منذ العقد الأخير من القرن الماضي، وخصوصاً عقب انتهاء الحرب الأهلية، أصبحت قضية خصخصة التعليم في لبنان ظاهرة من ظواهر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها في هذا البلد، خضوعاً لمصالح الطبقة السياسية الحاكمة، حيث جرى ضرب وتهميش قطاع التعليم الرسمي باعتباره قطاعاً غير منتجٍ، بعد سيطرة منطق الربح السهل والسريع على عقليّة الطبقة الحاكمة التي وفّرت دعمها اللامتناهي لمؤسسات التعليم الخاصّة.
مظاهر تسليع التعليم وتهميش دور التعليم الرسمي في لبنان عرضها "اتحاد أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت"، خلال مؤتمر تحت عنوان "خصخصة التعليم" نظّمهُ في الجامعة يوم الخميس الماضي (12/02/2015). وقد طُرِحَت فيه ضرورة محاربة تسليع التعليم والمؤسسات التعليمية التي باتت تحت سيطرة رجال الأعمال والتجّار. وتمحور النقاش حول البُعد الاقتصادي – السياسي لتعديل الرواتب والأجور وأثره على التعليم العام، والنضال من أجل تحصيل حقوق معلمي المدارس في لبنان. وشارك في هذا المؤتمر كل من وزير العمل السابق شربل نحّاس ورئيس "رابطة التعليم الثانوي الرسمي" السابق حنا غريب. والجدير بالذكر أن "اتحاد أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت" هو جمعية غير حكومية يضم أعضاء الهيئة التعليمية في الـ"AUB"، وتهدف بشكل مباشر إلى تعزيز مصالح التعليم العالي والحرية الأكاديمية والمشاركة الفعلية للأساتذة في الإدارة المؤسساتية في الجامعة، فتسعى إلى تحقيق مستوى مادي ومعنوي وإداري يستحقه كل أستاذ. ولذلك، كان اهتمام هذا الاتحاد في تسليط الضوء على موضوع بهذه الأهمية، للبحث في كيفية مواجهة المحاولات المستمرة لخصخصة التعليم وسيطرة العقل التجاري عليه وضرب التعليم الرسمي، وهي الأسباب التي أدت إلى تراجع مستوى التعليم في لبنان.
واعتبر نحاس، خلال مداخلته،أن "موجة الترخيص للجامعات الخاصة التي بدأت في العام 1995، ترافقت مع منعطف في الاقتصاد السياسي اللبناني"، مشيراً إلى أنه "بعد اتفاق الطائف، اتفق زعماء الحرب وبعض اللاعبين الجدد على إرساء نظام اقتصادي جديد، يثبتون من خلاله قدرتهم على نقل ما اكتسبوه في ساحة الحرب إلى ساحة شبه الدولة".في العام 1996، اتخذت السلطة السياسية مجموعة من القرارات استمرت مفاعيلها لمدة 18 عاماً، وكان أبرزها وقف الاستثمارات في المؤسسات العامة، وقف صيانة هذه الاستثمارات (مثل المياه والكهرباء)، وقف التوظيف في الإدارات الرسمية وتجميد الأجور في الدولة اللبنانية منذ 31-12-1995 حتى 31-12-2011، أي لمدّة 15 عاماً، ارتفع خلالها مؤشر غلاء المعيشة بنسبة 120 في المئة. وخلال هذه الفترة أيضاً، أوجدت السلطة السياسية عدداً من النقابات، برعاية ما يسمى اليوم "الاتحاد العمالي العام"، الذي حافظ على العقد مع السلطة بمنع أي صوت نقابي أو عمالي مطلبي. وشرح نحاس أن مجلس الوزراء ألغى، حينها، مفاعيل القوانين التي أنشأت المؤسسات العامة، واستهدف الجامعة اللبنانية مباشرة حيث أوقف التوظيف فيها، ونزع منها استقلالية قرارها.
ولفت نحاس الانتباه إلى أن الطبقة الحاكمة "وجدت في القوى العسكرية أيضاً باباً للتوظيف والتنفيعات"، موضحاً أنه "لدينا 140 ألف عسكري، يشكلون 14في المئة من القوى العاملة اللبنانية المقيمة، وإذا تم إسقاط هذه النسبة على عدد المقيمين في الولايات المتحدة (أي 14% من القوى العاملة) يساوي جيشاً من 24 مليون عسكري، أي إن القوى العسكرية عندنا تساوي مرتين أكثر من الذروة التي وصلت إليها أعداد الجيش الأميركي في الحرب العالمية الثانية". واعتبر أن هذا الأمر ينسحب على التعليم، إذ حُوِّلت الدولة إلى أداة للتوزيع على حساب وظائفها الأساسية وعلى حساب كرامة العاملين فيها، "هو نهج متبع، منتظم، مدروس ومستمر".
وكان نحاس قد اقترح (عندما كان وزيراً للاتصالات ثم وزيراً للعمل بين العامين 2006 و2011) مشاريع قوانين تزيد الضرائب على أرباح المصارف والريع العقاري، ما يوفر كتلة من الإيرادات تستخدم في رفع نوعي لنسبة الاستثمارات العامة بهدف زيادة الإنتاجية، ورفع مستوى الأجور بشقيها النقدي والاجتماعي (التغطية الصحية الشاملة، وإعادة الانتظام إلى جسم الإدارة العامة، من خلال الأجور وإعادة التوظيف، ما يجعله غاية للشباب المتعلم، لا وسيلة لتوزيع المنافع).هنا، حاول نحاس تصحيح الأجور بحسب مؤشر الغلاء المعيشي. ومن باب الاستشارة، طرح الموضوع على لجنة المؤشر، فقرر "الاتحاد العمالي العام" مقاطعة أعمال اللجنة بهدف العرقلة، فيما أشرك نحاس "هيئة التنسيق النقابية" في الحوار بشأن تصحيح الأجور. في هذه الفترة، بدأ أصحاب المصالح بالتحرك ودخلوا المعركة في مواجهة السلطة، وحققوا خروقاً عدة، أبرزها:
– إضراب أساتذة التعليم الرسمي في العام 2010 وحصولهم على 4,5 درجات من أصل 6 مطالب،
– تنفيذ أساتذة الجامعة اللبنانية إضراباً لـ50 يوماً لإقرار زيادة على الأجور، وبعدما حصلوا عليها، انسحبوا "من هيئة التنسيق النقابية"،
في السياق ذاته، شدد نحاس على ضرورة إعادة الاعتبار للأجر من خلال "تحصينه قبل تحصيله"، وذلك عبر تعريف الأجر، على أنه "دين ممتاز على المؤسسة، ويترتب عليه مكملات إلزامية" من خلال أنظمة التقاعد والضمان وغيرها، بما في ذلك بدل النقل والمنح التعليمية، "لتحصين الأجر النقدي، وإرساء ما يُسمى الأجر الاجتماعي".
من جهة أخرى، رأى نحاس أن أحد مظاهر تسليع التعليم الشباب الذين يلجؤون إلى الجامعات الخاصة، ويترجون أساتذتهم لتعديل علاماتهم. فهم يعتبرون أنهم يشترون شهادة من الجامعة، وعليهم أن ينجحوا بذلك حكماً لتأمين مستقبلهم. وأشار إلى أن تراجع التعليم الرسمي يترافق مع ارتفاع كلفة التعليم 200 في المئة في مقابل ارتفاع كلفة المعيشة بنسبة 120 في المئة.
بدوره، اعتبر حنا غريب أن "التحولات في القوى البورجوازية الحاكمة، والسياسات الاقتصادية المتبعة عبر التحول إلى الريوع المصرفية والعقارية وتهميش القطاعات المنتجة جعلت من الهيئات الاقتصادية الحاكم الفعلي في البلاد، وما السياسيون اللبنانيون سوى (شغّيلة) عندها". ولفت الانتباه إلى أن أهم القطاعات التي همشت، بين الأعوام 1991 و1995 هي قطاع التعليم، مذكراً بوصف وزير المال الأسبق (رئيس كتلة المستقبل النيابية) فؤاد السنيورة لقطاع التعليم الرسمي، قائلاً "أنتم قطاع غير منتج، والاستثمار فيه هدر للمال العام، ونحن نستثمر في الربح السريع". وأشار غريب إلى أنه عشية الحرب الأهلية (في العام 1975) بلغت موازنة التعليم 22 في المئة من مجمل إنفاق الموازنة العامة، أما في العام 1994، وفي سياق إرساء نمط الاقتصاد السياسي المتبع، تراجعت النسبة إلى 7 في المئة، علماً أن عدد الأساتذة تضاعف ثلاث مرات. وأضاف "ضُرب بعدها التعليم كماًّ ونوعاً، من خلال ضرب أساسات التعليم، أي ضرب الروضات الرسمية ومعلمي ومعلمات التربية الحضانية، لمصلحة التعليم الخاص ومؤسساته"، موضحاً أن رفض إنشاء روضات في المدارس الرسمية هدفه تأسيس الطلاب في صفوف الروضات التابعة للمدارس الخاصة، لإبعادهم عن التعليم الرسمي والإبقاء على هشاشة هذا القطاع.
وقال غريب إن الضربة الثانية للتعليم جاءت من خلال صرف الدولة للأموال على "دكاكين التعليم"، أي المدارس الخاصة المجانية، لافتاً الانتباه إلى أن أصحاب هذه المدارس يحصلون عن كل طالب على مبلغٍ يساوي مرة ونصف الحد الأدنى للأجور. ورأى أنه "عندما أعطي للطوائف، عبر المادة العاشرة من الدستور، الحق في أن يكون لها مدارسها، حُرم الطفل حقه بالتعلُّم إلا ضمن القطيع". وأشار، في الوقت ذاته، إلى أن أجور الأساتذة في المدارس الخاصة تقل عن الحد الأدنى للأجور، على الرغم من الكلفة العالية للتعليم فيها.وأضاف "إزاء هذا الواقع، توحّد الأساتذة في القطاعات كافة، وتوحدت نقاباتهم، لتخوض هيئة التنسيق النقابية المعارك، عن كل النقابات العمالية، في ظل تآمر الاتحاد العمالي العام على حقوق المواطنين".
واعتبر غريب أن أخطر ما تحاول السلطة فعله هو "فكفكة السلسلة"، حيث يُعطى أساتذة الجامعة 121 في المئة زيادة على أجورهم، وتُحرم القطاعات الأخرى من هذه الزيادة، ما أدى إلى تحديد فارق بمقدار 54 درجة بين راتب الأستاذ الثانوي وراتب الأستاذ الجامعي، أي 108 سنوات خدمة. كما رأى أن الأخطر هو في أن تقر السلسلة بالصيغة التي تريدها "حيتان المال"، ليصبح مفهوم الأجر في القطاع العام مثل ما هو في القطاع الخاص، خصوصاً أن الصيغة المطروحة تؤدي إلى وقف التوظيف في الدولة اللبنانية وتغليب منطق التعاقد الوظيفي، وخصوصاً في القطاع التعليمي، ومحاولة فرض إجراءات تمول هذه السلسلة من جيوب المواطنين، مشدداً على أن "هذا هو مشروع السلسلة الذي نرفضه".
وأكد غريب أن "للتحرك الممتد على طول السنوات الثلاث الماضية قيمة كبيرة على المستوى الاجتماعي والنقابي والمعنوي، ونحن نرى اليوم هذه القيمة وهذه الإنجازات في لهجة النقابيين التي ارتفعت في وجه أصحاب العمل والسلطة السياسية، وهذا هو الإنجاز المعنوي الذي حققته هيئة التنسيق". لذلك، بحسب غريب، تأسس "التيار النقابي المستقل"، الذي سيعارض من داخل الهيئات النقابية ومن خارجها، أي محاولة للانتقاص من الحقوق.
وأعطى النقابي محمد قاسم، في مداخلة له، مثالاً عن ضرب التعليم، من خلال ضرب مشروع "خريطة المدارس" القاضي بدمج المدارس ضمن تجمعات في 300 نقطة "بهدف الاندماج الاجتماعي"، مشيراً إلى أن السلطة السياسية "فضّلت وجود مدارس بالمفرّق لكل مذهب وطائفة وقرية في 1200 مدرسة".
من جهته، قال رئيس اللجنة التنفيذية لـ"اتحاد أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت" جاد شعبان، خلال مداخلته حولخصخصة التعليم والرأسمالية التي تستولي على التعليم الجامعي في لبنان، إنه يمكننا أن نرى بعض علامات الخصخصة في التعليم، من خلال انخفاض نسبة التعليم الرسمي، كثرة المحسوبيات في الجامعات الخاصة، ارتفاع تكلفة التعليم العالي وإدارة الجامعات كشركات رأسمالية تبغي الربح، من خلال المدراء التنفيذيين و الماليين وغيرهم.
وأشار شعبان إلى أن ثلث طلاب لبنان يدخلون سنوياً إلى الجامعة اللبنانية، لافتاً الانتباه إلى أن هذا العدد تراجع بنسبة 25 في المئة خلال السنوات الماضية. وشرح أنه في الربع الأخير من القرن الماضي، بدأ إنشاء جامعات خاصّة تابعة إلى محسوبيات الطبقة السياسية الحاكمة ومصالح رجال الأعمال "بشكل دراماتيكي" خصوصاً بين العامين 1995 و2001، حيث أصبح عدد تلك المؤسسات ما يُقارب 24 جامعة، مضيفاً أنه "تقريباً، غالبية الجامعات الخاصة الجديدة، التي تأسست على نسق شركات تبغى الربح، مقرّبة من الطبقة السياسية الحاكمة". وأوضح شعبان أنه بعد تأسيس كل هذه الجامعات الجديدة، والتي في معظمها عبارة عن مبنى واحد أو أكثر لا تحتوي على مكان لالتقاء الطلاب واختلاطهم الاجتماعي الضروري، وصلنا إلى العام 2011 حيث أصبح يلتحق حوالي 95 في المئة من طلاب لبنان، الذين يدخلون إلى مؤسسات التعليم العالي الخاصّة، في 20 من هذه الجامعات.
ولفت شعبان الانتباه إلى انخفاض نسبة دعم الدولة اللبنانية للتعليم العالي، حيث تخصص نسبة 0,6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي كدعم للجامعة اللبنانية، يُصرف معظمها على الرواتب والإدارة. أما في الجامعات الخاصة التي أصبحت إدارتها شبيهة بالشركات الرأسمالية، بحسب شعبان، فقد أصبحت تخصص مبالغ مالية ضخمة للشؤون الإدارية وأجور المدراء عوضاً عن تخصيصها لتحسين مستوى التعليم. فعلى سبيل المثال، إن أجور الإداريين في الـ"AUB" أكثر بنسبة 20 إلى 70 في المئة من أجور الإداريين في جامعات الولايات المتحدة الأميركية، أما أجور الأساتذة في هذه الجامعة فهي أقل بنسبة 15 إلى 60 في المئة من أجور الأساتذة في جامعات الولايات المتحدة.
إن خصخصة وتسليع التعليم في لبنان أصبحت جزءاً أساسياً من النظام الاقتصادي – السياسي الريعي الذي طغا بعد انتهاء الحرب الأهلية. وبحسب شعبان، فإن سياسة خصخصة التعليم هدفت إلى تقسيم المجتمع اللبناني إلى قسمين: الأول يتكوّن من الفقراء والمهمّشين الذين يدخلون إلى مدارس رسمية غير مدعومة ومؤهلة بمستوى تعليمي جيّد، من أجل السيطرة عليهم بسهولة من خلال النظام الريعي والطائفي، أما الثاني فيتكوّن من الأغنياء الذين يدرسون في مدارس جامعات خاصّة، حيث يتم "تدريبهم" على فكرة الهجرة، لمنع تشكيلهم لأي تهديد على مصالح الطبقة الحاكمة. ولا شك في أن نضال معلمي المدارس وأساتذة الجامعات هو ذاته للمطالبة بالحقوق في مواجهة المصالح التجارية والمحسوبيات.