عمّ الفرح في منطقة رأس النبع في بيروت عندما استمرت التغذية بالتيار الكهربائي لنحو 4 ساعات متواصلة. استبشر أهل المنطقة خيراً بأن خطة زيادة التغذية قد بدأت تؤتي ثمارها فعلاً، لكن التدقيق في الأمر أظهر التالي: كهرباء لبنان لا تزال تزود أغلب المناطق بالطاقة لما بين ساعة وساعتين كحد أقصى. لكن الساعات الأربع تلك ناتجة عن استمرار سيطرة عدد من المواطنين على محطة الحرج التي تزوّد الطريق الجديدة وكورنيش المزرعة ورأس النبع وبعض الأحياء المحيطة، إضافة إلى نحو 40% من الضاحية الجنوبية، بالكهرباء. هؤلاء يعمدون إلى حجب الطاقة عن الضاحية بشكل شبه كلي مقابل توزيعها على أحياء أخرى لمدة تزيد أحياناً عن أربع ساعات، في ظل عجز كهرباء لبنان عن السيطرة على المحطة وفي ظل عدم مؤازرتها من القوى الأمنية.
تلك الحالة ليست فريدة من نوعها. محطة بعلبك كانت أيضاً خارج السيطرة إلى أن صارت كهرباء لبنان تتحكم بها من محطة كسارة. والاعتداءات على المحطات الأخرى مستمرة وقد سبق أن طالت محطات: البسطة، بيت ملات، صور، صيدا، بعلبك، المصيلح، الزهراني ووادي جيلو.
ببساطة، هذه المشاكل ما كانت لتواجه كهرباء لبنان لو لم تتحوّل كهرباء الدولة إلى عملة نادرة. اللافت أن الفرحين بالتغذية 4 ساعات هم أنفسهم الذين كانوا يعترضون على قطع التيار لمدة 3 ساعات عندما كانت العاصمة تحصل على كهرباء 21/24. لكن مع الوقت صار بديهياً تأقلم الجميع مع الواقع الأليم. حتى العتمة الشاملة التي كانت تُشكّل رعباً حقيقياً تحوّلت إلى أمر عادي، يُساهم في تعميم الاحتفالات عندما تحلّ الكهرباء على الناس لساعتين أو أكثر.
التخلّي عن اشتراك المولد… حلم قد لا يتحقق
أمام هذا الواقع كان الوعد بتأمين التيار ما بين 8 و10 ساعات يشكل نوعاً من الخلاص لفئتين تحديداً: غير القادرين على دفع الكلفة الباهظة للاشتراك بالمولدات الخاصة وأولئك المنكويين بتلك الكلفة ولا يملكون القدرة على الاستغناء عن الاشتراكات. فعشر ساعات من الدولة كفيلة بتأمين الاستقرار نسبياً، بحيث يصبح خيار التخلّي عن اشتراك المولد ممكناً، بما يوفر ملايين الليرات.
تلك المعادلة أدت إلى الترحيب بخطوة زيادة التعرفة. وهي الخطوة الإصلاحية التي لو نفذت منذ سنوات لما كان قطاع الكهرباء قد كلف الخزينة أموالاً طائلة. الحجة كانت دائماً هي عدم رفع السعر قبل تأمين الكهرباء 24/24. تغيّر كل شيء بعد الأزمة. وما كان مستحيلاً صار بديهياً. فالسعر المقرر للكيلو واط (10 سنت لأول 100 كيلوواط و27 سنتاً لكل استهلاك إضافي على أساس سعر صيرفة) لا يقارن بما يزيد عن 50 سنتاً تدفع بدل كل كيلوواط من المولدات.
لكن كل هذا التفاؤل تكسّر أمام واقع الانهيار المتفاقم، والذي يجعل أيّ تحسّن في حياة الناس ولو كان بسيطاً ضرباً من الخيال. فحتى اليوم، كل شيء يشي أن قرار وزارة الطاقة زيادة ساعات التغذية لن يُنفّذ. ما صار ساري المفعول فقط هو رفع التعرفة (تم تصوير العدادات تباعاً في كل المناطق بدءاً من أول تشرين الثاني ليتم احتساب الاستهلاك الجديد على التعرفة الجديدة). وهو ما يبدو أنه كان الهدف الأساسي خلف موافقة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على الخطة، ضامناً بذلك تنفيذ أحد مطلبي البنك الدولي (المطلب الثاني هو تعيين الهيئة الناظمة للقطاع). إذ بدأ فعلاً التسعير على أساس التعرفة الجديدة من دون أن تشهد التغذية أي تعديل، وإن لن تبدأ الجباية على أساس السعر الجديد قبل شباط المقبل. ما يعني أن الخطة التي وافق عليها مجلس الوزراء في آذار الماضي، ووضع مجلس إدارة كهرباء لبنان آلية تنفيذها في آب الماضي قد تُنسف برمّتها إذا استمر الوضع على حاله.
ساعتا تغذية بدلاً من 10 ساعات
بالرغم من أنه كان يفترض أن ترتفع ساعات التغذية إلى ما بين 8 و10 ساعات في الأول من كانون الأول، إلا أن الواقع أن التغذية بالكاد تصل إلى ساعتين في أغلب المناطق التي لا تزال المحطات فيها خاضعة لسلطة كهرباء لبنان. وبحسب الظروف الراهنة فإن لا شيء يشي بإمكانية تحسّن الوضع. فالخطة تحتاج إلى تضافر جهود عدد من الوزارات والجهات، بحسب قرار مجلس إدارة كهرباء لبنان الصادر في 5/8/2022، والذي يربط بين تنفيذ الخطة وتعاون وزارات العدل والداخلية والدفاع والمالية ومصرف لبنان، إضافة إلى مجلس الوزراء. فكهرباء لبنان كانت اعتبرت أن نجاح الخطة يتطلب:
– صرف واردات المؤسسة بالليرة اللبنانية إلى دولار أميركي، بصورة منتظمة، حسب سعر الصرف على منصة صيرفة الذي سوف يحدّده شهرياً مصرف لبنان لتسديد التزامات مؤسسة كهرباء لبنان المالية، بما فيها شراء المحروقات وأعمال التشغيل والصيانة والتصليحات للمنشآت والتجهيزات.
– تأمين المؤازرة الأمنية من جانب القوى الأمنية لفِرق المؤسسة في حملات نزع التعديات على الشبكة الكهربائية.
– لحظ الاعتمادات اللازمة في الموازنة العامة للدولة وموازنات المؤسسات العامة، بما فيها مصالح المياه وموازنات البلديات وغيرها من هيئات القطاع العام، لتسديد فواتير استهلاكها للكهرباء حسب التعرفة الجديدة.
– الطلب من الحكومة اللبنانية تأمين التمويل اللازم لدفع فواتير استهلاك الطاقة الكهربائية من قبل مخيّمات غير اللبنانيين.
زيادة التعرفة تقترن بزيادة أخرى
مجلس إدارة كهرباء لبنان كان أشار إلى أن عدم التقيّد بالشروط المذكورة سيدفع المؤسسة إلى رفع المعدل الوسطي لتعرفة مبيع الطاقة من 27 سنتاً إلى حوالي 37.6 سنت لكل كيلوواط من أجل تأمين التوازن المالي، علماً أن التعرفة المخفّضة المحددة ب10 سنتات يُفترض أن تعوّض من خلال الشق الثابت من التعرفة لجميع المشتركين، والذي يحدد كالتالي: 21 سنت عن كل أمبير واحد (أغلب العدادات المنزلية قدرتها 15 أمبير) زائد 4.3 دولار بدل تأهيل.
وبالرغم من أن كلفة الاستهلاك ليست ثابتة وهي يُفترض أن تتغير كل شهر أو شهرين ربطاً بتغيّر السعر العالمي للنفط وتبعاً لتغيّر سعر صيرفة. لكن بعد أن نكث مصرف لبنان بتعهده تأمين الأموال للمؤسسة على سعر صيرفة، وإشارته إلى أنه سيؤمنها على سعر صيرفة زائد 20%، فقد صار جلياً أن التعرفة سترفع من اليوم الأول لبدء الجباية على السعر الجديد. إذ علمت “المفكرة القانونية” أن الفواتير ستتضمن عبارة تشير بوضوح إلى رفع التعرفة بالليرة 20% عن سعر صيرفة “استناداً إلى قرار مصرف لبنان”. كذلك علمت “المفكرة” أن الفاتورتين اللتين تسبقان فاتورة شباط ستتضمّنان كل المتأخرات والتي تصل في بعض المناطق إلى نحو سنتين، بحيث سيتم جمع فواتير العام 2021 بكامله في فاتورة واحدة، على أن يليها فاتورة ثانية تغطي الأشهر العشرة الأولى من 2022، فيما تشمل فاتورة شباط المبنية على التعرفة الجديدة أشهر تشرين الثاني وكانون الأول 2022 وكانون الثاني 2023.
وفيما يُتوقع أن لا يشكل جمع الفواتير السابقة مشكلة بسبب الكلفة المنخفضة لسعر الكيلوواط، فإن فاتورة شباط ستكون مختلفة. صحيح أن التغذية لم تتحسّن. وبالتالي، لا يُفترض أن يكون الصرف في الأغلب قد تعدّى شطر التعرفة المخفّضة (وهو ما تخشى المؤسسة أن يقوض خطتها لتحقيق التوازن المالي). إلا أن الكلفة الثابتة ستكون كبيرة، وهي بالنسبة للاشتراكات العادية تصل إلى 10 دولار شهرياً (15 أمبير * 0.21 دولار + 4.3 دولار * 20%) من دون احتساب الاستهلاك.
المشكلة الأكبر أن الناس ستكون أمام واقع زيادة الفاتورة من دون زيادة التغذية. وهو ما تخشى المؤسسة أن يؤدي إلى زيادة التخلف عن الدفع. إذ لا يزال الخلاف قائماً على كيفية دفع ثمن الفيول، بعد تراجع مصرف لبنان عن التزاماته تباعاً. فهو كان تعهد بتأمين 650 مليون دولار على سعر صيرفة تكفي لشراء الفيول لفترة ما بين 5 و6 أشهر (تؤمن وزارة المالية الأموال من الخزينة في هذه الفترة بحيث تكون كهرباء لبنان قد بدأت بالجباية على السعر الجديد، بما يسمح لها بتأمين الأموال بالليرة لمصرف لبنان بعد ذلك)، ثم عاد وأوضح أنه لن يؤمّن أكثر من 300 مليون دولار قبل أن يعلن مؤخراً أنه سيعتمد سعر صيرفة زائد 20%. لكن حتى هذا التعهد لم ينفذ. فبعد أن أطلقت وزارة الطاقة مناقصة لشراء 65 ألف طن من المازوت على أن يتم الدفع بعد ستة أشهر، رفض مصرف لبنان تسليم كفالة دفع للشركة الناقلة، ولا يزال الأمر عالقاً، حيث ترسو الباخرة أمام الزهراني، وكلما طال رسوها كلما زادت قيمة الغرامات، التي ستضاف إلى الفائدة التي ستدفع بعد ستة أشهر.
مصرف لبنان يعرقل التمويل
المشكلة أنه حتى لو حلّت مسألة الدفع، فلم يعرف بعد ما إذا كانت الأموال التي يؤمنها المصرف ستكون على شكل قرض أم سلفة، علماً أنه تردّد مؤخراً أنّ المصرف يصرّ على صدور قانون سلفة من مجلس النواب. أضف إلى أن هذه التجربة تؤكد أن عملية انتظام التغذية لن تكون ممكنة، طالما أن لا انتظام في الدفع أو في تأمين الفيول. فالحصول على 8 ساعات تغذية يحتاج إلى نحو 150 مليون دولار شهرياً. وحتى مع انتظام عملية الدفع، فإن تخصيص كهرباء لبنان ب300 مليون دولار فقط سيعني حكماً أن التغذية لن تزيد عن 4 إلى 5 ساعات بحيث يتم إنتاج ما بين 550 و600 ميغاواط يومياً، بدلاً من نحو 1000 ميغاواط بحسب الخطة، علماً أن الانتاج حالياً لا يزيد عن 200 ميغاواط، وهو ناتج بالكامل عن الفيول العراقي، الذي لا يزال المصدر الوحيد للفيول.
مع ذلك، فإن كهرباء لبنان لا تزال تتفاءل بإمكانية تحقيق أهداف الخطة، انطلاقاً من أنها الفرصة الأخيرة لإعادة التوازن المالي إلى المؤسسة. وقد وافق مجلس إدارتها في اجتماعه الأخير في 21/12/2022 على خطة لنزع التعديات تعتمد على منطق “من لا يدفع لا يحصل على الكهرباء”. ففي حين يصل الهدر غير الفني إلى 36%، ستعمد المؤسسة إلى تخفيض هذا الهدر من خلال “تنظيف”، كما يسمي موظفو كهرباء لبنان عملية نزع التعديات، كل مخرج تغذية (عدد المخارج المنبثقة عن المحطات ال78 هو 800 مخرج) قبل زيادة عدد ساعات التغذية عليه. لكن مشكلة هذه الخطوة أنها تتسم بغياب العدالة. فإذا كان ثمة في منطقة ما 20% ممن يحصلون على الكهرباء بطرق غير قانونية، فلا يمكن تحميل المسؤولية لل80% الملتزمين بالدفع. وبالتالي الأجدى تطبيق شعار من لا يدفع لا يحصل على الكهرباء بشكل فردي لا جماعي.
هذه الخطة ستقود إلى زيادة التغذية في بيروت أولاً كونها صاحبة أقل نسبة من التعديات، علماً أن إشكالية أخرى على كهرباء لبنان حلها هي “التعليق القانوني” على الشبكة، بحيث يسمح لكل مشترك تقدم بطلب الحصول على العداد ولم ينفذ طلبه الحق في الحصول على الكهرباء من دون قياس مصروفه، وهؤلاء يصل عددهم إلى 100 ألف مشترك، فهل سيتحمل المشتركون مسؤولية هذا الهدر؟
صراع سياسي كهربائي بين ميقاتي و”التيار”
اللافت في كل ما جرى أن رئيس الحكومة الذي كان أكثر المتحمسين لتنفيذ الخطة والذي طالب بإطلاق المناقصات على مسؤوليته، لم يعد يبالي. وحتى مع وصول الباخرة ونشوب خلاف بشأن كيفية تأمين مستحقاتها لم يتدخل. علماً أن التلزيم قد رسى على شركة “فيتول – البحرين” لتأمين المازوت والفيول أويل من نوعيه A وB. وبناء عليه، أعدّت وزارة الطاقة طلبات فتح اعتمادات لثلاث شحنات. وعندما وصلت الشحنة الأولى في 15 كانون الأول الحالي والتي تحمل 66 ألف طن من المازوت، طالب وزير الطاقة بفتح الاعتماد، إلا أن وزارة المالية أشارت إلى عدم جواز فتح اعتماد مؤجل لستة أشهر، مطالبة بإقرار سلفة خزينة بقيمة الشحنة (62 مليون دولار) بشكل فوري. أما مصرف لبنان الذي أعلن موافقته على دفع 300 مليون دولار خلال ستة أشهر، فلم يعطِ بدوره تعهداً بالدفع في الفترة المحددة. وهو ما يؤدي عملياً إلى خسائر ضخمة تتراكم بسبب عدم تفريغ حمولة الباخرة، والتي تُقدّر ب18 ألف دولار يومياً. وأمام هذا الواقع لا يمكن الحديث عن أي تحسّن في التغذية، وأول شروطها انتظام وصول شحنات الفيول، بالرغم من أن الخطة أقرت منذ ستة أشهر حيث يفترض أن تكون كل الجهات المعنية قد نفذت الشق المتعلق بها.
أضف إلى أن رئيس الحكومة يفترض أن يتحمل مسؤوليته في حسم المسألة خاصة أنه هو الذي طلب إجراء المناقصة من دون تأمين اعتمادها مسبقاً. فهل صحيح أن ما يتردد بين عدد من الجهات المعنية من أن ميقاتي لم يعد يبالي بتحسين التغذية، ربطاً بالصراع المتجدد مع التيار الوطني الحر على انعقاد مجلس الوزراء، خاصة في ظل مقاطعة وزير الطاقة للجلسة التي عقدت مؤخراً؟