيرهم، وأنهى عذابات عائلاتهم، بل على العكس أصدر أمراء الحرب ممن أمسكوا بالسلطة بعد اتفاق الطائف، قانون عفو يمحي كل ارتكابات تلك المرحلة.

وجاء معرض “خط زمني” شريطا يوثق 40 من الأعوام مرت بين وجع ووجع، من لوعة الانتظار والنضال والتحديات ومن الابتزاز والتخويف والقمع والترهيب، والإمعان في التجاهل والوعود الفارغة والتضامن المزيّف والخطوات الناقصة، فيما العائلات كما عبرت عنها رئيسة اللجنة وداد حلواني “لم نعرف نهارنا من ليلنا، ولم نعرف الصيف من الشتاء، لم نعد نعرف كيف نفرح ولا كيف نحزن، لم نعرف إن كان احباؤنا ما زالوا أحياء أم صاروا امواتا”.

ويعرض “خط زمني” ل 150 محطة و255 وثيقة انفوغرافيك وتجهيزات ومحطات مفصلية من مسار شاق وطويل، ويوثق تقصير سلطة لم تشأ يوما البحث عن مفقوديها، لا المواطنين منهم ولا المقيمين، بل سارعت إلى العفو عن المجرم واحتضانه.

يحمل كل جدار من المعرض تاريخ ومحطة تبدأ من 25 تشرين الثاني من العام 1982 وتنتهي في 2022 تاريخ عقد أول مؤتمر صحافي ل”الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا”، التي أثمر نضال العائلات والداعمين لها بتشكيلها بموجب المرسوم 6570 بتاريخ 3/7/2020.

أمام جامع عبد الناصر

يومها، يوم البداية في 1982، قررت وداد حلواني، وبعد خطف زوجها القيادي في منظمة العمل الشيوعي عدنان حلواني في بيروت، (وما زال مصيره مجهولاً حتى الآن)، توجيه نداء عبر “إذاعة المرابطون”، دعت فيه “الكتار اللي متلي” إلى تجمع أمام جامع عبد الناصر في كورنيش المزرعة. لبت مئات السيدات اللبنانيات والفلسطينيات النداء. وبشكل عفوي قررن السير في تظاهرة باتجاه السرايا الحكومية في الصنائع للقاء الرئيس شفيق الوزان (انذاك)، الذي انتهى وعده بالسعي عن الافراج عن المخطوفين والمعتقلين بجملة “العين بصيرة واليد قصيرة”. أثر ذلك الرد المحبط قررت المجتمعات تشكيل لجنة متابعة لمواصلة التحرك، لتولد لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان.

يختصر المعرض من خلال مئات الصور والوثائق والشهادات  قصص الإخفاء والقتل وإزالة المختفي من الوجود وتقاعس سلطات وحكومات متعاقبة وتواطؤ مرتكبين، منهم من خلعوا ثيابهم المرقطة ولبسوا بذلات السلطة. وفي المعرض حصيلة 40 سنة من ملفات تحقيق وتشكيل لجان وتقارير رسمية وبيانات  وقرارات  لجان التحقيق وبيانات وزارية، مرورا بمحطات العثور على مقابر جماعية وإيجاد رفات كل من الباحث الفرنسي ميشال سورا والصحافي البريطاني إليك كوليه في مقبرة عيتا الفخار، واعادة طمر رفات اخرى وإهمالها من دون التحقق من هويات أصحابها.

ويوثق المعرض في انفوغرافيك دائري أعداد المخطوفين والمفقودين، وتخبرنا الاعداد المعلقة كيف أن قصة قضية المفقودين هي مختصر لكل قصص الفقدان في هذا البلاد، وقصص العائلات التي حملت على أكتافها قضية نفضت الميليشيات المرتكبة أياديها منها، وأدار لها جزء كبير من المجتمع ظهره،  الاّ قلة، وتركها وحيدة. لكن العائلات ولجنتها لم تساوم، ولم تتنازل، وما زالت ترفع الصوت منذ 40 سنة ولن تتوقف قبل الكشف عن مصير الأحبة.

سرديات فضائحية عن المقابر الجماعية

فقدان أحد أفراد العائلة كارثي، فهو يطال العائلة بأكملها، لا بل ينتقل من جيل الى جيل، وغسان حلواني، ابن المخطوف عدنان حلواني، يشرح ل”المفكرة القانونية” أن فكرة المعرض أتت بعد أن تمت مأسسة أرشيفها،  وأصبح قادرا أن ينطق وأن يُطرَح كإرث وطني :”حكيت أنا ووداد حلواني، وطلبت منها التعامل مع خبراء من خارج القضية، يستطيعون النظر إلى هذا المسار من غير منظار، وكانت فكرة جيدة، إذ استخلص الفريق  من المادة الأرشيفية سرديات عدة منها فضائحية عن كيفية تعامل السلطات المتعاقبة بهذا الملف”. وعليه، أصبحت المادة الأرشيفية لنضال 40 عاماً معروضة كمادة محتملة يمكن أن يستخدمها أي شخص، وهي متاحة لإستخدام القانونيين والفنانين والباحثين والصحافيين والتربويين. ويقول غسان حلواني أن الأرشيف “يؤمن مادة يمكنها أن تكون معرفية أو قانونية، لكنها بالتأكيد هي مادة جدلية تقدم سردا فضائحيا جدا. فعلى سبيل المثال، يتحدث حلواني عن موضوع المقابر الجماعية: “حين نربط المعطيات مع بعضها البعض، نرى مادة أرشيفية توثق العثور على ثلاث مقابر، كل مقبرة بتاريخ معين: الأولى في مجدل عنجر في العام 2005 والثانية في العام 2009 في الشبانية، والثالثة في 2008 في خلة الزيتي في عيتا الفخار، وعندما نقارب هذه المقابر من خلال الأرشيف، تتولد لدينا سردية شبه كاملة، تظهر فيها بشكل فضائحي الأدوات التي تستعملها السلطة حتى لا يتم نبش العظام داخل تلك المقابر”. ووفق حلواني، “استعملت السلطة في الشبانية الطبيب الشرعي ليقول في تقريره أن العظام بداخلها تعود لحيوانات، وفي مجدل عنجر تم التأثير على المدعي العام ليعتبر أن عمر الرفات يعود للقرن السابع عشر، أما المقبرة التي وجدوا فيها رفات الصحافي البريطاني إليك كوليت في خلة الزيتي، تظهر بوضوح المسار الفضائحي لتعامل السلطة مع هذا الملف. ويتابع: “اذاً السرديات متوفرة في هذا الأرشيف ويمكن لها أن تكون أفلاما سينما، أو يمكن إدخالها في مناهج تربوية، وبالخلاصة هي أصبحت متوفرة بشكل تحاكي بعضها”.

الهيئة الوطنية غابت تماما

كان لافتاً الغياب التام لأي من أعضاء “الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا” عن المعرض في يوم افتتاحه، وهوما يأسف له النائب غسان مخيبر  في حديث مع ” المفكرة”  حيث تتحدث الهيئة الوطنيّة باستمرار عن عدم وجود امكانات للبدء بعملها. ويقول:  “كان عليها أن تحمل هذه القضية وتخفف عن كاهل الأهالي، حتى من دون وجود إمكانيات، وعليها أن تتحرك، وأن تكون في المقدمة”.

وفي حين يعترف مخيبر بتقصير  الدولة في ـتأمين مقر للهيئة أو في تسديد راتب لرئيسها، إضافة الى وجود مشاكل في استكمال عديدها من الأعضاء، يقول “كل هذا معروف، ولكن حتى لو افترضنا أن الهيئة هي مجموعة متطوعين، كنت أود ان أرى أعضاءها إلى جانب الأهالي، وعلى الأقل أن تتابع الملفات مع الجهات المعنية، وتدير ملف إنجاز الاتفاقية مع الصليب الأحمر الدولي في ملف جمع عينات الحمض النووي وحفظها وبدء الإستفادة منها.  

الوزير السابق طارق متري، كان حاضرا في الافتتاح، ويعترف بدوره  في حديث مع “المفكرة” بان “هذه القضية تذكرنا بمسؤوليتنا عما جرى”. ويقول: يجب الا ننسى ما اقترفته بعض الأيادي، وما فعله البعض بصمته أو تواطؤه أو تخاذله. يحتار الشخص ماذا يقول، لكن الأهم أن تبقى هذه القضية حية، والفضل يعود إلى وداد ورفيقاتها ورفاقها، الذين واللواتي يخاطبون/ن ضمائر اللبنانيين. وواجبنا كلنا أن نكون إلى جانبهم لا سيما أنه أصبح هناك أداة قانونية وهي الهيئة الوطنية، ولكن للأسف نحن في بلد تعودنا التنصل من مسؤوليتنا”.

ويؤكد النائب ابراهيم منيمنة أن النواب المحسوبين على التغيير: “دائما على تواصل مع اللجنة ونضع إمكاناتنا في تصرفهم، إن كان من خلال ممارسة ضغط سياسي في البرلمان أو من خلال الضغط على الحكومة لتأمين الموازنة للهيئة الوطنية”. ويضيف: “كان هناك نقاش حول الموازنة والمقر ونتابع هذا الموضوع مع وزير المال”.

طائفة خرجت من كل الطوائف وعليها

في كلمتها، وجهت رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين وداد حلواني تحية لأرواح “مَن غادرنا من الأهالي قبل معرفة مصير مَن فقدوا”. وقالت: “نحن لسنا فقط ملفّاً عالقاً من ملفّات الحرب في لبنان. نحن بشرٌ مثلكم، نشبهُكم، ونشبهُ الوطن الذي لم يستكملْ بعد خروجَه من تلك الحرب. حربٌ اقترب عمرها من نصف قرن. نحن آلاف العائلات المكتوية بفقد حبيب أو أكثر! توقّفت المدافع، ولم تتوقّف معاناتنا.. شكّلنا طائفة خرجت من كل الطوائف وعليها”.

وتحدثت حلواني عن انتزاع اللجنة للقانون 105/2018 الّذي ينصّ على إنشاء “هيئة وطنية للمفقودين والمخفيين قسرا في لبنان”. وقالت:  قبل أربع سنوات وفي سعينا الحثيث وراء الحقيقة، استطعنا انتزاع قانون يكرّس حقّنا بمعرفة مصير أحبّتنا، قانون المفقودين والمخفيين قسراً ليس منّةً من أحد. وليس جائزة ترضية تسلّمناها. القانون أتى من رحم أحزاننا، من زخم عنادنا وإصرارنا وصبرنا وتمسّكنا بحقّنا. انتظرناه 36 عاماً إلى أن خرج الدخان الأبيض من باب مجلس النواب متجاوزاً ألف فخٍّ وفخّ، قانونٌ أتى تأكيداً صريحاً على حقّ كل عائلة بمعرفة مصير مفقودها. تطبيقاً للقانون، وتحت الضغط، شَكّلت الدولة ِالهيئة الوطنية بمهمة وحيدة: الكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسراً.. لكن هذه الدولة ما تزال تعرقل انطلاقة الهيئة وتحجب عنها كل ما يلزم كي تقوم بمهمتها الإنسانية النبيلة”. 

واضافت: “منذ عامين ونصف (تموز 2020)، صار لدينا مرجعية اسمها الهيئة الوطنية لن نفرّط بها، فهي باب إخراجنا من دوّامة التخبّط في المجهول. إنها خشبة خلاصنا من عذاب الإنتظار”.

وردت حلواني على  كلام قد يصدر ربما من مسؤول أو حتى من مواطن: “ربّما لسان حال هنا أو هناك يقول هلّأ مش وقتكن يا أهالي المفقودين ولا وقت قضيتكن.. مش شايفين حالتنا وحالة البلد!؟”، لتؤكد ردا على ذلك بالقول “هلّأ وقتنا، كل يوم هو يومنا ويومكم. الفرق إنّه قبل، كنّا ضحايا وحدنا عم نطالب بالحقيقة والعدالة وهلأ نحنا ويّاكن صرنا ضحايا الاستبداد والظلم وإدارة الظهر، ولا خلاص إلاّ بوحدة الضحايا ضد الجلادّين”.

وتابعت:  “لو تمّ التعامل الرسمي بجدّية لحل قضيتنا لما وصلنا وإياكم – دولة ومجتمعاً – إلى هذا الدرك من الإنهيار على كافة المستويات.. لهيك، كل يوم هو يومنا.. فكلّنا صرنا ضحايا والمجرم واحد. إن حلّ قضيتنا ليس مستحيلاً وقد صدر القانون 105/2018 ووضع آلية للوصول إلى حق المعرفة والكشف عن المصير”.

وردا على مخاوف البعض من الحقيقة قالت حلواني “قد يكون الأمر الأصعب عند تطبيق القانون، خصوصاً بنظر المرتكبين أو المتردّدين، مسألة المقابر الجماعية..  لسنا هنا في معرض دحض هذه الظنون والإدعاءات.. لكل من لديه تخوّف أوحذر من موضوع المقابر، أريد أن أتحمّل مسؤوليتي باسم لجنة الأهالي، وأن أعيده إلى القانون الذي يتضمن نصّاً صريحاً مفاده عدم المحاسبة على أفعال الماضي بل على أفعال الحاضر”.

أخيراً، على هامش المعرض، تعقد لجنة الأهالي ندوة في مبنى جريدة السفير، عند الساعة السادسة  من مساء الثلاثاء المقبل في 21 الجاري تحت عنوان: “40 سنة وقضية المفقودين ترفض أن تُفقّد”، تديرها الصحافية ديانا مقلد ويشارك فيها كل من: رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا بالإنابة زياد عاشور، المدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية، الصحافية سحر مندور والكاتب سمير سكيني.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة ، تحقيقات ، أطراف معنية ، أحزاب سياسية ، اختفاء قسري ، حرية التعبير ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني