في الفترة السابقة حدثت تطوّرات عدّة في وضع حقوق الإنسان في مصر. وفيما لا تزال مواضيع المعتقلين في قضايا سياسية والحبس الاحتياطي وتدوير القضايا والتضييق على حرّيّة الصحافة والمجال العامّ تثير القلق والنقد العامّ، صدرت وثيقة الاستراتيجيّة الوطنية لحقوق الإنسان في 11 سبتمبر الماضي كما أُعلن إلغاء حالة الطوارئ في 26 أكتوبر.
وبينما رأى البعض في هذه التطوّرات، بخاصّة إلغاء حالة الطوارئ، خطوة واعدة تبشّر بمرحلة جديدة تكون فيها حقوق الإنسان موجودة بوضوح على أجندة الدولة، آخرون أنّها خطوة شكلية تستهدف التقارب مع الشركاء خارج البلاد. وذهب فريق ثالث إلى أنّه مهما كان الهدف، فهذه التطوّرات ليست كافية. لكن لا بدّ أن يتبعها مزيد من الإصلاحات القانونية والمؤسّسية والخطوات الجادّة، بخاصّة فيما يتعلّق بالحقوق السياسية.
تتوقّف هذه المقالة عند خطاب النظام الحالي حول حقوق الإنسان. لا شكّ أنّ الخطاب قد مرّ بمراحل عديدة تطوّرت خلالها مكوّناته. لكن سنركّز هنا على الخطاب الأقرب زمنيّاً للحظة إطلاق الاستراتيجيّة الوطنية لحقوق الإنسان عن طريق تحليل التعليقات الرئاسية في مؤتمر إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان، 11 سبتمبر الماضي، وفي قمّة فيشغراد في أكتوبر 2021 لنستشفّ من مكوّناته ما إذا كانت الاستراتيجية تعكس توجُّهاً جديداً للنظام في موضوع حقوق الإنسان. ثمّ ننتقل إلى تحليل الوثيقة نفسها في ضوء الخطاب وتقديم مقترحات لفهم إصدارها في هذا الوقت.
1- مكوّنات الخطاب المصري لحقوق الإنسان
نقترح في هذه الفقرة أنّه على الرغم من إطلاق استراتيجيّة وطنية لحقوق الإنسان لا يبشّر خطاب النظام بتوجُّه جديد في صدد حقوق الإنسان في مصر، خصوصاً في ما يتعلّق بالحقوق المدنية والسياسية. فالخطاب يقدّم رؤية واضحة تربط بين الحقوق السياسية وغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتمنح الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أولويّة على الحقوق السياسية. كما يرفض الخطاب بوضوح أيّ ضغوط خارجية في موضوع حقوق الإنسان، وينتقد تحديداً الحُكم القِيَمي والمعياريّة في هذه الضغوط. كما يؤكّد الخطاب أنّ أُسُس الشراكة بين مصر والغرب، بخاصّة الدول الأوروبية، تتزايد وتتعمّق سواء على مستوى العلاقات الاقتصادية وصفقات الأسلحة، تحديداً فيما يخصّ قضيّة الهجرة التي نسلّط عليها الضوء بشكل خاصّ بسبب محوريّتها في خطاب النظام.
أوّلاً : حقوق الإنسان أم الاستقرار؟
يرى الرئيس السيسي أنّ الأولويّة لبناء الدولة ومؤسّساتها قبل حقوق الإنسان. ففي رأيه ” في 2011، تحرّكت الشعوب سواء بحسن أو سوء نيّة لتدمير بلادها على أمل أنّ التدمير سيؤدّي إلى بناء أفضل”. أي أنّ ثورة يناير هدّدت استقرار الدولة وأضرّت باستقرار المسار السياسي، وحتّى “كتبت شهادة وفاة الدولة المصرية”. ويؤكّد السيسي “أنا مقدرش أدّي حقوق دلوقتي وإلّا هاخدها تاني (…)”. بمعنى آخر، إنّ الإصرارعلى حقوق الإنسان سيؤدّي إلى فوضى مماثلة للتي حدثت في بعض دول الجوار.
ثانياً: اختلاف المقاربة لحقوق الإنسان
إذا كان التعلُّل بالخصوصيّة الثقافية الأسلوب الذي تتّبعه النظم السلطوية المختلفة للالتفاف حول انتهاكات حقوق الإنسان، سواء بشكل عامّ أو في مجالات محدّدة، فالنظام المصري الحالي يختلف في هذه النقطة إذ تأخذ فكرة الخصوصيّة لديه منحى مميَّزاً.
ينطلق الخطاب من أنه لا يوجد خلاف في مبدأ وجود حقوق الإنسان في حدّ ذاته. لكنّ الخلاف يكمن في تعريف هذه الحقوق وتحديد الأولويّات. فوفقاً للرئيس عبد الفتاح السيسي، لا تتوقّف حقوق الإنسان عند الحقوق السياسية، لكنّها تمتدّ إلى لحقوق الاقتصادية والاجتماعية. بالتالي يركّز خطابه على أنّ أولويّة النظام الحالي هي ضمان الحقوق الاقتصادية، فلا جدوى للحديث عن حرّيّة الرأي والتعبير والتجمّع، ولا الحقّ في التعليم طالما لدينا مشكلة فقر في البلاد. ومن هنا، يعتبر السيسي برامج مثل “حياة كريمة” و”تكافل وكرامة”، وحتّى مشروعات النظام الاقتصادية الكبرى، خطوات من الدولة لضمان حقوق الإنسان وليس مجرّد خطوات تنموية.
وجاء خطاب السيسي في فيشغراد ليضيف بُعداً جديداً على هذا المكوّن، مسؤوليّة الدول الأوروبية في المشاركة في التنمية في مصر ودول المنطقة قبل تقديم مطالب بتحسين أوضاع حقوق الإنسان: “هل الدول الأوروبية مستعدّة أن تساهم وتشارك في تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية وحتّى الثقافية حتّى نصل لمقاربة مختلفة لفهم ما يخصّ حقوق الإنسان (…) ولّا إحنا بنقدّم مطالب فقط للقيادة السياسية الموجودة في الدول ونطالبها أنّها توفّر المعايير اللي أنتم متصوّرينها”.
إنّ تسليط الضوء على مشكلة الفقر وإعطاءها أولويّة يمنح هذا الطرح قدراً من الأهمّيّة. وتعتبر بعض تحليلات التنمية السياسية أنّ ثمّة علاقة وثيقة بين التنمية الاقتصادية والديموقراطية والتنمية السياسية. إلّا أنّ هذه الحجّة تفتح المجال أمام تساؤلات عدّة عن وضع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الفعلي في ظلّ السياسات الاقتصادية الحالية مع ارتفاع معدّلات الفقر والتضخّم ومحدودية تأثير برامج الحماية الاجتماعية، وغلبة خطاب الـ “تبرّع” والـ “مبادرات” على السياسات الممنهجة طويلة المدى.
ثالثاً: نقد الحكم القيمي وازدواجيّة المعايير في الخطاب الأوروبي لحقوق الإنسان
يظهر في خطاب النظام المصري قدر من النقد للخطاب الحقوقي الأوروبي وهو يقوم على أساسَيْن:
الأوّل، أنّ ثمّة إشكاليّات في وضع حقوق الإنسان في أوروبا. فلا داعٍ لاتّخاذ وضعيّة التعليم أو الوعظ عند الحديث عن حقوق الإنسان في مصر. وقد رأينا الرد الصادر على بيان لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة الذي انتقد وضع حقوق الإنسان في مصر في ربيع 2021، يذكر دولاً بعينها ويسرد ما يعتبره انتهاكاً لحقوق الإنسان من ممارسات التمييز العنصري ضدّ المواطنين من أصول أفريقية والعنف ضدّ اللاجئين وقضايا الفساد، وحتّى من عنف الشرطة ضدّ المتظاهرين في إشارة غير مباشرة إلى مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا وغيرها. تظهر في هذا البيان رسالة واضحة: الضغط على مصر لتحسين وضع حقوق الإنسان يعكس معايير مزدوجة. في مقابل ذلك، نجد السيسي يأخذ خطوة أبعد فينتقد المقاربة القِيَمية لحقوق الإنسان، أي اعتبارها موضوعاً أخلاقياً، مشيراً إلى أنّ مصر تتمتّع بالتميّز “الأخلاقي” بالمقارنة مع أوروبا في موضوع مثل التعامل مع اللاجئين. إذ يؤكّد السيسي في قمّة فيشغراد أنّ ” مصر أبت من منظور حقوق الإنسان أنّها تسمح بالمزايدة على …الضيوف مبنسميهمش لاجئين ومعندناش معسكرات لاجئين في مصر، بيعيشوا بينّا ويتعلّموا في مدارسنا”.
أمّا الأساس الثاني، فهو انتقاد المعياريّة في خطاب حقوق الإنسان. يكرّر الرئيس عبد الفتاح السيسي القول إنّه مستعدّ للمجادلة مع “أصدقائنا الأوروبيين” حول حقوق الإنسان على هذا المبدأ، منتقداً التصوّر الغربي للتاريخ واعتبار نموذج الديموقراطيّات الأوروبية المثالَ الذي لا بدّ أن تتبعه كلّ المجتمعات فيقول “عايز تفرض عليّا نموذجك الثقافي وتعتبر أنّه القمّة. هو القمّة لك لكن ليس لي ولمجتمعي”.
والحقيقة أنّ هذه الحجّة تعكس إشكاليّة علمية وعملية حقيقية، بل هي أحد موضوعات الجدل المحتدمة منذ تسعينيّات القرن الماضي في أدبيّات التنمية السياسية ودراسات الدمقرطة (democratization): كيف ندرس تحوّلات الأنظمة بدون اعتبار نموذج الديموقراطية الغربية معياراً ونموذجاً مثالياً، وبدون التمسُّك بتصوّر عن تطوّر طبيعي للتاريخ نحو هذا النموذج؟ لكن يعود السيسي، في الخطاب نفسه، ويقدّم حجّة تسير في الاتّجاه المضادّ وتعيد إنتاج فكرة التطوّر الطبيعي للتاريخ فيقول “ليه مش عايزني أتطوّر التطوّر الطبيعي وآخد وقتي في مسار التحضّر الإنساني. أنا عمر الدولة المصرية 200 سنة إدّونا فرصة وساعدونا”.
إذا كانت إشكاليّات المعايير المزدوجة والتوجّه القيمي لتعريف حقوق الإنسان تعكس جدلاً نظرياً هامّاً، فإنّها تصطدم بحقيقتَيْن. الأولى: ثمّة حركات اجتماعية كثيفة في المجتمعات الأوروبية والأميركية تنتقد بشكل مستمرّ انتهاكات حقوق الإنسان في بلادها. وبالتالي إذا كانت بعض الحكومات تتبع معايير مزدوجة، فالحراك الاجتماعي يمارس دوراً رقابياً أساسياً ويدفع بوضع حقوق الإنسان في أوروبا إلى الأمام. الثانية: أنّ حركة حقوق الإنسان في مصر، على الرغم من كونها جزءاً من حركة حقوق إنسان عالمية، لا تعيد إنتاج نموذج غربي بل تتّخذ صِيَغاً ومسارات حراك مصرية، وساهمت خلال أكثر من أربعة عقود في إنتاج معرفي وقانوني لتسليط الضوء على إشكاليّات محلّية هامّة، سواء من ناحية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو الحقوق السياسية. وبالتالي فإنّ الضغط لتحسين أوضاع حقوق الإنسان لا يعني بالضرورة تنفيذ نموذج غربي.
رابعاً: الشراكات الاقتصادية والتعاون في مجالات الهجرة ومكافحة الإرهاب مقابل تخفيف الضغط على حقوق الإنسان
لا شكّ أنّ مكافحة الإرهاب والشراكات الاقتصادية في مجالات متعدّدة، بخاصّة السلاح، قد ساهمت بقدر كبير في تشكيل الخطاب المصري حول حقوق الإنسان. لكنّنا نركّز هنا على دور التعاون في مجال الهجرة، نظراً إلى ظهوره بشكل أوضح في الخطابات الأخيرة. تُبيّن تحليلات التعاون المصري الأوروبي في مجال الهجرة تكثيف التعاون بشكل متزايد منذ 2015 مع تفاقم ما سُمِّيَ “أزمة الهجرة”.
وعلى الرغم من الإبهام في السياسات المصرية والتعقيد المؤسّسي في هذا المجال نجحت مصر في تصدير نفسها كلاعب أساسي وشريك محوري في التحكّم في مسارات الهجرة، سواء في اتّفاقيّات متعدّدة الأطراف أو ثنائية مع الاتّحاد الأوروبي أو دول أوروبية بعينها. كما نجحتْ مصر في تعريف إشكاليّات أزمة الهجرة بطريقة تتناسب مع مصالحها الإقليمية والداخلية. واستطاع النظام المصري استخدام هذه الوضعيّة المميَّزة في الشراكة الأوروبية لدعم الشرعيّة الدولية والداخلية على الرغم من انتقادات أوضاع حقوق الإنسان. وأيضاً لتقوية المؤسّسات الأمنية من خلال التدريبات المشتركة واستيراد الأجهزة والتقنيات.
وهكذا أصبحت فكرة التحكّم في الهجرة، مقابل تخفيف الضغط على أوضاع حقوق الإنسان، من أهمّ مكوّنات خطاب النظام الموجَّه إلى الخارج. يوضح السيسي في فيشغراد أنّ “مصر فيها 6 مليون مهاجر غير شرعي (…) ولن نقبل من منظور أخلاقي وإنساني إنّ إحنا نسيبهم يتحرّكوا في اتّجاه أوروبا ويلاقوا مصيرهم في البحر. لا إحنا مش هنسمح بده حتّى لا نصدّر مشاكل لأوروبا، وأيضاً حتّى لا نلقي بهؤلاء الناس إلى المجهول في البحر أو للضياع”.
كما نجد توجّهاً جديداً لتوسيع دائرة الشراكات لتشمل زعماء أوروبيين، هم أنفسهم محلّ انتقاد بسبب طريقة تناولهم حقوق الإنسان في بلادهم مثل فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر، وإيجاد المزيد من المساحات المشتركة حول مكافحة الهجرة.
ومن ناحية أخرى يتّخذ تعريف أزمة الهجرة لدى النظام المصري منحى أمنياً إذ تُربَط بقضايا العنف ومكافحة الإرهاب. وإذا كانت الدول الأوروبية لا تتّفق بقدر كبير مع هذا التعريف، فإنّ التعاون في مجال الهجرة يتداخل مع سياسات مكافحة الإرهاب في مصر.
أخيراً يربط الخطاب المصري بين الهجرة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فـ “الهجرة غير الشرعية تعكس شكلاً من أشكال حقوق الإنسان المفقودة في منطقتنا، مش بس التعبير عن الرأي والممارسة السياسية لكن حقوق أخرى”. بمعنى آخر، إنّ عدم إعطاء الأولويّة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هو الذي يؤدّي إلى الهجرة؛ أي أنّ الناس تهاجر بسبب الفقر وغياب الفرص الاقتصادية. حتّى إنّ ضمان الحقوق السياسية بدون القضاء على الفقر هو المتسبّب في الفوضى وغياب الاستقرار، ممّا يؤدّي إلى مزيد من الهجرة، من وجهة نظر الرئيس.
وهكذا، إن كانت بعض التحليلات ترى أنّ إطلاق الاستراتيجيّة الوطنية لحقوق الإنسان يعكس ظهوراً جديداً لهذه القضية على أجندة النظام، يؤكّد الخطاب المصاحب لها، والمتزامن معها، تمسُّكَ النظام برؤيته وتعريفه لحقوق الإنسان ورفض الضغوط. فكيف نفهم إذاً إصدار الاستراتيجيّة في هذا الوقت؟
2- كيف نفهم الاستراتيجيّة الوطنية لحقوق الإنسان في ظلّ هذا الخطاب؟
نقدّم هنا مدخلَيْن لفهم الاستراتيجيّة:
الأوّل يتبع ما أشارتْ إليه العديد من التحليلات سابقاً، أي أنّ الهدف الأساسي من الاستراتيجيّة هو طمأنة الولايات المتّحدة بإدراج موضوع حقوق الإنسان على أجندة النظام بهدف إعادة العلاقات التعاونية مع النظام الأميركي تحت إدارة بايدن؛ بخاصّة مع إعلان الولايات المتّحدة الأميركية تجميد جزء من الإعانة الاقتصادية وربطه بشرط تحسين وضع حقوق الإنسان في مصر، في توجّه للتركيز على هذه القضية في إطار العلاقات الثنائية بين البلدَيْن. يتّسق إذاً هذا التحليل مع التوجّه المصري للترويج للاستراتيجية في الخارج، تحديداً في الولايات المتّحدة من خلال “مجموعة الحوار الدولي” التي صرّح رئيسها بعد زيارته الولايات المتّحدة في أكتوبر بوجود ردّ فعل إيجابي على الاستراتيجية، ومعه مطالب بالاهتمام بقضايا معيّنة، بخاصّة المعتقلين السياسيين التي بشّر بانفراجة قريبة فيها.
إنّما يشير أحد التحليلات النقدية إلى أنّه على الرغم من تركيز الخطاب الأميركي على حقوق الإنسان تحتلّ العلاقات الاستراتيجية بين البلدَيْن في مجال الاقتصاد والسياسة الإقليمية الأولوية. إنّ منطق الإدارة الأميركية، وفقاً لهذا التحليل، هو “التقارب مع النظام من أجل خلق نفوذ يُستخدَم لتحقيق قدر ضئيل من التنازلات في حقوق الإنسان”. وهكذا فمن غير المتوقَّع أن تؤدّي الاستراتيجيّة الوطنية أو النفوذ الأميركي المتجدِّد إلى تغيُّر جذري في توجُّه النظام في ما يخصّ حقوق الإنسان.
على العكس، المقترح الثاني، الذي نقدّمه هنا والذي ينطلق من تحليل وثيقة الاستراتيجيّة نفسها، يفيد بأنّ الاستراتيجيّة متوافقة تماماً مع خطاب النظام وتُعتبَر ترجمة لرؤيته حول حقوق الإنسان وتمثّل دفاعاً عن هذه الرؤية كما هي، بلا تغيير.
في مايو 2021، ومع ظهور أخبار عن قرب صدور استراتيجيّة وطنية لحقوق الإنسان أطلقت منظّمات حقوقية مصرية مبادرة “أوّل سبع خطوات” التي حدَّدت “إجراءات ضرورية لوقف التدهور غير المسبوق في أوضاع حقوق الإنسان في مصر”. تضمّنتْ الخطواتُ: الإفراج عن السجناء السياسيين؛ إنهاء الحبس الاحتياطي؛ تأجيل تنفيذ أحكام الإعدام؛ رفع حالة الطوارئ؛ إنهاء الملاحقة الجنائية للمدافعين عن حقوق الإنسان؛ سحب مشروع قانون الأحوال الشخصية؛ رفع الحجب عن مواقع الإنترنت والصحف الرقمية.
في ضوء هذه المطالب وفي ظلّ خطاب النظام المصري عن حقوق الإنسان، بخاصّة فكرة اختلاف المقاربات والتعريف، تكشف قراءة وثيقة الاستراتيجيّة الوطنية لحقوق الإنسان عن إمكانيّة التفرقة بين ثلاث مجموعات من الحقوق. الأولى، حقوق موجودة على أجندة النظام بالفعل وتتماشى مع رؤيته وتعريفه لحقوق الإنسان؛ الثانية، حقوق تطالب بها المنظّمات الحقوقية المصرية والشركاء الدوليين، لكن لا تجد صدى على أجندة النظام، بل تجاهلاً ورفضاً؛ وأخيراً، الثالثة، مجموعة من الحقوق تعكس وجود قدر ضئيل من التفاعل مع المشكلات التي تسلّط عليها منظّمات المجتمع المدني الضوء.
تشمل المجموعة الأولى حقوقاً موجودة على أجندة النظام، وقد قَطَعَ بالفعل شوطاً كبيراً في تحقيقها، وبالتالي أفردت لها الاستراتيجيّة مساحة كبيرة لسرد ما تمّ “إنجازه” مع التنويه على بعض التحدّيات. مثلاً، في نقطة حقوق المرأة تمّ سرد “الفرص أو نقاط القوّة” في 9 نقاط على أربع صفحات، ممّا يتماشى مع خطاب النظام عن حقوق المرأة وعن تقديم نفسه كممكّن للمرأة ومدافع عن حقوق النساء السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت بعض الموضوعات الإشكاليّة لا تزال راهنة، مثل قانون الأحوال الشخصية، لا يبدو النظام معارضاً لمواجهة هذه الإشكاليّات وخوض هذا الجدل، كما عبّر السيسي نفسه قائلاً إنّه أراد إدخال إصلاحات على موضوع الطلاق الشفهي لكنّه واجه مقاومة مجتمعية ومن المؤسّسات الدينية وإنّ الطريق لا تزال طويلة.
أمّا المجموعة الثانية فتتضمّن الحقوق التي لا تتماشى مع أجندة النظام، والتي لا إرادة سياسية لتحقيقها: عُرضَت بشكل مُختصَر وبطريقة لا تتناسب مع أهمّيّتها. مثلاً، نقارن المساحة التي أُفردت لحقوق المرأة وحقوق ذوي الإعاقة مع المساحة التي أُفردت للحقّ في التظاهر والتجمّع السلمي، الذي عُرِض في نقطتَيْن وفي أقلّ من نصف صفحة، وأُشير إلى إصدار قانون التظاهر في 2013 وتعديله في 2017 كإحدى “نقاط القوّة أو الفرص”. أمّا التحدّيات فكانت “ضعف الوعي بثقافة التجمّع السلمي” في تجاهل تامّ لمطالب الإفراج عن المعتقلين السياسيين، سواء من الملاحَقين بسبب قانون التظاهر أو مِمَّن يتمّ تدويرهم من قضيّة الى أخرى تتعلّق بالحدود المفروضة على حرّيّة التعبير.
ومن المجموعة الأخيرة ظهرت بعض النقاط التي قد تعكس وجود قدر ما من التفاعل مع المشكلات التي تناولتها المنظّمات الحقوقية مع اختلاف التعريف وغياب الوضوح في مدى تطبيقها على المعتقلين في تهم سياسية. من ضمن هذه المجموعة نجد، على مستوى الحقوق المدنية والسياسية: مدة وشروط الحبس الاحتياطي ومعاملة السجناء وعقوبة الإعدام. ومن هذا المنطلق قد يعكس قرار عدم تجديد حالة الطوارئ هذا النوع من الحقوق، أي يشير إلى وجود قدر من التفاعل مع مطالب المنظّمات الحقوقية. وإذا كان اعتُبر، بشكل عامّ، خطوة إيجابية إلّا أنّ معظم التحليلات تشير إلى وجود قوانين أخرى مقيِّدة للحرّيّات ومؤسِّسة للانتهاكات.
خلاصة
في النهاية نشير إلى الاتّساق بين خطاب النظام وتعريفه لحقوق الإنسان وموادّ الاستراتيجية، وكلٌّ منهما لا يبشّر بانفراجة في ما يخصّ الحقوق السياسية والقضايا الأكثر إشكاليّة مع وجود بعض الجوانب الأخرى في الاستراتيجيّة التي تشير إلى وجود مساحة صغيرة يمكن التفاوض فيها على بعض الحقوق المدنية والاجتماعية. يبقى السؤال المفتوح مع تأكيد الاستراتيجيّة على أهمّيّة الشراكة مع المجتمع المدني وعلى نشر ثقافة حقوق الإنسان، ومع إعلان عام 2022 عام المجتمع المدني وفي ظلّ ملاحقة النشطاء الحقوقيين: مَن يشكّل هذا المجتمع المدني من وجهة نظر النظام؟ وما هو حجم مساحة الحركة المتاحة أمام منظّمات هذا المجتمع المدني؟
1 Mona El Naggar and Lara Jakes, U.S. and Egypt Put Improving Egypt’s Human Rights on the Agenda, New York Times, September 16, 2021.
2 نركّز هنا على تعليق الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء حلقة المناقشة وليس خطبته الرسمية في هذا المؤتمر، لأنّ التعليق أكثر وضوحاً ودلالة من الخطاب.
3 Robinson, James A., and Daron Acemoglu. Why nations fail: The origins of power, prosperity and poverty. London: Profile, 2012.
4 Diab, Osama, and Salma Ihab Hindy. “IMF’s Social Protection between Rhetoric and Action: The Case of Egypt.” Middle East Critique (2021): 1-19.
5 المقاربة القيمية أو الحُكم القيمي (Value Judgement) هو الحكم على الأمور بناءً على منظومة قيم معيّنة أو من منظور أخلاقي.
6 المعيارية (normativity): تقييم الأشياء وفقاً لمعايير مسبقة ونماذج محدَّدة، في هذه الحالة المقصود تقييم الوضع في مصر وفقاً لنموذج حقوق الإنسان الغربي أو الأوروبي.
7 Dabène, Olivier, Vincent Geisser, and Gilles Massardier, « Autoritarismes démocratiques et démocraties autoritaires au XXIe siècle: convergences Nord-Sud: mélanges offerts à Michel Camau », la Découverte, 2008.
8 Gerasimos Tsourapas, The EU-Egypt Partnership Priorities and the Egyptian Migration State, Migration Governance and Asylum Crises, April 2020.x
9 EU-Egypt migration cooperation: where are human rights? EuroMed Rights, July 2019.
10 EU-Egypt migration cooperation: where are human rights? EuroMed Rights, July 2019.
11 Mona El Naggar and Lara Jakes, U.S. and Egypt Put Improving Egypt’s Human Rights on the Agenda, New York Times, 16 September 2021.
12 رنا ممدوح ولينا عطالله وعايدة سالم، في أوّل زيارة خارجية لـ«الحوار الدولي» بعد «الاستراتيجيّة».. السادات: عدنا من واشنطن برسائل لجميع مؤسّسات الدولة، مدى مصر، 14 اكتوبر 2021.
13 Amy Hawthorn, In Washington, leverage came before rights, In US and Egypt: Between Regional Cooperation and Human Rights, ISPI, 15 November 2021.