خصخصة المؤسسات العمومية: قراءة في دفاتر التجربة


2025-03-19    |   

خصخصة المؤسسات العمومية: قراءة في دفاتر التجربة

خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، تأسّست أغلب المؤسسات العمومية التونسية إما تبعا لتأميم شركات فرنسية تعود للحقبة الاستعمارية أو كإحداث جديد، التجأت له الدولة تعويضا لضعف النسيج الاقتصادي الخاص غير القادر على تلبية احتياجات الدولة والسكان.  وورد اعتماد المؤسسات ضمن خيار لمنوال اقتصادي يعطي الدولة سلطة احتكار أنشطة استراتيجية ويمكّنها من ممارسة مختلف الأنشطة الإنتاجية والتجارية كالسياحة والصناعات الميكانيكية والصناعات الكيميائية والبنوك، وقد بلغ عددها آنذاك 560 مؤسسة.

وبشكل عامّ، يتم استحداث هذا النوع من المؤسسات بهدف تنشيط الاقتصاد وتنويعه وفق التصور الاقتصادي الكاينزي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية والذي يعتبر تدخل الدولة المحرّك الأساسيّ للاقتصاد، وهو التصور الذي اعتمدته العديد من الدول حتى المتقدمة منها. وكمثال على ذلك، نذكّر أنّ المجمعات الصناعيّة كمجمعات صناعة السيارات في كوريا مثلا كانت في بداياتها مجمعات حكومية. إلا أنّ الوضع في تونس لم يكن تماما كذلك. إذ يكشف استقراء تاريخ المؤسسات التونسية أن ما يميّزها هو أن التخطيط والاعتبار الاقتصاديّ لم يكونا الدافع الوحيد لإحداث نسبة هامة منها. فالعديد من المؤسسات أحدثت تكريسا لحقوق أساسية كالحق في الصحة والتغطية الاجتماعية والنقل العمومي المدعم. كما ارتبط إحداث البعض الآخر منها بإرضاء الرغبة أو البرامج أو التطلعات الشخصية للقيادة السياسية: ومن المؤشرات ذات الدلالة على ذلك هو ما يتداول عن كون بناء العديد من النزل ومنها نزل le palmier كمؤسسة عمومية سياحية بالمنستير كان لغاية إيواء مرافقي الرئيس الحبيب بورقيبة وحرسه الرئاسي واستقبال ضيوف الحكومة خلال الفترة الصيفية التي كان يتنقل فيها لمسقط رأسه. وقد يكون تداخل السياسي بالاقتصادي في إنشاء عدد من المؤسسات وطغيانه على تعيين مدرائها وضبط سياستها مما أدّى لاحقا لأزمة المنظومة وكان المدخل الذي اعتُمد لإطلاق الحديث عن الحاجة للخصخصة والذي انطلق مع بداية ثمانينات القرن الماضي.

أول الحديث عن الخصخصة: رفض وتردّد

بداية الثمانينات، بدأ النموذج التنموي الذي يعتمد على الدولة في صناعة الثروة يتدهور بتراجع المؤشرات الاقتصادية لعديد المؤسسات العمومية التي لم تعد قادرة على تغطية تكاليفها التشغيلية. وقد دفع ذلك حينها الحكومة لدعمها من ميزانية الدولة، ففاقت مخصّصات ذلك الدعم ما كان مخصصا لدعم المواد الاساسية. إذ قدّر دعم المؤسّسات خلال المخطط الخماسي 1982-1986 تقريبا بـ 2 مليار دينار في حين أن الناتج الداخلي الخام لتونس آنذاك لم يتجاوز 6 مليار دينار.

وفي هذا الإطار ومع بداية سنة 1981، أعلنت الحكومة التونسية قرارها إعادة هيكلة الاقتصاد التونسي وضمنه طرحت فكرة إعادة هيكلة المؤسسات العمومية. وقد اصطدم إعلان النوايا ذلك باحتجاجات نقابية رافضة له. كما لم يكن كثيرون ممن هم في السلطة متحمّسين لفكرته لتقديرهم أن التنازل عن المؤسسات سيضعف قدرة الحكومة على ضبط المشهد السياسي وسيؤدّي إلى تراجع نفوذهم والذي كان يمارس من خلال التعيينات فيها أو باعتماد مواردها. ونتيجة للرفض المجتمعي والتردّد الحكومي وما رافقهما من غياب مخطط واضح لم تشهد المؤسسات أي تغيير في وضعها في تلك الفترة وهو ما زاد في ضغط أزمتها وربما ما فسّر وصول عدد منها للإفلاس الواقعي وفرض تاليا موجة الخصخصة الكبرى.

تحوّل برنامج الخصخصة في سنوات ال 2000 إلى عملية نقل ملكية من احتكار عام بيروقراطي إلى احتكار خاص تسيطر عليه شبكة مافياوية

الخصخصة الأولى: من نهاية الثمانينات إلى منتصف التسعينات …تصفية وتسريح

أدّى تفاقم الوضعية السلبية للمؤسسات العمومية وعدم الإقدام على خطوات إصلاح قوية إلى إدراجها في برنامج تدخّل صندوق النقد الدولي الذي فرض بدوره حزمة من الإصلاحات الهيكليّة في إطار ما يسمى ببرنامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي سنة 1986 لتمكين الدولة التونسية التي شارفت على الإفلاس من الدعم المالي للصندوق مقابل تنفيذ هذه الإصلاحات، ومن أهمها فرض خصخصة عشرات المؤسسات العمومية التي تعمل في قطاعات متعددة وأساسا تنافسية في إطار تصور نيوليبرالي لدور الدولة يعتبر أنه عليها التخلي عن التدخّل في المجالات التي يمكن للقطاع الخاص ملء الفراغ فيها. يعدّ هذا التوجّه توجّها عالميا برز مع مدرسة شيكاغو ونفذّته حكومة تاتشر في بريطانيا وريغن في الولايات المتحدة الأمريكية. أما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهي الأذرع الدولية الأساسية لنشر هذه السياسات على المستوى الدولي فإنها تعتبر أنه “لا ينبغي النظر إلى الخصخصة على أنها حلول وقتية، ولكنّها جزء من عملية استبدال البيروقراطية الإدارية المركزية الثقيلة بآليات السوق.” وهو الخطاب الذي تبنّته الحكومة في تونس، في تصريح يعود لسنة 1988 لمحافظ البنك المركزي آنذاك إسماعيل خليل ومفاده “أنّ التجربة أثبتت أن الدولة متصرّف سيّئ”.

أغْفَل هذا التوجّه جزءاً مهمّاً من الحقيقة، حيث ركّز على الحجم الكبير للتحويلات المالية التي تقدّمها الدولة لصالح المؤسسات العمومية لتبرير التخلص منها، متجاهلاً حجم التحويلات التي تقدّمها هذه المؤسسات للدولة. خلال المخطط السادس للتنمية 1982-1986، مثّلت تحويلات المؤسسات العمومية للدولة ثاني أكبر مصدر لإيرادات ميزانية الدولة بعد الإيرادات الجبائية غير المباشرة. كما أنّ دراسات وتوجيهات صندوق النقد الدولي تغاضت عن حقيقة أن جزءاً صغيراً فقط من تحويلات الدولة يُخصص كإعانات ودعم لتحقيق التوازن المالي للمؤسسات العمومية، في حين تذهب الحصة الأكبر لتمويل استثمارات هذه المؤسسات في مشاريع البنية التحتية التي تنجزها في إطار دورها كمسيرة للمرافق العامة، مثل مشاريع الربط بالكهرباء. كما يُخصص جزء كبير من هذه التحويلات لتغطية العجز الناتج عن تحمّل المؤسسات العمومية تكاليف دعم الدولة للخدمات العامة، كالنقل والطاقة.  كما تجاهلت المبررات التي قُدِّمت حجم الإعفاءات الضريبية الكبيرة التي استفاد منها القطاع الخاص، والتي تمثل بلا شكّ خسائر مباشرة لإيرادات ميزانية الدولة. يضاف إلى ذلك المبالغ التي تنازلت عنها الدولة عبر الإعفاءات الضريبية المتكررة لصالح القطاع الخاص، والمبالغ التي تُختلس سنوياً نتيجة التهرب الضريبي.

انطلقت هذه المرحلة سنة 1987 وانتهت سنة 1996 بخصخصة 54 مؤسسة تنشط في ميادين تنافسية وتواجه صعوبات مالية كبيرة وشملت بالأساس مؤسّسات سياحية. كانت مداخيل التفويت ضعيفة جدا لم تتجاوز 146 مليون دينار. انتهت الجولة الأولى لعمليات الخصخصة في أغلبها الى تصفية المؤسسات التي شملتها وتسريح الآلاف من عمالها.

الشوط الثاني من الخصخصة: إصلاحٌ بطعم فاسد

تواصلتْ عملية الخصخصة في جولة ثانية بداية من سنة 1997 إلى حدود سنة 2011 بسرعة قصوى بمعدل 15 مؤسسة كل سنة، شملت مؤسسات كبرى ذات هيكلة مالية جيدة وأداء قوي وجاذبية عالية للمستثمرين الوطنيين والأجانب وفي مجالات عالية الربحية كالإسمنت والصناعات المعمليّة والاتصالات. وأصبح العدد الجمليّ للمؤسّسات التي فوّتت فيها الدولة كليا أو جزئيا 219 مؤسسة أي تقريبا نصف المؤسسات العمومية. ومكّنت هذه العملية من تحقيق مداخيل جملية بلغت 6،4 مليار دينار حسب أرقام وزارة التنمية تأَتّى نصفها من التفويت في نسبة 35% من رأسمال شركة اتصالات تونس في سنة 2006، أما الباقي فتعلق إجمالا بالتفويت في مؤسسات تنشط في قطاع الإسمنت كثروة طبيعية بمبلغ 771 مليون دينار.

لم تخضع حصيلة عملية الخصخصة إلى تقييم عميق لآثارها على الاقتصاد التونسي من ناحية التشغيل وتحسين الخدمات وتطوير النشاط الاقتصادي الخاص والاستثمار. وقد سُجّل في هذا المضمار فقط دراستان محدودتان في حجمهما ودقّتهما: الأولى أصدرتها الإدارة العامة للتخصيص التابعة لرئاسة الحكومة شملت عينة من 93 منشأة تمت خصخصتها وأبرزت آثارا محدودة لتلك العملية من ناحية استثمار القطاع الخاص في تطوير هذه المؤسسات الذي شمل بالأساس قطاع الإسمنت الذي استأثر لوحده بنصف الاستثمارات بمبلغ لم يتجاوز 160 مليون دينار فيما لم يتم إحداث أي مواطن شغل جديدة. أما الدراسة الثانية فأصدرتْها وزارة التنمية في سنة 2010 والتي أثبتت بالخصوص محدودية النجاعة الاجتماعية للشركات المخوصصة نظرا لضعف الانتدابات الجديدة التي قامت بها والعدد الكبير من العمال الذين تمّ تسريحهم.

من خلال هذه النتائج الهزيلة، بدتْ عملية الخصخصة كمجرّد آلية “لنقل ملكية طاقة الإنتاج من القطاع العام إلى القطاع الخاص من دون المساهمة في توسيع النسيج الاقتصادي وخلق طاقة إنتاج إضافية” كما أشار إلى ذلك الباحث عبد الجليل البدوي، الذي أكّد أن “مثل هذا الاستثمار الأجنبي ساهم فقط في تنامي تحويل الفائض الاقتصادي أي المرابيح إلى الخارج وتقليص القدرة التراكمية للاقتصاد كما تمتع الاستثمار الأجنبي إلى جانب الامتيازات الجبائية والمالية العديدة بموارد برنامج تأهيل المؤسسات بالنسبة للمؤسسات العمومية المخوصصة التي قامت بتجديد وتطوير آلات إنتاجها.”

عرفت أيضا عمليات الخصخصة في تلك الفترة تجاوزات كبرى حيث انتفع أصهار الرئيس بن علي وأقاربه خاصة في بداية السنوات 2000 بعديد عمليات التفويت في وكالات بيع وتوزيع السيارات مثل شركة المحرك وشركة ستافيم وشركة النقل أو بيع مساهمات عمومية في بنوك مثل بنك الجنوب أو الاتحاد الدولي للبنوك. وخصّص تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة أو ما يعرف بلجنة المرحوم عبد الفتاح عمر حيّزا هاما منه لإبراز حجم الفساد الذي شاب عمليات الخصخصة والتي تمثلت أساسا في “ممارسة ضغوطات على أشخاص لعدم المشاركة في تقديم عروض أو لسحب عروضهم وذلك قصد تمكين أقارب الرئيس أو المقربين منه من الاستئثار بعملية التخصيص”. هذا بالإضافة إلى تمويل عمليات الاقتناء عن طريق قروض من البنوك العمومية بشروط ميسرة تحوّلت لاحقا إلى ديون مشكوك في استخلاصها. وبالتالي تحوّل برنامج الخصخصة في تلك الفترة بشكل أساسي إلى عملية نقل ملكية من احتكار عام بيروقراطي إلى احتكار خاص تسيطر عليه شبكة مافياوية.وعليه، تصاعدت الانتقادات التي تشير إلى فشلها في الحفاظ على مواطن الشغل وخلق وظائف جديدة. كما عجزت الخوصصة عن بناء قطاع خاص متطور بدلاً عن القطاع العمومي المتعثر. وفي المقابل، لم يتمّ التصدّي للأسباب الجوهرية التي أدّت إلى تدهور أوضاع المؤسسات العمومية المتبقية، مثل مشكلات الحوكمة، وضغوط الدولة، وانهيار قيمة الدينار، وارتفاع تكاليف الاقتراض.

تم استحداث مؤسسات عمومية جديدة مثل الديوان الوطني للأعلاف في ظلّ فشل المؤسسات القائمة.

حديث الخصخصة الجديدة …من العزم…إلى الرفض

تفاقمت الأزمة المركبة التي تعاني منها المؤسسات العمومية بشكل ملحوظ بعد الثورة، حيث استمرّ تراجع مداخيلها، وتدهورتْ جودة خدماتها، وتراكمتْ خسائرها المالية، وفقاً للتقارير المالية السنوية لهذه المؤسسات والتقارير الصادرة عن وزارة المالية المرفقة بمناقشات قانون الميزانية.

وفي ظل تراجع إيراداتها، ارتفعت التحويلات المالية من الدولة بشكل كبير، حيث تحملت الدولة أعباء عدد كبير من المؤسسات من أجور واستثمارات. ومع ذلك، زادت الضغوط المالية والاجتماعية على هذه المؤسسات نتيجة الانتدابات العشوائية وغير المدروسة، التي طغت عليها الحسابات السياسية. ونتيجة لهذا الوضع، تحوّل العديد منها وخاصة في المناطق الداخلية مثل القصرين، وقفصة، وقابس، وتطاوين، إلى أدوات لتلبية أدوار اجتماعية فرضها الواقع التنموي في تلك الجهات. وأدّت هذه الظروف إلى وضع المؤسسات العمومية أمام ضغوط اجتماعية محلية كبيرة، في ظلّ غياب دعم كافٍ من الدولة. ونتيجة لذلك، تحمّلت مؤسسات مثل شركة فسفاط قفصة، والمجمع الكيميائي، والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، أعباء الانتدابات الكبيرة في شركات البيئة والغراسة بولايات الجنوب. هذا الأمر ساهم في تحوّل هذه المؤسسات إلى كيانات خاسرة أو بالكاد تحقق أرباحًا. بالإضافة إلى ذلك، زادت الضغوط المالية المسلّطة عليها نتيجة لجوئها المتكرّر إلى الاقتراض لتغطية عجزها المالي، مما أدّى إلى ارتفاع كلفة خدمة الدين والالتزامات المالية الأخرى وتجاوزت هذه الكلفة في بعض الحالات كلفة الأجور.

وفي المقابل، أُعيد طرح برامج إصلاحية، بقي أغلبها حبرا على ورق مثل التقرير التأليفي حول المؤسسات والمنشآت العمومية ومشروع قانون إصلاح المؤسسات العمومية الذي لم يرَ النور رغم المشاورات العديدة حوله.

مع تفاقم الأزمة، دخل صندوق النقد الدولي على الخطّ بشروطه التقليدية، مطالباً بتقديم برنامج إصلاحي لهذه المؤسسات مقابل تردد حكومي في اتخاذ قرارات مصيرية في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حدث في بداية الثمانينيات. أرسلت الحكومة رسالة النوايا الثانية إلى مديرة صندوق النقد الدولي في 2 ماي 2016 التي أكّد فيها محافظ البنك المركزي آنذاك الشاذلي العياري ووزير المالية سليم شاكر في نقطتها عدد 21 على ضرورة مراجعة وظيفة الدولة كمساهم في المؤسسات العمومية وإعادة هيكلتها المالية وهي الألفاظ الملطّفة لفكرة خصخصة المؤسسات العمومية وتخلّي الدولة عنها. ورغم انطلاق النقاش حول تلك العملية وفتح الباب أمام الاتحاد العام التونسي للشغل لإبداء موقفه الذي لم يكن قاطعا مع ضرورة إصلاح هذه المؤسسات لكنه اعتبر خصخصتها خطّا أحمر.

قدّمت الحكومة توجهاتها الكبرى في عملية الإصلاح ومن أهمّها تقسيم المنشآت إلى أربعة أصناف كمدخل لخصخصتها:

·        منشآت تعمل في قطاع تنافسي والتي يمكن إعادة هيكلة رأس مالها من خلال إدخال شريك استراتيجي مع المحافظة على صبغتها العمومية.

·        منشآت تعمل في قطاع استراتيجي تعتبرها الدولة استراتيجية وحيوية للبلاد.

·        منشآت المرفق العام وهي المنشآت التي تعتبر امتداد للإدارة وهياكل الدولة وليست لها الصفة الربحية.

·        منشآت الاحتكار التي من خلالها تحتكر الدولة إسداء بعض الخدمات أو بيع بعض المنتوجات.

إلا أن هذا التوجه توقّف عند النقطة المحورية والخلافية المتعلقة بتحديد القائمة النهائية للمؤسسات التي تعمل في قطاع تنافسي المزمع خصخصتها. وهو أمر يؤكّد عودة هيمنة الأولويات السياسية والاجتماعية على الاعتبارات الاقتصادية. فرغم الوعي العام بتدهور الوضع الاقتصادي للمؤسسات العمومية وارتفاع تكلفتها على ميزانية الدولة، التي أصبحت تضخّ مبالغ ضخمة لإبقائها في حالة إنعاش رغم أنها فعليًا في وضع يشبه الموت السريري، بدت الإرادة الحقيقية للإصلاح ضعيفة، يبدو فيه جميع الأطراف قابلين لإبقاء الوضع القائم على حاله. فمن جهة الحكومات المتعاقبة، تخشى هذه الأخيرة المضي قدمًا في إصلاحات حقيقية خوفًا من اضطرابات اجتماعية وفقدان شعبية مع اقتراب مواعيد انتخابية مصيرية، خاصة فيما يتعلق بالمؤسسات الناشطة في المناطق الداخلية. كما أن هذه الحكومات لا ترغب في فقدان السيطرة على مؤسسات تمثل لها أداة لبسط النفوذ السياسي وإرضاء الموالين من خلال التعيينات. أما الاتحاد العام التونسي للشغل، فإنه واصل رفضه التام للخصخصة، رغم إعلانه الاستعداد للحوار حول مستقبل المؤسسات العمومية في عملية هي أقرب إلى المناورة لأنه يدرك أن الخصخصة ستفقده نفوذًا كبيرًا بفقدان عدد ضخم من منخرطيه في هذه المؤسسات والتنازل عن امتيازات مختلفة، أقلها تشغيل أبناء منظوريه، والحفاظ على تأثير قوي في صياغة السياسات العمومية.

الخصخصة بعد 25 جويلية: رفض جازم وغياب للبديل

رغم تأكيد المسؤولين، بما في ذلك رؤساء حكومات ووزراء مالية ما بعد 25 جويلية، على استمرار النقاشات مع صندوق النقد الدولي بخصوص إصلاح المؤسسات العمومية ضمن حزمة الإصلاحات المقترحة، فإن غياب رؤية واضحة وشاملة يعكس حالة من الارتباك وضياع البوصلة في التعامل مع هذا الملف الحساس.

فقد عبّر رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن رفضه القاطع للتخلي عن المؤسسات العمومية، معتبرًا أن هناك “مؤامرة” تستهدفها. وهذا ما عبّر عنه بوضوح كلّي خلال زياراته المتكررة للعديد منها، مثل شركات النقل العمومي والديوان الوطني للأراضي الدولية. وأثار موقف رئيس الجمهورية من الديوان الوطني للزيت اهتمامًا كبيرًا، خصوصًا خلال الأزمة الأخيرة لزيت الزيتون، حيث شدّد على ضرورة عودة الديوان إلى دوره الريادي كما كان في الستينات. ولكن، وعلى نقيض هذا الموقف، صرّح الرئيس المدير العام للديوان حامد الدالي بأن هذا الأمر يصطدم بعوائق واقعية، منها ضعف القدرات المالية والبشرية للديوان، إضافة إلى محدودية السعة التخزينية التي لا تتجاوز 80 ألف طن من زيت الزيتون، في حين يتجاوز الإنتاج الوطني 300 ألف طن سنويًا.

 وسط هذا الجدل، عادت تونس إلى تأسيس مؤسسات عمومية جديدة، مثل الديوان الوطني للأعلاف في خطوة أثارت تساؤلات واسعة حول مآل التوجه الحكومي، حيث يعكس إنشاء مؤسسات جديدة في ظل الفشل في إدارة المؤسسات القائمة تناقضًا واضحًا. فبدل التركيز على إصلاح المؤسسات العمومية الحالية وتحسين آدائها، يتمّ تكريس موارد إضافية لتأسيس كيانات جديدة في مجالات هي أقرب لتدخّل القطاع الخاص، مما يعمّق أزمة الحوكمة ويزيد العبء على الماليّة العامّة. هذا التخبّط في التعامل مع ملفّ المؤسسات العموميّة يُبرز تواصل غياب استراتيجية شاملة وواضحة للإصلاح. فبين التصريحات المتفائلة بالقدرة على النهوض بهذه المؤسسات والواقع الذي يعكس عجزًا عن اتخاذ قرارات إصلاحية وتنفيذها، تزداد أوضاع المؤسسات العمومية تدهورًا مع تواصل ارتفاع الدعم المالي الموجه لها بدل توجيهه نحو قطاعات أكثر حيوية كالنقل والصحة والتعليم، بما ينذر بمزيد من الأزمات على المدى القريب والمتوسط. في ظل غياب تقييم واسع لحوكمتها وتقديم خطط إصلاح وتنفيذها وتواصُلِ طرح السؤال حول جدوى المرور إلى جولات جديدة من الخصخصة هي أقرب لعملية تخلّص من عبء هذه المؤسسات من دون انتظارات أخرى لإحياء نشاط اقتصادي راكد.

نشرت هذا التمهيد في الملف الخاص لمجلة المفكرة القانونية-تونس العدد 32

لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
لقراءة وتحميل الملف بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني