مع قرب تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان وما قد يصاحبها من أجواء تفاؤل، يبدو من المفيد أن نتطلّع إلى إمكانية إحداث تغيير حقيقي في المسار السياسي العام للبلاد، لا سيّما في القطاعات الحيوية التي تمسّ حياة المواطنين بشكل مباشر. يهدف هذا المقال إلى تقديم خطوط عريضة قد تشكّل أساسًا لأيّ خطة حكومية تسعى إلى إحداث تغيير حقيقي في قطاع النقل الذي قد لا يحظى بأولوية ظاهرة مقارنة بغيره من القطاعات ونظرًا لتراكم الإهمال المتعمّد والطويل الأمد الذي أصابه.
قبل الخوض في التفاصيل، ينبغي التطرّق إلى نقطتين أساسيّتين: أوّلًا، إنّ الخطوات المقترحة في هذا المقال ليست نصوصًا مقدّسة بمعناها العلمي المطلق، بل هي خطوط عامّة ترسم إطارًا لتوجّه الحكومة، وقد تحتاج إلى تعديلات وتكييفات عند التطبيق العملي، بما يتماشى مع الواقعية السياسية أو المتطلّبات القانونية والإجرائية. ثانيًا، هذه الخطوات ليست بالضرورة كلّها إجراءات آنيّة تحقّق نتائج سريعة، بل يتطلّب بعضها وقتًا وجهدًا طويلين، وهي ليست مشاريع تقنية جاهزة للتنفيذ الفوري، بل محاور استراتيجية تهدف إلى بناء قطاع نقل قويّ ومستدام على المدى الطويل. من ينتظر نتائج ملموسة خلال أيام أو أسابيع لن يجد مبتغاه هنا، لكن ذلك لا يعني تجاهل أهمّية الخطوات العملية التي تنظم وتُيسّر تنقّلات المواطنين والمقيمين، بل إنّ تلك الخطوات واجب أساسي، لكن الهدف هنا أبعد.
الخطوة الأساسية: تصوّر استراتيجي شامل
الركيزة الأولى لأيّ خطة إصلاحية في قطاع النقل هي وضع تصوّر استراتيجي واضح للقطاع. هذا التصوّر لا يقتصر على اختيار مشاريع معيّنة كالطرقات أو خطوط الباصات أو القطارات، بل يتجاوز ذلك إلى تحديد شكل قطاع النقل الذي نطمح إليه في المستقبل. لتحقيق ذلك، ينبغي أن يكون تصوّر قطاع النقل جزءًا من رؤية أشمل ترتبط بنمط الاقتصاد والمجتمع المستهدفين. أي أنّ عملية الاختيار بين خيارات النقل المختلفة يجب أن تكون مبنيّة على دراسة دقيقة للعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي نرغب في خدمتها من خلال هذا القطاع. يمكن تقسيم هذا التصوّر عمليًا إلى مراحل زمنية متعدّدة: قصيرة (حتى خمس سنوات)، متوسّطة (من خمس إلى عشر سنوات)، وطويلة الأمد (عشرة إلى خمسين سنة). إلّا أنّ التعقيدات السياسية الحالية وغياب رؤية شاملة اقتصادية واجتماعية طويلة الأمد للبلاد، كما الحالة المزرية لقطاع النقل ووجوب التحرّك بأسرع وقت ممكن، بالإضافة إلى ضعف الإمكانات المخصّصة له اليوم، كلّها عوامل تجعل من إلزام الحكومة رسم خطة متوسّطة أو طويلة الأمد ضربًا من الطموح المبالغ فيه اليوم. لذا، مع أخذ هذه العوامل في الاعتبار، يمكن لهذا التصوّر الاستراتيجي أن يكون محصورًا، في الوقت الراهن، بالمرحلة الأولى، التي تمتد لخمس أو سبع سنوات، والتي يمكن فيها التركيز على تشخيص القطاع ومشاكله بشكل منهجي، إلى جانب تنظيمه ودراسة الحلول الممكنة لكلّ مشكلة.
تشكّل هذه المرحلة الأوّلية أساسًا لرسم ملامح أطول أمدًا، حيث يمكن بناء مشاريع استراتيجية كبيرة بناءً على نتائج التشخيص، بالاعتماد على ما يتمّ إنجازه خلال المرحلة الأولى، ما يتيح مرونة أكبر للتكيّف مع تطوّرات المجتمع والاقتصاد. لذا، يبقى من واجب الحكومة الحالية أن تحصر هدفها بإقرار خطة استراتيجية شاملة، لتشكّل خارطة طريق للسنوات المقبلة وأساسًا لأيّ حكومة مقبلة والشروع في التنظيم والتشخيص والتحليل والبدء بمعالجة الإشكاليات الأساسية للقطاع، تمهيدًا لتطوير مشاريع استراتيجية تتوافق مع الاحتياجات الوطنية على المدى الزمني الأوسع.
لا بدّ أن تشتمل أبرز خطوط هذه الخطة على دعامات أساسية قوامها: إعادة تنظيم إدارة القطاع عبر إنشاء هيئة ناظمة للنقل وتخصيص النقل بوزارة مفصولة تمامًا عن الأشغال، تشخيص مشاكل القطاع عبر إحصاء دراساته وإنشاء قاعدة بيانات للنقل، وضع قطاع النقل على ساحة الاهتمامات الحقيقية في النقاش العام وإشراك كلّ المعنيين فيه، البدء بالتحوّل العملي نحو نظام نقل مستدام.
إعادة تنظيم إدارة القطاع: هيئة ناظمة ووزارة حصرية
يعاني قطاع النقل من مشكلة بنيوية في كيفية إدارته وهي تعدّد الجهات المعنية والمسؤولة فيه من دون وجود هيكلية واضحة ومنظّمة لتحديد العلاقات والمسؤوليات بشكل علمي وواضح ومنهجي مما يسبّب العديد من المشكلات التي تعيق تطوير القطاع. وتعدد الجهات المعنيّة هو من دون إنتاجية تذكر بالمناسبة، وذلك إرضاءً لتوزيع طائفي ومناطقي وإرضاء لشبكة المصالح المسيطرة. من هذه الجهات وزارة النقل والأشغال مع إداراتها المختلفة، مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، البلديات، مجلس الإنماء والإعمار، وزارات الداخلية والمالية والبيئة والطاقة، غرفة التحكّم المروري، المجلس الوطني للسلامة المرورية…
أولى المساوئ هي تضارب الصلاحيات، حيث قد تتداخل مسؤوليات الجهات المختلفة، ممّا يؤدي إلى صراعات حول اتخاذ القرارات وتنفيذ المشاريع، وبالتالي بطء التنفيذ وتعطيل العمل. ثانيًا، يؤدّي غياب الهيكلية إلى عدم وضوح المساءلة، حيث يصبح من الصعب تحديد الجهة المسؤولة عن النجاحات أو الإخفاقات، ممّا يفتح الباب أمام الفوضى الإدارية وغياب الشفافية. بالإضافة إلى ذلك، يساهم هذا الوضع في إهدار الموارد، حيث قد تعمل جهات متعدّدة على مشاريع متشابهة أو متداخلة من دون تنسيق، ممّا يؤدّي إلى تكرار الجهود وإنفاق غير ضروري للأموال والوقت كما يعيق القدرة على وضع رؤية استراتيجية موحّدة، حيث تعمل كلّ جهة وفق أولويّاتها الخاصّة من دون انسجام مع رؤية وطنية شاملة. وأخيرًا، يؤدّي غياب التنسيق إلى ضعف استجابة القطاع للتحدّيات الملحّة مثل ضعف خدمات النقل المشترك أو التلوّث والازدحام والسلامة المرورية أو فيضان الطرق، إذ لا يوجد كيان موحّد لتحديد الأولويّات وتنظيم الجهود لحلّ المشكلات بشكل فعّال.
يكمن الحل في إنشاء هيكلية تنظيمية أو هيئة ناظمة شاملة تُعنى بتنسيق العمل بين الجهات المختلفة، تضع رؤية استراتيجية موحّدة، وتضمن المساءلة الفعّالة لكلّ الأطراف. ستكون الهيئة الناظمة للنقل مسؤولة عن وضع سياسات شاملة لتنظيم القطاع وتطويره. وهذا يشمل صياغة وتنفيذ استراتيجيات طويلة الأمد، تفعيل الرقابة على النقل العام والخاص، وتنسيق الجهود بين القطاعين العام والخاص. كما ستضطلع الهيئة بمهام وضع المعايير وضمان الالتزام بها. إلى جانب دورها التنظيمي، ستكون الهيئة صلة وصل بين الحكومة والشركات المحلية والدولية الراغبة في الاستثمار في قطاع النقل، ممّا يعزّز الشفافية ويضمن تحقيق الاستثمارات بشكل فعّال.
كما يتطلّب تحسين قطاع النقل تنظيمه والتشدّد في تطبيق القوانين مثلًا عبر وضع إطار تنظيمي متكامل لتنسيق العلاقة بين القطاعين العام والخاص بشكل رسمي وشفاف، تحديث القوانين، تطبيق أنظمة رقابية أكثر فاعلية، تعزيز الشفافية في التلزيمات وإدارة المشاريع وضمان الاستخدام الأفضل للموارد المتاحة.
بما خصّ التمويل، ينبغي البحث عن مصادر تمويل مثل الشراكات مع القطاع الخاص أو القروض الميسّرة من مؤسسات دولية، مع ضمان الحفاظ على السيادة الكاملة على القطاع. كما يمكن دراسة إمكانية تطبيق ضرائب موجّهة على استخدام المركبات الخاصة أو الطرقات في بعض المناطق أو في بعض الأوقات، بهدف تشجيع النقل المستدام وتمويل تحسينات القطاع.
النواة الأساسية لهذه الهيئة يجب أن تكون إدارة فعلية وحصرية لقطاع النقل، لذا من الواجب إنشاء وزارة (أو إدارة) وبالتالي فصل وزارة النقل عن الأشغال العامة.
وكان لبنان بعد انتهاء الحرب اللبنانية، شهد في عام 1993 فصل وزارة الأشغال العامّة عن وزارة النقل. إلّا أنّ هذا الفصل لم يستمرّ طويلًا، حيث أُعيد دمج الوزارتين في حقيبة واحدة منذ عام 2000. ورغم أنّ فكرة إنشاء وزارة للنقل منفصلة ليست جديدة، إلّا أنّها غابت عن النقاش السياسي في لبنان خلال العقود الأخيرة، ربما بسبب النظرة التقليدية التي اختزلت قطاع النقل في مشاريع البنى التحتية من دون إدراك أبعاده الاستراتيجية الأشمل. إلّا أنّه لا يمكن اختزال قطاع النقل في إنشاء الطرق والجسور، فهو منظومة متكاملة تشمل التخطيط الاستراتيجي والتنظيم المحكم ورسم السياسات العامّة التي تأخذ في الاعتبار تطوّر المجتمع والتحديات البيئية والديموغرافية والاقتصادية.
والفصل بين وزارة النقل ووزارة الأشغال العامّة ليس مجرّد مسألة تنظيمية أو تقنية، بل هو ضرورة استراتيجية تهدف إلى إعادة تعريف قطاع النقل كركيزة أساسية للتنمية المستدامة ولتطوير الاقتصاد والمجتمع الوطنيين.
وتعني وزارة (أو إدارة) نقل مستقلّة التفرّغ الكامل لوضع خطط استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار التكامل بين وسائل النقل المختلفة البرية والبحرية والجوية. ويجب أن تكون هذه الوزارة مسؤولة عن صياغة رؤية للقطاع، وأن تضطلع بدور مركزي في التنسيق مع الجهات المحلية والدولية لضمان تفعيل المشاريع الكبرى وتنفيذها بفعالية وشفافية. وبالتوازي، يمكن إنشاء وزارة للأشغال العامّة أو “وزارة الإعمار” تتولّى المهام التنفيذية التقليدية، من إنشاء وصيانة البنى التحتية أو إجراء التلزيمات من دون حصرها في قطاع النقل فقط (حاليًا يؤدّي مجلس الإنماء والإعمار هذا الدور لكنه غير خاضع لرقابة كافية وليس لديه آليّات عمل واضحة لذا من الأفضل إيجاد وزارة تقوم بذلك).
من المستحسن أيضًا، إعادة تفعيل “المجلس الأعلى للنقل” الذي تأسّس نظريًا عام 1966 من دون أن يكون يومًا فاعلًا. والهدف من ذلك ليس زيادة إدارة جديدة إنّما الاستفادة من هيكلية تمّ إقرارها سابقًا بهدف توحيد المهام والجهود في القطاع.
تشخيص مشاكل القطاع: معرفة القطاع ومستخدميه
يُعاني قطاع النقل في لبنان، من غياب شبه كامل للأرقام والإحصاءات الرسمية الدقيقة، ممّا يُصعّب رسم صورة واضحة وشاملة عنه. يعتبر تشخيص واقع قطاع النقل خطوة أساسية لأيّ عملية إصلاحية. وهو يتطلّب إجراء مسح شامل لتنقلّات المقيمين، كما للبنية التحتية للنقل، بما في ذلك الطرق، ووسائل النقل العام، والمرافق الداعمة، مما يسمح بفهم شامل لواقع القطاع. إلى جانب ذلك، ينبغي تقييم الأثر البيئي والاجتماعي والاقتصادي لهذا القطاع، مع تسليط الضوء على المشاكل الملحّة التي يعاني منها، مثل الازدحام المروري، والتلوّث البيئي، وتكلفة النقل، وغياب نقل عام مستدام ولائق وضعف معايير السلامة المرورية.
اليوم، وعلى الرغم من وجود عدد من الدراسات والمنشورات المرتبطة بقطاع النقل، إلّا أنّها تظلّ متفرّقة وغير مترابطة، حيث تُنتَج بشكل فردي من قبل أفراد، أو مؤسّسات، أو شركات. ورغم أهمية هذه الدراسات، إلّا أنّها تعاني من تحدّيات عدّة، أبرزها التشتّت وعدم الأرشفة المنهجية أو التصنيف العلمي. لذلك، تصبح الخطوة الأولى الضرورية هي جمع هذه الدراسات، وإعادة قراءتها، ثمّ تحليل نتائجها، لاستنباط رؤى شاملة حول واقع القطاع. ويشمل هذا الجهد تنظيم المعلومات وتصنيفها بشكل يساعد على تشخيص المشكلات بدقة وتحديد الفرص الكامنة.
تأتي الدراسات الحالية من مصادر متنوّعة، تشمل تقارير رسمية غالبًا بدعم خارجي، أبحاث أكاديمية تركّز على مواضيع محددة، ودراسات مكاتب استشارية محلية ودولية، بالإضافة إلى تقارير منظّمات دولية. إلّا أنّ معظم هذه الدراسات تعاني من قصور مثل قدم المعلومات، والتركيز الضيّق جغرافيًا أو زمنيًا، أو حتى تأثير التمويل على توجهاتها. ومع ذلك، تظلّ هذه الدراسات عنصرًا أساسيًا لفهم القطاع.
لذا، من الضروري معالجتها بأسلوب علمي ومنهجي، لاستخلاص الدروس والعبر، وبناء قاعدة بيانات متكاملة تساعد على وضع خطة تطويرية متكاملة، واقعية، وقابلة للتنفيذ تتناسب مع خصوصية لبنان واحتياجاته. ولإكمال هذه المعرفة، من الواجب والضروري بشكل عاجل إنتاج أرقام وبيانات دقيقة تعكس الواقع الحالي للقطاع وذلك على مستويين: البنى التحتية ومستخدميها.
على صعيد البنى التحتية الحالية، فالمقصود بشكل أساسي هو الطرقات التي يجب إعادة إحصائها، وتنظيمها وصولًا إلى الهدف الأساس وهو تصنيفها (دولية، محلية، ثانوية، …) بهدف تحديد الأولويات في صيانتها وتحديد وجهة الاستخدام والدور المنوط بكلّ طريق. يسهّل ذلك من جهة، توزيع المسؤوليات على الجهات المعنيّة كما يسهّل إدارة هذه الطرقات وصيانتها ويساهم بشكل مباشر في تحديد الحاجات والأولويّات في مشاريع الطرقات المستقبلية.
بالتوازي مع الطرقات، من الواجب إحصاء وسائل النقل المستخدمة، أوّلًا، عبر تحديث الداتا المتعلّقة بالمركبات ودفاتر السوق بما يعكس الواقع على الأرض لا ما تقوله الأوراق الرسمية فقط. ثمّ الانتقال إلى جرد وإحصاء وتنظيم النقل المشترك الشعبي (فانات، تاكسي، باصات) مما يسمح بمعرفة هذا القطاع ويتيح لنا العمل على تطويره.
بالحديث عن الطرقات والنقل المشترك، من المهم أن تضع الحكومة خطة لإجراء مسح ميداني جديد لأملاك مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك لا سيما خطوط السكة القديمة والتعدّيات عليها والعمل على إصلاح هذا الوضع ممّا يسمح بالتخطيط بشكل أفضل للاستفادة من هذه البنية التحتية الثمينة.
كما بالنسبة للبنى التحتية كذلك بالنسبة لمستخدميها، يجب أيضًا معرفتهم وتشخيص عاداتهم ومشاكلهم وما يأملونه من تطوير لقطاع النقل. يحتّم ذلك وبشكل سريع أيضًا إجراء مسح وطني شامل للنقل عبر تصميم وتنفيذ مسوحات ميدانية تغطّي جميع المناطق اللبنانية لرصد أنماط التنقل، وأنماط استخدام وسائل النقل المختلفة، وحجم الحركة المرورية مع ربطها ببيانات حول البنية التحتية الحالية، بما في ذلك حالة الطرق، ووسائل النقل العام، وعدد المركبات المسجّلة من دون إغفال البيانات المتعلّقة بالتكاليف الاقتصادية والاجتماعية للنقل، مثل الوقود، والتأخير، والتلوّث. يمكن تحصيل هذه الداتا بالتدرّج انطلاقًا من بيروت وضواحيها، قبل الانتقال إلى باقي المدن وبعدها القرى والبلدات ممّا يتيح في النهاية انشاء قاعدة بيانات وطنية للنقل تجمعها وتوحّدها مع جميع الدراسات السابقة والبيانات المستخلصة من المسوحات ضمن نظام معلوماتي موحّد يَسهُل الوصول إليه على أن يتمّ تحديث هذه القاعدة بشكل دوري لضمان توفّر بيانات محدّثة ودقيقة.
من المستحسن أن يتمّ استخدام التكنولوجيا لتحسين جمع البيانات والبحث عن إردافها بداتا حيّة عبر تركيب أنظمة ذكية لمراقبة الحركة المرورية وتحليلها باستخدام الكاميرات وأجهزة الاستشعار كما تطوير تطبيقات تتيح للمواطنين الإبلاغ عن المشاكل المرورية أو تقديم ملاحظات حول جودة الطرقات، والنقل العام، وغير ذلك، في كل منطقة. كما من المفترض التعاون مع شركات الاتصالات الوطنية والتطبيقات العالمية (غوغل، آبل، …) لتحصيل الداتا المجمّعة لديها ليتمّ تحليل بيانات التنقل المستخلصة من الهواتف المحمولة بشكل يحترم الخصوصية.
بعد تحصيل كلّ هذه الداتا، يصبح من المجدي تحليل الأنماط الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية للنقل، لفهم الفروقات بين المناطق المختلفة واحتياجاتها، وعادات التنقل، والتكلفة، إلخ. كما دراسة تأثير قطاع النقل على البيئة والصحّة العامّة وميزانية الأسر، خصوصًا في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية أو لدى الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع. يمكن للدولة أن تتولّى تحصيل كل هذه الداتا بنفسها عبر إنشاء هيئة مختصّة بالموضوع تعمل تحت إشراف الهيئة الناظمة للنقل وذلك طبعًا عبر إشراك المجتمع المدني، والأكاديميين، ومكاتب الدراسات المحلّية والدولية في عملية جمع البيانات وتحليلها.
الأساس من كلّ ذلك هو استثمار هذه البيانات عبر ضمان وصول صانعي القرار إليها لاتخاذ قرارات مبنيّة على المعرفة بدلًا من التخمين أو المصالح الفردية كما يحصل غالبًا. فالرقم في قطاع النقل ليس فقط خطوة تقنية بل فعل سياسي يعكس جدّية الحكومة في وضع قطاع النقل كأولوية وطنية.
وضع قطاع النقل في لبنان في صلب النقاش العام وإشراك جميع المعنيين
قبل الأزمة التي انفجرت في 2019، كان قطاع النقل يغيب بشكل شبه تام عن الحديث السياسي في لبنان ولا يتمّ التطرّق إليه سوى من باب الزحمة أو أسعار المحروقات. ومنذ بداية الأزمة ومع توالي رفع الدعم وأزمة الطوابير على محطات المحروقات وغلاء تكلفة النقل وضعف صيانة الطرقات وغيرها، بدأ الحديث عن قطاع النقل يأخذ منحىً تصاعديًا في البداية قبل أن يخفت سريعًا ويصبح حديثًا موسميًا عند أي مشكلة تطرأ على هذا القطاع ولكن من دون أن يأخذ القطاع وأزمته الحيّز المفروض من الاهتمام العام، وذلك نتاج عملية امتدت عبر عقود جعلت الناس تحصر تنقّلاتها بالسيارة وعبر رؤية القطاع ومشاكله من هذا الباب الضيق.
ولكن إذا ما أردنا تطوير النقل بشكل فعلي فالموضوع لا بدّ أن يكون أبعد من التقنيات والإداريّات ويجب أن يدمج الناس وكلّ المعنيين به بشكل مباشر. فإدماج الناس في عملية تطوير قطاع النقل يعدّ أحد أهم عوامل النجاح لأيّ خطة استراتيجية، فالناس ليسوا مجرّد مستفيدين من هذه الخطط، بل هم شركاء رئيسيون في تنفيذها واستدامتها. وإشراكهم يمكن أن يضمن فهمًا أفضل لاحتياجاتهم الفعلية، ويعزز شعورهم بالملكية للمشاريع، مما يؤدّي إلى زيادة الدعم والتعاون. فإنشاء قطاع نقل متطوّر ليس هدفًا سوى لأنّه يشكّل خدمة تحسّن حياة المقيمين إذا ما تحسّنت وتجعلها أصعب إذا ما ساءت. لذا فإنّ أيّ مقاربة لتطوير قطاع النقل يجب أن تنطلق من كون المستخدمين (أي المقيمين) هم هدف هذا العمل وحولهم يجب أن تتمحور كل المسألة.
أحد أهم الوسائل لتحقيق هذا الإدماج، هو إجراء مشاورات مجتمعية واسعة النطاق في مرحلة التخطيط. فيمكن تنظيم جلسات استماع عامّة وورش عمل تضمّ سكان المناطق المختلفة، يتمّ خلالها تحديد المشكلات المحلية المتعلّقة بالنقل واستقبال اقتراحات لتحسين البنية التحتية والخدمات مثلًا. يمكن لذلك أن يأتي استكمالًا لاستطلاعات الرأي والاستبيانات الواجب القيام بها ضمن مرحلة التشخيص. بالإضافة إلى ذلك، يجب تشجيع المبادرات المجتمعية مثل تشكيل لجان محلية تمثل المناطق المختلفة، تضمّ أفرادًا من السكان، وتهدف إلى تقديم تقارير دورية عن التحدّيات والتطوّرات في قطاع النقل. هذه اللجان يمكن أن تتشكّل عبر البلديات مثلًا وأن تعمل كجسر بين صنّاع القرار والمجتمع المحلي. والهدف من ذلك الوصول إلى أوسع جمهور وتقديم رؤية شاملة عن الاحتياجات المختلفة بحسب الخصائص السكانية، الاجتماعية، الاقتصادية إلخ.
يمكن للتخطيط التشاركي بدل التخطيط المركزي أن يُحدث فرقًا كبيرًا في تحسين قطاع النقل. فكلّ منطقة لديها تحدّياتها الخاصّة التي تحتاج إلى معالجات مخصّصة. وتصميم المشاريع بالتشاور مع البلديات والجهات المحلية يضمن أن تكون الحلول متوائمة مع الاحتياجات الفعلية للسكان وتعالج الاختلافات بين المناطق أو الفئات المجتمعية.
كما لا يمكن معالجة مشاكل النقل بشكل جذري من دون فتح قنوات حوار شاملة بين جميع الأطراف المعنية، سواء من القطاع العام، أو الخاص، أو المجتمع المدني. ويجب أن تكون هذه النقاشات شاملة وأن تركّز على معالجة القضايا اليومية مثل النقل المشترك الشعبي وسائقيه المنسيين، والازدحام المروري، وتدهور البنية التحتية، وتأثير النقل على البيئة، والتكاليف الباهظة التي يتحمّلها المواطن كما على القضايا ذات البعد الاستراتيجي كشكل قطاع النقل والمشاريع الكبرى المرجوّة. فتعزيز التعاون والتواصل بين القطاعين العام والخاص هو عنصر أساسي لنجاح أي إصلاح في قطاع النقل مع المحافظة دومًا على إطار رقابي وتنظيمي يضمن تلبية المصالح العامّة وعدم التضحية بجودة الخدمة لصالح شبكة المصالح في القطاع.
من جهة أخرى، يجب تعزيز التنسيق مع الجمعيات والمجتمع المدني باعتبارهما طرفين رئيسيين في عملية تطوير النقل. فالجمعيات المتخصّصة والمبادرات المدنية غالبًا ما تكون الأقرب إلى الواقع اليومي للمواطنين، وبالتالي يمكنها أن تقدّم رؤىً عملية وحلولًا مبتكرة مبنيّة على تجارب حقيقية. يمكن تنظيم لقاءات وندوات دورية مع ممثّلي الجمعيات والمجتمع المدني لتبادل الأفكار ومناقشة التحدّيات ووضع خطط مشتركة. لا تقتصر هذه اللقاءات على مرحلة التخطيط، بل يجب أن تشمل المتابعة الدورية لضمان تنفيذ المشاريع بشكل فعّال وتعديل السياسات عند الحاجة.
يجب أيضًا إطلاق حملات توعية شاملة لتثقيف الناس حول قطاع النقل، مشاكله وفرصه، كما عن أهمية النقل المستدام ودوره في تحسين جودة الحياة وتقليل التأثيرات البيئية مثلًا. هذه الحملات يمكن أن تتمّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر الأنشطة المدرسية والجامعية، وعبر وسائل الإعلام التقليدية والبديلة من خلال حملات إعلامية وبرامج تثقيفية من شأنها إشراك فئات واسعة من المجتمع في النقاش وتسليط الضوء على قضايا النقل وتعزيز الوعي المجتمعي حول أهميته وتأثيره على الاقتصاد والبيئة.
ومن المهمّ اللجوء إلى التكنولوجيا التي من شأنها أن تؤدّي دورًا حيويًّا في تعزيز المشاركة. فيمكن تطوير تطبيقات رقمية تتيح للمستخدمين الإبلاغ عن المشكلات اليومية في النقل (مثل التأخير، الزحمة، أو تعطّل الأشغال) وتقديم اقتراحات لتحسين الخدمات. كما يمكن أن توفّر هذه التطبيقات معلومات محدّثة حول المشاريع الجارية، ممّا يزيد الشفافية ويبني الثقة بين المواطنين والجهات المعنيّة.
عدا عن المستخدمين، لمشغلّي القطاع صوتهم أيضًا. لذا يجب إيجاد آليّات لإقامة لقاءات دورية مع مشغّلي القطاع من سائقي النقل المشترك ونقل البضائع، إلى شركات النقل، إلى البلديات وغيرها، من أجل ضمان فهم احتياجاتهم وتحدّياتهم اليومية، والعمل على تطوير حلول عمليّة تلبّي هذه الاحتياجات. يجب أن تكون هذه اللقاءات الدورية مُلزمة لكلا الطرفين وأن تتمّ خارج الإطار النقابي المصطنع الذي ابتلع صوت الناس ويجب أن تكون ضمانة لأن تؤخذ أصوات المشغّلين بعين الاعتبار في عملية التخطيط والتنفيذ. كما يمكن أن تسهم في تعزيز التعاون بين مختلف الأطراف، من خلال صياغة شراكات مستدامة وتحفيز الابتكار لتحسين جودة الخدمات المقدّمة لا سيما في النقل المشترك الشعبي.
يعاني قطاع النقل أيضًا، من ضعف في الكادرات المتخصّصة، لذا يجب العمل على إقامة برامج تدريب مرتبطة بقطاع النقل كما التنسيق مع الجامعات من أجل تطوير برامج أكاديمية متخصّصة بهذا المجال.
نتاج عملية امتدت عبر عقود جعلت الناس تحصر تنقّلاتها بالسيارة وعبر رؤية القطاع ومشاكله من هذا الباب الضيق
الهدف العملي: التحوّل نحو نظام نقل مستدام
بالتوازي مع معرفة القطاع وتشخيص مشاكله وتطويره إدرايًّا ومعرفيًّا ووضعه على سلّم الأولويّات، لا يجب بتاتًا إغفال الشق التقني للقطاع ويجب وضع هدف أساسي وواضح مفترض العمل عليه منذ اللحظة الأولى ألا وهو التحوّل نحو نظام نقل أكثر استدامة ومناسب ولائق للجميع.
لن تسعفنا هذه الورقة للخوض في التفاصيل التقنية لهذا التحوّل ولكن يمكن أخذ فكرة كافية من خلال النقاط الأساسية له ألا وهي تعزيز النقل المشترك، والتشجيع على التنقّل السلس وتعزيز السلامة المرورية كما إيلاء الشق المجتمعي الأهمية المطلوبة.
بشكل مباشر، يتطلّب التحوّل نحو نظام نقل أكثر استدامة تقليل الاعتماد على السيارة الخاصّة بشكل تدريجي لصالح وسائل نقل أخرى أكثر كفاءة وعدالة ونظافة. فالسيارة الخاصّة، رغم مرونتها، تشكّل أحد الأسباب الرئيسية للزحمة المرورية، واستهلاك الوقود، والصدامات المرورية، واللامساواة في التنقّل، والاستثمارات الضخمة، وخسارة المساحات والتلوّث البيئي والسمعي والنظري. وتقليل الاعتماد عليها لا يعني فقط خفض تخفيف استخدامها وتقليل الانبعاثات الكربونية مثلًا، بل أيضًا تحسين جودة الحياة عبر تخفيف الزحمة وتعزيز سلامة الطرق وإعطاء مساحة أكثر للناس والتوفير عليهم.
يُعتبر النقل العام العمود الفقري لأيّ نظام نقل مستدام. لذا يجب العمل عبر خطّة لتطوير النقل المشترك الشعبي والعمل على تطوير نقل مشترك رسمي يترابطان ويتكاملان، عبر جودة جيّدة وشبكات شاملة تغطّي المدن والمناطق. إلى جانب النقل العام، يمكن الترويج لاستخدام الدرّاجات كوسيلة نقل يومية، خصوصًا في المدن والمناطق التي يمكن تهيئة بنيتها التحتية بمسارات مخصّصة للدراجات، ممّا يضمن سلامة المستخدمين ويعزّز استخدام هذا النمط. والمشي أيضًا يعدّ خيارًا مستدامًا وصحّيًا، لا سيما إذا تمّ تحسين الأرصفة والبنية التحتية لتسهيل تنقّل المشاة بشكل آمن ومريح. كما أنّ النقل التشاركي هو وسيلة أخرى يمكن أن تساهم في التحوّل نحو الاستدامة، وذلك من خلال منصّات إلكترونية تتيح مشاركة الرحلات بين الأفراد. وهذا الأمر يقلّل عدد المركبات على الطرق ويخفّض التكاليف على المستخدمين. هذا بالإضافة إلى تشجيع المركبات الكهربائية والهجينة التي توفّر حلولًا صديقة للبيئة في التنقل.
يجب ايضًا، العمل على تعزيز السلامة المرورية وهو مسؤولية مشتركة على السائقين، والمشاة، والجهات المعنية. والتوعية هنا تؤدّي دورًا أساسيًا في تعزيز ثقافة القيادة الآمنة، ويجب أن تبدأ من سنّ مبكرة من خلال برامج تعليمية في المدارس وحملات إعلامية موجّهة للجمهور حول أهمية الالتزام بقواعد المرور، مثل احترام الإشارات، والحد من السرعة، وربط حزام الأمان. كما يجب التركيز على مخاطر استخدام الهواتف المحمولة أثناء القيادة والقيادة تحت تأثير الكحول أو التعب.
البنية التحتية الجيدة هي أيضًا عامل حاسم لتحقيق السلامة المرورية. فتصميم الطرق بشكل يضمن وضوح الإشارات وعلامات السير، ووجود حواجز أمان على الطرق السريعة، وإنشاء ممرّات مخصّصة للمشاة كما الإضاءة الكافية في الطرقات والمناطق الحسّاسة كلّها تُسهم في تقليل الحوادث.
الركيزة الثالثة في تعزيز السلامة المرورية هو إنفاذ القوانين. فإعادة تفعيل أنظمة المراقبة مثل الكاميرات والرادارات يساعد على رصد المخالفات مثل السرعة الزائدة أو التجاوزات الخطرة. ولكن يجب أن تكون العقوبات صارمة وعادلة كما يجب تعزيز دور شرطة السير والبلديات.
في النهاية لا يجب إغفال الشق الاجتماعي في قطاع النقل الذي يُعدّ حجر الزاوية لا سيّما فيما خصّ المساواة في التنقّل والإنصاف في الوصول إلى الخدمات والفرص. فالنقل ليس مجرّد وسيلة للتنقل، بل هو أداة تُمكّن الناس من الوصول إلى العمل، والتعليم، والرعاية الصحّية، ممّا يعزّز التماسك الاجتماعي ويحدّ من الفجوات بين الفئات المختلفة، وهو ما يحصل نقيضه في لبنان. تطوير قطاع النقل ولا سيما للفئات المهمّشة، مثل ذوي الدخل المحدود وذوي الاحتياجات الخاصّة، يُقلّل من أعباء التنقّل اليومية التي تؤثّر على جودة حياتهم ويُعزز الاندماج المجتمعي والاقتصادي. فالاستثمار في الشق الاجتماعي للنقل ليس فقط التزامًا أخلاقيًا، بل هو استثمار في مجتمع أكثر توازنًا وإنصافًا.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.