شهِدَت المصادقة على قانون الماليّة لسنة 2025 مَسارًا مختلفا عن الفترة السابقة، لأنّها تزامَنت مع تركيز ما يُعرف بمؤسّسات “النظام القاعدي”. صادق على القانون مجلس نواب الشّعب، ثم مجلس الجهات والأقاليم في إطار جلسة عامة مشتركة. غير أنّ المجلسين لم يُصادِقا على نصّ موحّد، ليتمّ تشكيل لجنة مُتناصفة بينهما عُهِدَ إليها إعداد نصّ مُوحّد حول الفصول الخلافيّة لإعادتها مجدّدا للجلسة العامّة. لم تتمكّن اللجنة المذكورة بدورها من الاتفاق حول صيغة واحدة، ليَختمَ رئيس الجمهوريّة في الأخير النّص الذي صادَقَ عليه مجلس النواب وفق أحكام المرسوم الرّئاسي المتعلّق بتنظيم العلاقات بين مجلس نواب الشّعب ومجلس الجهات والأقاليم. وبذلك يَبرز الدّور السّياسي لمجلس الجهات والأقاليم في أوّل إمتحان له دورًا صوريّا، بينما كانت فلسفة إحداثه كغرفة برلمانيّة ثانية فلسفة تنمويّة وفق تصريحات رئيس الجمهوريّة الذي يتحدّث دائما عن ابتداع مقاربة جديدة للتنمية المحليّة و”اللامركزيّة”.
سنة 2023، وفي خضم مناقشة قانون الماليّة لسنة 2024 من قبل البرلمان الجديد، كان الموقف السّائد بين النوّاب عدم رضاهم عن المشروع بوصفه لا يُعبّر عن تطلّعات السّلطة الجديدة، غير أنّهم برّروا مصادقتهم على المشروع بالضّرورة السّياسيّة لدرء “المؤامرة” التي تُهدّّد “مسار 25 جويلية”. النتيجة كانت احتفاظ 26 نائبا بصوته ورفض 4 نواب فقط قانون الماليّة للسّنة الفارطة، من مجموع 146 نائبا شاركوا في التصويت. بالنّسبة لقانون الماليّة لسنة 2025، سيجترّ النوّاب تقريبا نفس العناوين التي تُندّد بمواصلة الخيارات الاقتصاديّة القديمة. الجمل الرافضة التي ردَّدَها النّواب يمكن أن تُوحي في لحظتها بوجود معارضة برلمانيّة، بخاصّة مع توسّع دائرة الرّافضين لقانون الماليّة من خلال احتفاظ 13 نائبا بأصواتهم ورفض 21 نائبا من جملة 121 نائبا قاموا بالتّصويت، مع الإشارة إلى غياب 33 نائبا عن جلسة المصادقة.
موافقة حوالي 56% فقط من أعضاء المجلس النيابي على قانون الماليّة يُعتبَر إقرار منهم بفشل المنظومة الحالية في ترجمة شعاراتها إلى أفعال رغم مرور ثلاث سنوات على هيمنتها على الحكم. إضافة إلى ذلك يَبرز ارتفاع عدد رافضي القانون التّناقضات الدّاخليّة لـ”منظومة 25 جويلية”. إذ أنه في الممارسة البرلمانيّة الديمقراطيّة يُمثّل التّصويت على قانون الماليّة الآليّة التي يتمّ من خلالها التمييز بين الموالاة والمعارضة وما يترتّب عنه من حقوق المعارضة البرلمانيّة، ومنها ترأّس لجنة الماليّة. في واقع الحال نحن إزاء مفارقة سياسيّة تتوضّح في مجلس نوّاب موالي بشكل كلّي لرئيس الجمهوريّة ومعارض في جزء منه لحكومته.
تنسحب حالة الالتباس السّياسي على المجال الاقتصادي، وهو ما يؤكّده التقرير المتعلّق بميزانيّة 2025 الذي تحصّلت المفكرة القانونية على نسخة منه في ظلّ إعراض وزارة الماليّة على نشر كافّة الملاحق لغاية اللّحظة. يَستعرض التّقرير النتيجة المتوقّعة للسّنة الماضية وفرضيّات وتوجّهات السّنة الجارية، وهو أدلّ وثيقة تُبيّن تمدّد الفجوة بين الكلام والأرقام، وتجعَل من قانون الماليّة والميزانيّة أداتي دعاية عوض أن تكونا أداتي دفع للتنمية الإقتصاديّة.
تنفيذ ميزانية 2024: تضخيم التقديرات
وفق نتائج تنفيذ ميزانيّة الدّولة للسّنة الماضية التي تضمّنها التّقرير حول ميزانيّة الدّولة لسنة 2025، فشلت الحكومة في تجسيد أبرز الفرضيّات الاقتصاديّة لسنة 2024، بداية بالحجم الجملي لميزانيّة الدّولة. فقد صادق البرلمان على ميزانية تُقدّر بـ77868 مليون دينار (م.د) تتوزّع بين 18063 م.د مخصّصة لنفقات أصل الدّين و59805 م.د مخصّصة لنفقات الميزانيّة.
على خِلاف ذلك، تنتظر الحكومة غلق ميزانيّة 2024 بنفقات جمليّة تُقدّر بـ75699 م.د، منها 18791 م.د موجّهة لسداد أصل الدّين أي بارتفاع يقدّر بـ728 م.د، في حين انخفضت نفقات الميزانيّة بـ 2897 م.د لتكون في حدود 56908 م.د. مَرّ تَراجَعَ الإنفاق العامّ بحوالي 5% مقارنة بالمبلغ الذي حظي بالمصادقة في صمت دون أدنى مساءلة رغم الفارق الملحوظ والذي يفوق على سبيل المقارنة مرتين ونصف ميزانية وزارة النّقل التي بلغت 1051.31 م.د سنة 2024. يُعدّ الفارق بين حجم الإنفاق المرصود وحجم الإنفاق الفعلي على الأرجح سابقة من نوعه منذ الأزمة الاقتصاديّة التي شهدتها تونس في ثمانينات القرن الماضي. يُوضّح ذلك فعليّا تشديد سياسة التقشّف التي تُحيل ضمنيّا إلى تبنّي الخيارات الاقتصاديّة لصندوق النّقد الدّولي رغم إيقاف المفاوضات الثّنائيّة بين الطّرفين وإدانة رئيس الجمهوريّة لهذه المؤسسة النقديّة ضمن ما يُعرف في المعجم الرئاسي بـ”حرب التّحرير الوطني”. يمكن قراءة هذه الازدواجيّة بتبنّي الحكومة فعليا الأطروحات الاقتصاديّة للصندوق بوصفها برنامج “إصلاح إقتصادي” قائم على التقشف، ولكنّها تطرح أيضا تساؤلاً بخصوص الاقتراض منه، أي هل هي فعلا مسألة محسومة أم مؤجّلة؟
لن تقف التّقديرات الخاطئة عند ذلك الحدّ، فقد برمَجَت الحكومة في قانون الماليّة لسنة 2024 موارد اقتراض تُناهز 28188 م.د موزّعة بين 16445 م.د قروض خارجيّة و11743 م.د قروض داخليّة. إلاّ أنّ التّقرير المذكور يُفيد بأنّ الحكومة لم تتحصّل من الخارج سوى على 4990 م.د. تَجدر الملاحظة هنا إلى أن الحكومة -وفي سابقة تحيل على الارتجال في إدارة الشأن العام- برمَجت ما قدره 10307 م.د من جملة القروض الخارجيّة المُوجَّهَة لدعم الميزانيّة تحت عنوان “قروض أخرى”، أي على ضرب من المجهول، ولم تَنجح في تحصيل مُجمَل المبلغ. إلى جانب ذلك برمَجَت الحكومة قَرضين ثنائيّين فقط لدعم الميزانيّة؛ الأوّل من العربيّة السّعوديّة بقيمة 1594 م.د والثاني من الجزائر بقيمة 965 م.د، ولم تتمكّن من نيلهِما أو حتّى إحالتهما إلى السّنة الحالية، وهو ما يفيد تراجع الدّولتين المانِحتين عن اتّفاقاتهم المبدئيّة، وبشكل عامّ يعود التّراجع في هذا النّوع من الدّيون إلى أسباب سياسيّة. في النّهاية مجمل القروض الخارجيّة لدعم الميزانيّة كانت في إطار التّمويل متعدّد الأطراف (صندوق النقد العربي، البنك العالمي، البنك الافريقي للتّنمية، البنك الإفريقي للتصدير والإستيراد) باستثناء قرض ثنائي وحيد من إيطاليا يبلغ 169 م.د لم يُكن مبرمجا في الميزانيّة.
عدم تحقيق الحكومة فرضيّات الاقتراض الخارجي، جعلَهَا تلجأ إلى السّوق المحليّة وتتعامل معها كإحتياطي لحاجيات التّمويل العاجل لتقترض منها في النّهاية 23198 م.د، وتجاوزت بذلك ضِعف المبلغ الذي ضمّنته في قانون الماليّة العام الماضي والبالغ 11743 م.د.
الموارد الوحيدة التي فَاقَ حجمها توقّعات الحكومة تمثّلت في الهبات، والتي قدّرتها بـ350 م.د، لكنّها تنتظر تحصيل 781 م.د في إطار برنامج تعاون مع الاتحاد الأوروبي. هذا الارتفاع يُضاف له القرض الإيطالي الغير متوقّع، الذي يمكن أن يُفهم في إطار تقدّم تونس في “تنفيذ التزاماتها” المتعلقة بالهجرة غير النّظاميّة تجاه الاتحاد الأوروبي بشكل عام، وتجاه إيطاليا بشكل خاصّ.
يَعكس التصرّف في ميزانية السنة المُنقضية توسّع الإخلالات في مجال تعبئة موارد الاقتراض والإنفاق العمومي. في المقابل يَتواصَل تضخيم الموارد الذّاتيّة للدّولة الذي تحوّل إلى أسلوب عمل في العشريّة الأخيرة، تعتَمده الحكومات المتعاقبة في النّقاش حول قانون الماليّة لتُبرهِنَ على نجاحها في تطوير منظومات الاستخلاص وتوسيع القاعدة الضّريبيّة. لكنّ النتائج السّنويّة تُفيد عكس ذلك، إذ أنه في الجانب المتعلّق بالمداخيل الجبائيّة ما انفكّت الفجوة تتمدّد بين الإيرادات المتوقّعة والإيرادات المعبّئة التي تكون عادة دون التوقعات. في سنة 2023 تضمّن قانون الماليّة موارد جبائية تقدّر بـ40536 م.د، لكنّ النّتيجة الفعليّة كانت 38047 م.د. وفي سنة 2024 تَضمّنَ قانون الماليّة مداخيل جبائيّة بقيمة 44050 م.د بينمَا تتوقّع الحكومة استخلاص 42190 م.د، ونحن نكاد نجزم بالرجوع لنتائج السّنوات السّابقة أن الحصيلة عند غلق ميزانيّة 2024 ستكون أقلّ من ذلك.
الإشكاليّة المطروحة في الحالة الرّاهنة هي ارتفاع هامش الخطأ بين التّقديرات والنّتائج، والذي يصل تقريبا إلى حول 2000 م.د. هذا المِقدار غير المستخلص يُمثّل على سبيل المقارنة قرابة ضعف إيرادَات الضريبة على الشركات البتروليّة الذي نزل إلى حدود 1060 م.د مقابل ـ1725 م.د مقدّرة بقانون الماليّة للسّنة الفائتة.
وفق الفصل 8 من القانون الأساسي للميزانيّة لسنة 2019: “تخضع البيانات والتّقديرات المتعلّقة بقانون الماليّة لمبادئ المصداقيّة والشّفافيّة”. ويقتضي مبدأ المصداقيّة عدم التّقليل أو التّضخيم من تقديرات تكاليف وموارد الدّولة، وهي مسألة جوهريّة في صميم دمَقرطَة التصرّف في المال العامّ وشرعنة عمليّة المصادقة البرلمانيّة على قانون الماليّة. غير أنّ الفارق الملحوظ والمتكرّر في الأرقام بين التّقديرات والنّتائج المحقّقة يتعدّى هامش الخطأ البسيط إلى مستوى التّضخيم. ويرتبط الاستشراف المبالغ في حجم الموارد الذّاتيّة بالرغبة في بتضخيم فرضيّة نسبة نموّ النّشاط الاقتصادي. إذ أنه وفق قانون الماليّة لسنة 2024 افترضت الحكومة تحقيق نسبة نموّ تعادل 2.1%، اجتمع جلّ المختصّون على عدم صدقيّتها. أمّا في الواقع، فمن المرتقب تحقيق نسبة نموّ بـ 1.6%، ذلك ما أكّده رئيس الحكومة في كلمته خلال الجلسة الافتتاحيّة لنقاش موازنة 2025 في البرلمان. أدّى تضخيم نِسَب النموّ إلى تقديم مؤشّرات خاطئة في علاقة بحجم المديونيّة من النّاتج المحلّي الإجمالي، فمن بين المسائل الدّعائيّة التي استخدمتها السلطة في تقديم ميزانيّة 2024، كان النّزول بـ0.4% في نسبة حجم المديونية من الناتج المحلّي الإجمالي، أي من 80.2% سنة 2023 إلى 79.8% سنة 2024. لكنّ النّتائج الواردة في التّقرير الذي تحصلنا عليه، تُفيد بأنّ النسبة بلغت 83% سنة 2023، و82.2% منتظرة سنة 2024، أي بزيادة 2.4% مقارنة بالتقديرات المرتبطة بميزانية الدولة لسنة 2024.
يفترض سقوط الفرضيّات التي وضَعَتها الحكومة في قانون الماليّة للسّنة المنقضية، وبالخصوص تراجع نسق الإنفاق مقارنة بما تمّت برمجته، الالتجاء إلى قانون ماليّة تعديلي كحاجة تقنيّة وسياسيّة تُصحّح من خلاله تقديراتها. لكنّ الحكومة لم تُقدّم قانون ماليّة تعديلي ولم يَطلب النوّاب ذلك. وعلى العكس تماما تمّ التسويق لغياب قانون ماليّة تكميلي أو تعديلي لأوّل مرّة منذ الثّورة على أنّه إنجاز سياسي. هذا التّوظيف السّياسي للأدوات الاقتصاديّة، سيجعل الحكومة تواجه عدّة مطبّات عند غلق ميزانيّة الدّولة للسّنة الفائتة.
ميزانيّة 2025: نفس الخيارات تؤدّي إلى نفس النتائج
تُبيّن مختلف المؤشّرات والتوجّهات المُضَمَّنَة في الميزانيّة وقانون الماليّة أنّ الحصيلة القادمة ستَكون امتدادا لنتائج السنة الماضية. إذ أن تقديرات موارد وتكاليف الدّولة لسنة 2025، تقريبا ذاتها التي برمَجَتْها الحكومة في 2024 من دون أن تكون لها القدرة على إنجازها. ستبلغ نفقات الميزانيّة 59828 م.د (حجم النفقات الذي حظي بالمصادقة في 2024، 59805م.د) بعجزٍ يُناهز 5.5% (10150 م.د) من الناتج المحلّي الإجمالي. مقارنة بحجم الإنفاق المنتظر تحقيقه سنة 2024 ستتطوّر النّفقات بنسبة 5.13%. لكنّها تَبقى دون مستوى نسبة التضخّم الذي يَستشرفه البنك المركزي للعام الحالي، بـ6.2%.
بقدر ما تبرز فكرة تشديد التقشّف كفكرة مركزيّة بُنيَت عليها موازنة العامين الفائت والحالي، بقدر صعود خطاب رئيس الجمهوريّة حول الارتقاء بجودة الخدمات العامّة الذي يقتضي سياسة ماليّة توسعيّة. في قطاع النّقل -على سبيل المثال- قام الرئيس بعدّة زيارات ميدانيّة وتحدّث بحماس على إعادة بناء هذا المرفق العمومي، لكن في المقابل لم يُتَرجم أقواله إلى أفعال بخاصّة وأنّه المسؤول الحصري عن بلورة السّياسات العموميّة، حيث ستمرّ ميزانيّة وزارة النّقل من 1051.31 م.د سنة 2024 إلى 1076.470 م.د سنة 2025، بنسبة تطوّر 2.4%، بينما والحال أنه من أجل الحفاظ على نفس مستوى نفقات السّنة الفارطة يجب أن تكون الزّيادة على الأقلّ في مستوى نسبة التضخّم أي 6.2%. ومن أجل فهم محدوديّة حجم الزّيادة التي تُعادل 25.16 م.د يمكن مقارنتها مثلا بصفقة اقتناء 300 حافلة مستعملة من فرنسا خلال السّنة المنقضية والتي بلغت كلفتها 16 م.د وفق بيان شركة نقل تونس. هذه الوضعيّة تنسحب على مجمل الاعتمادات المرصودة لبقيّة الوزارات وتُبيّن تهافت الخطاب الرّئاسي أمام حقيقة السّياسات العموميّة التي يجري اعتمادها.
ارتكزت الدّعاية الرّسميّة في تقديم قانون الماليّة وميزانيّة السّنة الحالية بشكل مكثّف على تَكريس العدالة الجبائيّة والدّولة الاجتماعيّة. في مَجال الجباية تَمّت المصادقة على تغيير جدول الضريبة على الدّخل معدّلا، بإضافة شريحة جديدة تُمثّل أصحاب الدّخل السنوي الذي يفوق 70 ألف دينار، والتي ستخضع لنسبة ضريبة تساوي 40%. فيما تمّ حصر الشّريحة السادسة في أصحاب الدّخل السنوي بين 50 ألف دينار و70 ألف دينار والتي ستخضع لنسبة تُعادل 38%. رغم التّعديل لم يَقَع تكريس التّصاعديّة بشكل كلّي لأصحاب المداخيل المرتفعة التي يمكن أن تتجاوز بكثير 100 ألف دينار، بخاصّة بالنسبة للكوادر العليا في القطاع المالي وأرباب المهن الحرّة، مع الإشارة إلى أنّ الفئة الأخيرة تتمتّع بخصم ضريبي كلّي على أعباء عملها في حين أنّ الأجراء يخضعون لخصم 10% فقط من أعباء العمل على ألا تتجاوز سقف 2000 د سنويّا. علاوة على ذلك لم يقع توسيع الشّريحة الأولى المُعفَاة من الضريبة على الدّخل والتي تضمّ الذين يتقاضون 5000د فما أقلّ سنويّا لتشمل الأجور الدّنيا، علما وأنّ فلسفة إحداث هذه الشّريحة منذ أواخر عقد الثمانينات كان إعفاء أصحاب الأجر الأدنى المضمون من الضريبة على الدّخل.
بالتوازي مع ذلك، وقعت مراجعة نسب الضريبة على الشركات مع المحافظة على النسبة الدّنيا بـ10% بالنسبة للشركات التي تعمل في مجالات الصناعات التقليديّة والفلاحة والصيد البحري والطّفولة والمسنّين والثقافة والرسكلة والتثمين، إضافة إلى الاستثمارات المنجزة في مناطق التنمية الجهويّة بغضّ النّظر عن مجال نشاطها. وتمّ إحداث 4 شرائح تخضع لنسب تتراوح بين 15% و35% بناء على رقم المعاملات وشريحة أخيرة بـ40% تشمل البنوك والمؤسّسات الماليّة ومؤسّسات التأمين. رغم هذا التغيير الذي ينحو باتّجاه التّرفيع، تظلّ الهوّة مرتفعة بين مساهمة مداخيل العمل (العبء الضريبي على الأفراد) ومساهمة مداخيل رأسمال (العبء الضريبي على الشركات) في جملة المداخيل الجبائيّة للدّولة. فمن المنتظر أن تَبلغ مساهمة الشّركات في سنة 2025 حوالي 14.5%، علما وأنّ المعدّل الإفريقي وفق منظّمة التّعاون الاقتصادي والتّنمية يبلغ 19.3% سنة 2020 -نعتمد هذه النّسبة للمقارنة وليس كمعيار- في المُقابل يُساهم الأفراد بقرابة 65% في مجمل الموارد الجبائيّة بشكل مباشر (الضريبة على الدّخل) وغير مباشر (الأداء على القيمة المضافة ومعلوم الاستهلاك). إزاء هذا الواقع سيَتواصل الحيف الضريبي الذي يبُرِزه اختلال هيكلة القاعدة الضّريبيّة والذي يُسقِطُ بدوره وهم العدالة.
يبيّن التّقرير حول ميزانيّة السّنة الجارية أنّ أكثر توجّه اقتصادي-سياسي واضح المعالم ومُغاير للتوجّه المعمول به قبل تفرّد الرئيس الحالي بالسّلطة، يكمن في الاعتماد بالأساس على الاقتراض الدّاخلي عوض الاقتراض الخارجي. بَرزَ هذا التمشّي بشكل جليّ في السّنة الفائتة عبر قلب هيكلة حجم الدّين العمومي، ومن المتوقّع أن يبلغ مناب الدين الدّاخلي 58.3% ومناب الدين الخارجي 41.7% من جملة الدين الإجمالي للدّولة نهاية العام الجاري. هذا المنحى غير مفصول عن سياسة التّداين العشوائيّة التي اعتُمِدَت منذ الثورة، أمّا الجديد فهو تغليفه بالشعبويّة عبر تنزيله في خانة “التّعويل على الذّات”، في الوقت الذي فشل فيه رئيس الجمهوريّة في حلّ معضلات بعض القطاعات الاقتصاديّة القادرة فعليّا على تحقيق موارد ذاتيّة مهمّة لخزينة الدّولة وفي مقدّمتها قطاع الفسفاط، بخاصّة وأنّ الاقتصاد المحلّي يمرّ بحالة ركود تضخّمي تُعيقه عن خلق فائض يمكّنه من المساهمة في تمويل ميزانيّة الدّولة، فضلا عن أنّ الاستثمار العمومي في أدنى مستوياته، ومقارنة بسنة 2023 سيَنخفض من 5624 م.د إلى 5426 م.د.
المصدر: تقرير حول ميزانيّة مشروع الدّولة لسنة 2025
في ظلّ تباهي السّلطة الحالية بقُدرتِها على خلاص الدّيون في آجالها كان من الواضح أنّ الحكومة ستلجأ إلى الاقتراض من البنك المركزي للسّنة الثّانية على التّوالي لتغطية خدمة الدّين (الأصل والفائدة) الخارجي والداخلي الذي يبلغ 24690 م.د خلال 2025. كانت نيّة الحكومة تَمرير هذه الخطوة بنوع من التستّر لكي لا تُشوّش على السّياسة الاتّصاليّة المتعلّقة بقانون الماليّة والقائمة على فكرة تكريس الدّولة الاجتماعيّة العادلة، وذلك عن طريق وضع ما قيمته 7843 م.د تحت عنوان “قروض أخرى” مثلما فعلت في السّنة الماضية، وفي خضم المصادقة على قانون الماليّة مَرَّرَت فصلا جديدا يتعلّق بإقتراض 7000 م.د من البنك المركزي. الهدف كان واضحا، وهو تهميش النّقاش قدر المستطاع حول المديونيّة لأنّ العكس سينسف الرّواية الرّسميّة المتعلّقة بقضيّة الدّيون السّياديّة، لاسيما وأنّ التّقرير حول الميزانيّة الذي لم يتمّ نشره يُبيّن أنّ نسبة المديونيّة من الناتج الإجمالي تَشهد نسقا تصاعديّا مثلما يبيّنه الرّسم البياني. خلال السّنة الحالية ووفق الحكومة ستبلغ هذه النّسبة 80.5% والحال أنّ جميع المؤشّرات الاقتصاديّة تؤكّد أنّها ستكون في مستوى أعلى. هذا التقليل متأتّي من تضخيم نسبة النموّ المفترضة بـ3.2% والتي تبدو شبه مستحيلة وفق كل المعطيات.
كلّ ما سبق ذكره يَعكس مدى تشوّه الفعل الاقتصادي وحالة الانفصام بين الواقع المادّي والأوهام التي يبثّها الخطاب الشّعبوي.
للاطلاع على تقرير الفرضيات والتوجهات الكبرى لميزانية سنة 2025