هو خامس حكم تصدره القاضية عبير صفا لإبطال الملاحقة بحق ناشطي حراك صيف 2015. ما يلفت في حيثيات الحكم هو التأويل القانوني الذي أعطته القاضية صفا لجرم “تحقير العلم“. فبخلاف النيابة العامة التي رأت أن مجرد كتابة عبارات عليه تشكل تحقيرا له، عادت القاضية لتذكر بأن العلم ليس سوى رمز وأن أهميته ليست بذاته إنما أولا بالمعاني التي يجسدها وهي معاني الشرف والكرامة والحرية ومبادئ الاعتزاز والفخر بالإنتماء الوطني. انطلاقا من ذلك، أبطلت القاضية الملاحقة بعدما اعتبرت أنه بمعزل عن العبارات المكتوبة على العلم، من البين أن الهدف منها تمثل أولا في الدفاع عن معاني العلم ومبادئه. وبذلك، تكون القاضية أخرجت من خلال اجتهادها جرم “تحقير العلم” من المقاربة الطوطامية التي تقوم على قدسيته بحد ذاته في اتجاه إعادة الاعتبار للقيم التي يقوم عليها العلم، وهي القيم التي تحظى بالقدسية. وبهذا المعنى، بدت رسالة الحكم مزدوجة: فتحت غطاء تبرئة ناشطي الحراك على خلفية دفاعهما عن “الكرامة” التي يرمز العلم عليها، كان الحكم يدين في عمقه النظام السياسي الذي كان هو يتسبيح من خلال سياساته هذه الكرامة. بكلمة أخرى، من حقر العلم في 2015 ليس الذي دون عبارات عليه، بل الذي استباح كرامة المجتمع برمته. اجتهاد هام وفائق الحيوية في الزمن الذي نعيش فيه (المحرر).
أصدرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت عبير صفا أمس، حكماً قضى بكف التعقبات بحق الناشطين أسعد ذبيان وزين ناصر الدين في قضية تعود إلى العام 2015، وقد حركتها النيابة العامة الاستئنافية في بيروت على خلفية كتابة عبارتي “طلعت ريحتكم ومستمرون” على جدار مخطط بألوان العلم اللبناني مقابل مصرف لبنان في الحمرا. وإذ ادعت النيابة العامة على الشابين بجرم تحقير العلم اللبناني، أكدت القاضية صفا في الحكم أن فعل المدعى عليهما، يندرج في إطار التعبير السلمي عن الواقع المعيشي في لبنان ووضعته في صورة “الدفاع عن أحد المبادئ التي يجسدها العلم اللبناني، وهي العيش بكرامة”.
ويُصادف صدور الحكم اليوم خلال انتفاضة شعبية مستمرة منذ أكثر من 40 يوماً رفضاً للأوضاع المعيشية الصعبة وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، وهي انتفاضة تعكس مجموعة تراكمات ظهرت ملامحها في حراك 2015، وقبلها في تظاهرات “إسقاط النظام” عام 2011. والجدير ذكره، أن الجدار نفسه الذي ادعت النيابة العامة لأجله في 2015 على ذبيان وناصر الدين، والموجود في الشارع الذي يفصل بين مصرف لبنان ووزارة الداخلية، أُعيد رشه من جديد بعبارات مطلبية ورسومات الغرافيتي، وأصبح أشبه بلوح يعتمده متظاهرون كثر اليوم للتعبير عن غضبهم ومطالبهم، ولا تزال ألوان العلم اللبناني تُزينه.
قضية ذبيان وناصر الدين تعود إلى خريف العام 2015 حيث نزل آلاف من اللبنانيين إلى الشوارع تبعاً لانتشار النفايات في البلاد نتيجة إغلاق مطمر الناعمة وانتهاء العقد مع شركتي “سوكلين” و”سيكومو” اللتين كانتا تتوليان جمع وكنس النفايات من بيروت وعدة مناطق لبنانية. وتكررت الاعتصامات والتحركات المختلفة آنذاك، ومنها تحركات عرضت العديد من الناشطين للتوقيف والتحقيق، ووضعتهم بمواجهة مع القضاء، على خلفية هتافات وشعارات. ومن بين هذه التحركات، مسيرة من تنظيم حملة “طلعت ريحتكم” بتاريخ 6 تشرين الأول 2015، شارك فيها الشابان ذبيان وناصر الدين، انطلقت من أمام مبنى الواردات التابع لوزارة المالية في بشارة الخوري نحو مصرف لبنان في الحمرا. وكان هدفها الضغط على الوزارة لتحويل أموال البلديات وفتح حساب للصندوق البلدي المستقل في مصرف لبنان. ويومها استخدم ذبيان فرشاة طلاء وكتب عبارة “طلعت ريحتكم” على جدار مواجه لمصرف لبنان وكانت عليه ألوان العلم اللبناني، فيما كتب ناصر الدين عبارة “مستمرون”. ولم يُسجل في ذلك النهار أي عملية توقيف سوى توقيف أسعد ذبيان، حيث اقتيد إلى مخفر في ثكنة الحلو (فصيلة مينا الحصن)، ولم يدم توقيفه طويلاً، حيث تم الاستماع إلى إفادته وإطلاق سراحه بسند إقامة. وفي عام 2018، تبيّن أن النيابة العامة الاستئنافية في بيروت قد ادعت على الشابين بتهمة تحقير العلم اللبناني سنداً للمادة 384 من قانون العقوبات.
العبارات جاءت لتدافع عن مبادئ العلم اللبناني
يظهر في الحكم أن القاضية صفا اعتبرت أنه “بالنسبة للجرم المسند إليهما لجهة تحقير العلم اللبناني، يقتضي التحقق من مدى توافر الجرم المذكور في حقهما في الملف الراهن”. وشرحت القاضية صفا أهمية العلم اللبناني الذي يُمثل “رمز البلاد وسيادتها، ويُجسّد معاني الشرف والكرامة والحرية ويرمز إلى مبادئ الاعتزاز والفخر بالانتماء الوطني، وهي معان ومبادئ سامية وراقية يقتضي حمايتها وضمان عدم التعرض لها والانتقاص منه”.
وفي حين أنه يقتضي وجود عنصرين أساسيين لإثبات الجرم على المدعى عليهما، وهما العنصرين المادي والمعنوي. لفتت القاضية صفا في الحكم بأن “العنصر المادي يتمثل في سلوك يصدر عن المدعى عليه يقوم بموجبه بتوجيه عبارة، إشارة، حركة أو رسم ما من شأنه أن ينال من المبادئ والمعاني أعلاه…”. وأما العنصر المعنوي ف “يتوفر في كل مرة يكون فيها القصد الجرمي واضحاً أي الإرادة الصريحة متوافرة للنيل والحط من المبادئ التي يُجسدها العلم بالنسبة للدولة والمواطنين تجاه الغير كما تجاه أنفسهم”. ومن هذا المنطلق أحالت القاضية صفا الأمر إلى إفادة المدعى عليهما، اللذين أكدا للمحكمة عدم وجود أي نية للإساءة للعلم اللبناني من خلال إقدامهما على الكتابة على الجدار المرسوم عليه العلم، بل النية كانت توجيه رسائل مطلبية للسلطات السياسية.
ومن اللافت أن القاضية صفا اعتمدت تعليلاً يُكرّس مبدأين هامّين: أولاً حرية الرأي والتعبير، وثانياً، حق المطالبة بالحياة الكريمة. وفيما أكد الحكم أن عبارة “طلعت ريحتكم” التي كُتبت على جدار مرسوم عليه العلم اللبناني تخرج عن حدود “اللياقة والتخاطب”، إلا أن هذه العبارة لا تُشكل جرماً لعدم اقترانها بالعنصر المعنوي للجرم. وكان لافتاً أن القاضية صفا اعتبرت أن الهدف من كتابة العبارة هو الدفاع عن مبادئ يُجسدها العلم ومنها “الكرامة”، وقد توقفت عند سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت المواطنين اللبنانيين للاحتجاج السلمي آنذاك، مما دفعهم لإيجاد الوسائل لإيصال رسائل للحكومة لحثها على القيام بواجباتها.
إذن تفصيلاً، يُفيد الحكم بأن عبارة “مستمرون” التي كتبها ناصر الدين “… لا تشكل بالمفهوم القانوني الوارد في المادة 384 من قانون العقوبات أي تحقير للعلم اللبناني وللمبادئ التي يجسدها، لا مادياً ولا معنوياً، كما أن العبارة الأخرى التي أقدم ذبيان على كتابتها وهي “طلعت ريحتكم”، وإن كانت تخرج عن حدود اللياقة وأصول التخاطب، فهي عبارة … تندرج ضمن إطار حرية إبداء الرأي والتعبير عنه والتي كفلها الدستور اللبناني في المادة 13 منه”. وأضاف الحكم: إنها “ممارسة لهذا الحق عبر وسيلة احتجاجية سلمية صرف تطال مسائل يومية حياتية تعبر عن واقع يعاني منه الشعب اللبناني في مختلف المناطق، اقتصادية واجتماعية”. وأضافت، إن هذه “المحكمة ترى العبارة التي صدرت كتابة (عن ذبيان) … لم تهدف لتحقير العلم اللبناني والانتقاص من المبادئ التي يجسدها، … بل جاءت للدفاع عن أحد المبادئ التي يجسدها العلم اللبناني ألا وهي العيش بكرامة في بلد يُفترض أن يؤمن لمواطنيه حقوقا ووسائل حياتية أساسية على أقل تقدير”.
لذا، خلص الحكم إلى التأكيد على أن العنصر المعنوي للجرم غير متوفر، وذلك لعدم قصد النيل والحطّ من المبادئ التي يجسدها العلم اللبناني، بل إن ما أقدم عليه المدعى عليهما جاء كردة فعل عفوية من قبلهما وتعبيراً احتجاجيا سليماً عن تدهور وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني من تفاقمها واشتداد تأزمها المجتمع اللبناني ككل، وهي تبقى، أي عبارة “طلعت ريحتكم” شعاراً لمجموعة من الحراك المدني أطلقه على نفسه. وختاماً، انتهت القاضية إلى كف التعقبات بحق المدعى عليهما.
ويُذكر أن القاضية صفا كانت نظرت في العديد من الملفات المرتبطة بحراك 2015، وهي ملفات كانت استندت إما على شعارات وهتافات رفعها ناشطون، وإما على عبارات دوّنت على جدران المدينة مثل “حرامية، فاسدين…”. وتميّزت الأحكام، ومنها أربعة أحكام وثقتها المفكرة، بكفّ التعقبات بحق المدعى عليهم، خاصة وأن التحركات التي نفذها المتظاهرون آنذاك كانت في مرحلة استثنائية وكان الشعب في حالة استياء عام.