“
سجل رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد موقفاً هاماً من التدخلات السياسية في القضاء، وصرح بأن “القضاة لا يزالون مجبرين على صد هذه التدخلات في أعمالهم بأنفسهم دفاعاً عن استقلالهم في أداء مهامهم القضائية”. كلام فهد جاء خلال حفل إحياء الذكرى الـ 19 لاستشهاد القضاة الأربعة في باحة الخطى الضائعة في قصر العدل في بيروت بتاريخ 8 حزيران 2018. وكان القضاة الأربعة اغتيلوا أثناء أداءهم لمهامهم على قوس محكمة الجنايات في صيدا في 8 حزيران 1999.
وقف القاضي فهد أمام النصب التذكاري للشهداء، المحاط بأكاليل الورود، ليؤكد أن “هذه الذكرى هي مناسبة للتأمل بمعاني الرسالة التي يؤديها كل قاض”. وأضاف، إن “حماية القضاء ضد الأخطار الجسدية، يشكل موجباً أساسياً على عاتق الدولة، داعيا إلى توفير مستلزمات هذه الحماية. وذكر أن “قصر العدل في بيروت يعاني من النقص في وسائل المراقبة المتاحة، داعياً الحكومة اللبنانية إلى توفير جميع مستلزمات هذه الحماية، وهي غير مكتملة حتى تاريخه”.
الحماية الأمنية بالنسبة للقاضي فهد “لا تقل أهمية عن تحصين القضاة من التدخلات في أعمالهم”. وأعلن أن “مجلس القضاء الأعلى، يبحث في إنشاء منظومة اجراءات إلزامية يتحتّم على كل قاض مباشرتها فور تعرضه لأي تدخل أو ضغط من أي نوع كان، كي يتمّ توثيق هذه التدخلات وإحصائها وتحديدها بدقة، فتغدو مكافحتها مسؤولية جماعية، ولا يعود القاضي وحيداً في التصدي لها”.
الخطاب نفسه كان فهد قد حرص على إيصاله إلى رئيس الجمهورية ميشال عون قبل أسبوعين في 28 أيار 2018 خلال تأدية سبعة قضاة جدد اليمين القانونية أمام عون في قصر بعبدا. إذ ورد بكلمته حينها تصريحات عن تدخل السياسيين في العمل القضائي، قائلاً: “لا أُخفي سراً إن قلتُ إن الكثيرَ من السياسيين والعاملين بالشأن العام يمطرون هواتف بعضِ القضاة باتصالاتٍ للتأثيرِ على مجرياتِ تحقيقٍ أو محاكمة”. وشدد على “العمل لمعالجة هذه الظاهرة التي تُثقل كاهل القاضي وتضعُه يومياً في امتحان تجربة السقوط في لحظة ضعف”. كما لفت فهد في تلك المناسبة إلى أنه “من أولى واجبات القاضي أن يكون مستقلاً في ممارسة عمله القضائي، إلا أنه يقتضي توفيرُ خطّ دفاعٍ عن هذه الاستقلالية كي لا يكونَ مجبراً على القتالِ يومياً دفاعاً عنها”.
تأتي هذه التصريحات بعد حالة إنكار عاشها مجلس القضاء الأعلى في السنوات السابقة لأي طرح يشير إلى حجم التدخلات السياسية في القضاء، حيث كان يعمد دوما إلى التخفيف منها. في هذا الاتجاه، كان فهد قدم تعليقاً على موضوع علاقة القضاة بالسياسيين في مقابلة مع المفكرة القانونية نُشرت في عددها الـ 36 بتاريخ 1 آذار 2016، وذلك ردا على تساؤلات المفكرة بشأن العلاقات التي بات قضاة كثيرون يقيمونها بانتظام مع سياسيين. فردا على هذه المخاوف، بدا وكأنه يخفف منها بحجة أنها ليست سيئة بحد ذاتها، إنما تصبح كذلك فقط “حينما تصبح سبباً لتغيير نتيجة أي قرار قضائي” مشددا على أن المجلس لا يريد “أن يشكل الأمر نوعاً من “السرسبة”. وأضاف، “ليس من السهل وضع قواعد واضحة ومفصلة بهذا الشأن (أي بشأن تردد القضاة لدى السياسيين)… هناك قضاة تجمعهم صداقات طويلة الأمد بسياسيّين وغير متولّدة دائماً عن موقعهم القضائي”.
في اتجاه معاكس تماما، ذهب تصريح وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال سليم جريصاتي خلال الحفل. ففيما انتقد خطاب فهد من زاوية أن “التشكيك في القدرة على إعلاء الحق أو الاتهام بالامتثال لرغبات السياسة أو لترغيب من نوع آخر” يشكل اغتيالا معنويا، عاد ليبرز فكرة “القاضي ضمانة نفسه” بما يبرئ السياسيين تماما. وفي هذا المجال، صرح أن “السلطة القضائية المستقلة عليها أن تثبت استقلاليتها بذاتها، فتستحقها من دون منة من أو منحة من أحد”. وبهذا المعنى، على القاضي أن يكون بطلا ويصمد بوجه النظام بأكمله من دون أن يكون لأحد أن ينتقد واقع التدخلات أو أن يمده بوسائل الصمود حتى. وأضاف، “لا أدري إن كان المشككون يدرون ماذا يفعلون في هذه السلطة التي تبقى الملاذ الأخير لكل متظلم من إساءة”.
أمام ادلاءات جريصاتي كانت مقاعد الحفل ممتلئة بالقضاة، ومنهم القضاة الذين قادوا حراك استقلالية القضاء في آب 2017، وآذار 2018. وهم الذين تقدموا بطلب إلى وزارة الداخلية لإنشاء ناد للقضاة. وقد أعلمنا هؤلاء أن وزارة الداخلية أحالت بيان الجمعية إلى وزارة العدل لإبداء الرأي، وما زال القضاة ينتظرون جواب الوزارة. وقد علمت المفكرة أنهم سيتوجهون إلى الطعن في مجلس شورى الدولة في حالة الرفض.
لم يمض 24 ساعة حتى تفجرت فضيحة تدخل سياسي جسيم في القضاء، وتحديدا في تعيين القضاة المتدرجين الجدد. فقد نشرت وسائل إعلام لبنانية خبراً مفاده أن وفداً من أهالي وفعاليات بلدة مرياطه قضاء زغرتا، وعلى رأسهم الفائزة في مباريات الدخول إلى معهد الدروس القضائية القاضي المتدرج نور علي اسعد، قاموا بزيارة الوزير بيار رفول في مكتبه في بلدة مزيارة. وهدفت الزيارة لشكره على وقوفه إلى جانب أصحاب الكفاءة في الوصول إلى المراتب والمراكز التي يستحقونها، وبالمقابل هنأ رفول القاضي المتدرج على النجاح مشدداً على قاعدة العدل اساس الملك”. يشير هذا الخبر إلى وجود تدخل سياسي في نتائج مباريات الدخول إلى معهد الدروس القضائية، وهو يشكل من هذه الزاوية سبب ارتياب مشروع في جميع نتائج هذه المباريات، وهو خلل يسأل عنه مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل على حد سواء.
القضاة الأربعة: ذكرى وطنية
بعد مرور 19 عشر عاماً على استشهاد القضاة الأربعة في صيدا، أصبح تاريخ 8 حزيران من كل عام ذكرى وطنية كرسها رئيس الجمهورية ميشال عون بموجب مرسوم يحمل الرقم 2196 الصادر بتاريخ 16 كانون الثاني 2018. خلال كلمته، عدد القاضي فهد أسماء القضاة الشهداء وأؤلئك الذين تعرضوا لمحاولة اغتيال. فالقضاة الشهداء هم الرئيس الأول القاضي حسن عثمان، والقاضي عماد فؤاد شهاب والقاضي وليد محمد هرموش والقاضي عاصم خالد أبو ضاهر. وذكر القاضي فهد، محاولة اغتيال المحامي سالم سليم والمساعدين القضائيين كميل رحال وسعيد سعيد شمس الدين على قوس محكمة الجنايات في الجنوب، واغتيال القاضي قبلان كسبار أمام قصر العدل في زحلة ومحاولة اغتيال الرئيس الأول القاضي أحمد مهنا في صيدا والقاضي فادي النشار على قوس محكمة الدرجة الأولى في بيروت”. وأكد القاضي فهد أن ذلك بهدف “للنيل من العدالة في لبنان وإسقاطها، إضعافاً لدولة القانون ودولة الحق ودولة الديمقراطية ودولة الحرية”.
من جهته ألقى نقيب المحامين في بيروت اندريه الشدياق كلمة مثل فيها نقابتي بيروت وطرابلس، واعتبر أن الشهداء قضوا شهداء الواجب، وذهبوا ضحية إرهاب استفحل مذاك”. ثم لفت الشدياق على أن في العام المقبل ينقضي عقدان على الجريمة”، سائلاً، بعدما حددت مواعيد المحاكمة متى يكون إفهام الحكم؟
وكان قد صدر القرار الظني في هذه القضية في 25 تشرين الثاني 2017، عن المحقق العدلي القاضي بيار فرنسيس. والذي تضمن الظن بثمانية متهمين، ستة منهم ظن فيهم بالمادة 335 من قانون العقوبات، لإقدامهم على تأليف جمعية أشرار وهي “عصبة الأنصار”، بقصد ارتكاب الجنايات على الناس والأموال والنيل من سلطة الدولة وهيبتها والتعرض لمؤسساتها القضائية. وبجنايتي المواد 549 و549/201 عقوبات. كما ظن القرار بإثنين آخرين في المادة 408 عقوبات، التي تعاقب بالأشغال الشاقة الموقتة من أقدم على كتم معلومات اثناء شهادتهما خلال تحقيق جنائي. [1]
ويُذكر أنه في تاريخ 13 تموز المقبل سيتم متابعة محاكمة المتهمين أمام المجلس العدلي برئاسة القاضي جان فهد.
[1] تفاصيل القرار الظني بقضية اغتيال القضاة الأربعة في صيدا، 25 تشرين الأول 2017، المؤسسة اللبنانية للإرسال، https://goo.gl/3LmKc6.
“