
ما يدفعنا الى عرض تفاصيل هذه القضية، هو رغبتنا في التعمق في سبر الحالات التي أدخلها القضاء تحت تعريف جرم ابتدع تسميته هو جرم ال"فرار". نقرأ في فقرة الوقائع الواردة في الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في بيروت في 25/9/2013 والمنظم على نموذج من صفحة واحدة: "تبين انه بتاريخ 2/1/2012 أقدمت المدعى عليها على الفرار من منزل مخدومها الى جهة مجهولة دون اعلام السلطات المختصة ضمن مهلة الاسبوع المنصوص عنها قانونا". ونلحظ أن الحكم يستعيد هنا حرفيا وصف الوقائع كما ورد في الاحكام الصادرة على نماذج والتي تم رصدها من قبلنا. الا أن ما يلحق من سرد للوقائع مثير للدهشة حيث نقرأ "ثم تم اعادتها الى منزل مخدومها"، ونلحظ هنا استخدام عبارة من شأنها الدلالة على أنها مجرد غرض يعاد الى المكان الذي يفترض أن يكون فيه. غير أن فقرة القانون (أي الفقرة التي من المفترض ان تتضمن الحيثيات القانونية والتكييف القانوني الواقعة المادية) لا تأتي بأي تفسير اضافي للواقعة التي استوقفتنا لما تحمله من أسئلة مشروعة حول ظروف ترك العاملة والذي يصفه الحكم على أنه فرار أو ظروف اعادتها الى منزل مخدومها. فقد اقتصر التحليل القانوني على الآتي "حيث أن فعل المدعى عليها لجهة اقدامها على الفرار من منزل مخدومها الى جهة مجهولة دون اعلام السلطات المختصة ضمن مهلة اسبوع يؤلف جنحة المادة 7 من القرار 136/69". وعليه، حكمت القاضية الناظرة في القضية على العاملة في الخدمة المنزلية من الجنسية الكينية، بالحبس شهرين وبستمائة ألف ليرة لبنانية غرامة، وذلك بعد أن تثبتت من واقعتي "فرارها" و"اعادتها الى منزل مخدومها"، من دون مزيد من الشرح. وقد صدر الحكم غيابيا من دون مثول العاملة المعروف مقامها لدى صاحبة العمل (أي في المكان الذي تم اعادتها اليه) أمام المحكمة.
ولفهم تفاصيل القضية، كان لزاما علينا بالتالي العودة الى محضر تحقيق قوى الأمن الداخلي مع العاملة، والتي من شأنها للأسف أن تكشف بعض النتائج السلبية في استخدام النماذج المعدة سلفا. ومن هذا المحضر، يخرج أنه تم توقيف العاملة في غضون ساعات من تركها المنزل (وليس أيام) على الطريق من قبل دورية من قوى الامن الداخلي لعدم حيازتها أوراقها الثبوتية وتم اقتيادها الى مخفر البرج، الذي قام بالاتصال بصاحبة العمل بعد ان زودتهم العاملة برقمها. وقام المخفر بالاستماع الى افادة العاملة، بحضور صاحبة العمل وقيامها بالترجمة كون العاملة لا تتقن اللغة العربية (علما انه من المفروض ان يقوم بذلك مترجم/ة محلف/ة أو مندوب/ة من السفارة وليس صاحبة العمل)، فأشارت الى انها خرجت للتنزه "دون اعلام صاحبة العمل" وأنها تاهت في طريق العودة الى المنزل وتم توقيفها من قبل دورية في قوى الامن الداخلي بسبب عدم حيازتها اوراقها الثبوتية (اكثرية اصحاب العمل في لبنان يصادرون اوراق العاملات). أما صاحبة العمل، فقد أدلت بعدما أبرزت جواز سفر العاملة واقامتها (الصالحة)، أنها لا تريد ان تدعي على العاملة وأنها "ترغب باصطحابها معها الى المنزل".
وعليه قام المخفر بالاتصال بالمحامي العام الاستئنافي في بيروت، القاضي بلال ضناوي، الذي اشار الى "تسليم الخادمة الى مخدومتها وختم المحضر وايداعه جانب نيابته". هذا كان في 2/1/2012، الا ان القاضي ذاته قرر، في 8/2/2012 اي بعد شهر من الحادثة، الادعاء على العاملة بجرم المادة 7 من القرار 136/69 التي تفرض على الاجنبي المقيم في لبنان لمدة تفوق ثلاثة اسابيع ويحمل بطاقة اقامة سنوية ان يتقدم خلال الاسبوع الذي يلي انقضاء هذه المدة الى مديرية الامن العام التابع له محل اقامته بغية الحصول على بطاقة اثبات وجود، والمادة 770 من قانون العقوبات من دون تبيان أسبابه. واللافت هنا أن هذا الادعاء يعكس تشويها كاملا للواقع: فمغادرتها المنزل استغرقت ساعات وليس أياما، وهي لم تترك مكان اقامتها ولم تتخذ أي مكان إقامة جديد، بل أنها صرحت أنها تاهت على الطريق ولم ينهض في الملف ما يدحض ذلك. فضلا عن ذلك، يجدر القول إن صاحبة العمل لم تدع بوجه العاملة.
وازاء ذلك، تطرح أسئلة مشروعة: فعلام استند المحامي العام الاستئنافي، ومن بعده القاضية المنفردة الجزائية، للادعاء ثم الحكم على العاملة على اساس جرم المادة 7 من القرار 136؟ وكيف اعتبر القضاء ان عناصر جرم المادة 7 من القرار 136 مكتملة أي عدم اعلام القوى الامنية بمكان وجودها خلال أسبوع فيما تم توقيفها خلال ساعات فقط وأنها لم تتخذ أي مكان إقامة جديد؟ وألا يعكس ذلك ازدراء معينا بحقوق العاملة والتي يمكن ادانتها من دون دلائل، أو توجها قضائيا الى معاقبة أي عاملة تخرج من مكان عملها من دون اذن، حتى ولو لم يكن هنالك نص صريح يعاقب على ذلك خلافا لقاعدة "لا عقوبة من دون نص"؟ وألا يشكل ذلك دليلا إضافيا على المقايسة القضائية التي أشرنا اليها في مقالنا السابق حول الفرار بين استخدام العمالة الأجنبية والاستعباد.
بقي أن نذكر أن العاملة ليست على الأرجح على علم بادعاء النيابة العامة عليها وبإدانتها من قبل القضاء (خاصة أن الادعاء أتى بعد شهر من الواقعة وصدر الحكم بالصورة الغيابية بعد مرور أكثر من عام). وبالتالي، هي اليوم تواجه خطر التوقيف والاحتجاز تنفيذا للحكم، عند سفرها أو "تسفيرها" الى بلدها لجرم الفرار. فلنبلغها بمنطوق الحكم قبل ذلك.
الصورة من ارشيف المفكرة القانونية
متوفر من خلال: