“أوَّل الدِّنْيَا تَخلَى طِينَة وتْعَمِّر المْدِينَة، وآخِر الدِّنيَا تْعَمِّر طِينَة وتَخْلَى المْدِينَة”؛[1] مَثَل شَعبي نَشأتُ على ترديده منذ طفولتي في حي طينة في مدينة صفاقس. وعندما بدأت ملامح حيَّنا تتغير نحو الأحسن كنّا -كأطفال- نتخيّل أن آخر الدّنيا قد اقترب مثلما يقول ذلك المَثل. إذ أن ظهور المصانع والمستشفى المُغلَق وأخبار بناء المدينة الرياضية والمنتزهات العمومية جَعلَنا نتخيل أن حيّنا سيصير قطبا صناعيا ولا جدال في ذلك.
لم أكن لأكتب هذا المقال لولم يُصِبني الضّجر والقلق تلك الليلة عندما كُنت أقرأ كتابا عن العولمة والسيطرة على العالم لنعوم تشومسكي: “Dominer le monde ou sauver la planète” حتى دخَلَت أصوات من الخارج شتّتت ذهني، كان أبناء الحي قد اتّخَذوا من شجرة نَبتَت تلقائيا وراء بَيتنا مقرًّا لسهراتهم، وصارت مزارا ليليّا لهم، أين يُغنّون ويرقُصون ويستمعون الى أغاني تُعبّر عنهم: عن الوحدة، الحرقة، الحب، غدر الأصدقاء، وغيرها من الأغاني الشعبية التي نشأتُ على سماعها منذ سنوات التسعينات في الأحياء التي عِشت فيها في مدينة صفاقس.
حيّ طينة يُعتَبَر من أكبر الأحياء الشعبية في صفاقس، و”طِينَة” هي اسم مُتطابق مع اسم المكان الأصلي الذي يَحمل ملامح منطقة أثرية رومانية، فيها آثار لا تُحصى ولا تُعد. ولكن في عصر التوسّع العمراني والاقتصادي في البلاد تمَّ طمس كل شيء، كل معالم الآثار والتاريخ تم رَدمها وبناء أحياء شعبية فوقها. ولم يتركوا سوى بقايا الحمّام الروماني، الذي لا يُشكّل مزارًا أثريا مُهِمًّا، فحتى حِجارته ولوحات الفسَيفاء فيه غالبا ما تجدها مُخرّبَة وملقاة بشكل يدلّ على الإهمال.
هذا الحي تَجمّعَ فيه السكان النازحون من أريافهم من “كل حدب وصوب”، ضمن ظاهرة تَشكّل الأحياء الشعبية المحيطة بالحواضر المدينيّة الكبرى، وكان يظنّ البعض هذه الظاهرة علامة على النهوض باقتصاد الوطن. وبالفعل أطلِقَ على حي طينة في فترة ما اسم “حي النهضة”. ولكن في بداية التسعينات تم تغيير الاسم باعتبَار أن كلمة “النهضة” ذات دلالة سياسية، لأنها تُحيل على حزب حركة النهضة الإسلامية المحظور في تلك الفترة.
عندما كنا أطفالا عادة ما نَجتَمع حول أبي، الذي كان يُحدّثنا عن حكايات من الذاكرة الشعبية، من بينها أسطورة السلطان ابراهيم بن الأغلب، الذي يقول عنه أبي في روايته الشعبية إنه عاش سنوات في طينة دون أن يعرفَ أحد أنه سلطان الأغالبة. ويُحدثنا أيضا عن خُرافة فَرسِه التي غرقت في الوادي ولكنه وجدها في طريق العودة بعد أن استدلّ عليها بشَعرةٍ منها، فألقى المَثل الشهير والمتداول في العامية التونسية “إذَا جَات تْجِيبْهَا سْبِيبَة، وإذا مْشَات تْقَطّع السْلاَسِل” (المقصود هنا أن الفرس تعود بخصلة شعرها بعد أن تُفلت من صاحبها وتفكّ قيودها).
ويروي أبي قصة الحياة التي قضّاها السلطان الأغلبي بين طينة ومنطقة الأَعشَاشْ (باب الجّبلي حاليا في قلب مدينة صفاقس) وكيف أمَرَ ببناء سور المدينة اعترافا منه بالجميل لسكان المدينة الذين حَموه وسانَدوه في معاركه. كما حدّثَنا أيضا عن الشاعر الشعبي الكبير أحمد ملاّك وصَولَاته في الشعر والفَتاوَى التي أسعَف بها القضاة وأعيان طينة.
وربما تبدو لي الحكايات الشعبية والذاكرة والمرويات مهمة، لأنها تُعبّر عن وجدان مجتمع محلي مازال محافظا على أنماطه وحكاياته ونَظرته القديمة التي يخبئها داخل تنظيمات الحياة العصرية.
يَبدأ حي طينة بمركز الشرطة ويَنتهي بالسجن المدني، يُدير ظهره للبحر ويستقبل الطريق الوطنية والطريقة السيارة والزّحمة المتواصلة بملء أحضانه، وتُحاذيه غابات الزيتون والأراضي الفلاحية التي يُدير لها ظهره أيضا. والكثير من آثاره يجري طمسها بشكل دؤوب، فمنذ أشهر تم اكتشاف آثار جديدة لمنزل روماني ومقابر تعود إلى الفترة الممتدة بين القرن الثاني والرابع ميلادي، ولكن تَمّ ردم هذه الآثار من أجل تعبيد طريق جديدة، تحت الحجة المألوفة: “إنها آثار غير مهمة وعادية، لا تحتوي على قصور أو معابد”.
معظم سكان حي طينة ينتمون إلى الطبقات العُمّالية وصغار المُوظّفين. وعندما كنت تلميذة ثم طالبة في الجامعة أصحو على المشاهد نفسها التي مازالت مستمرة إلى اليوم؛ أمّهات تصطحبن أبناءهن إلى المدرسة ثم تُواصلن الطريق نحو مصانع الخياطة وغيرها من المصانع المتواجدة في حَيّنَا، أما الآباء ينقسمون بين عمال في نفس المصانع، أو عمال في حضائر البناء وسط المدينة. أيضا يعيش صغار الموظفين نفس الظروف. وتقريبا حجم موارد معظم العائلات في حي طينة متقاربة، وأغلبها يقتات من أجور عمل زهيدة، بخاصة النساء اللاتي تشتغلن في مصانع الخياطة المختصة في تصدير النسيج، إذ أن أجر المرأة الواحدة في الشهر قد يُساوي سعر قطعتين من الملابس الداخلية النسائية التي تُنتِجها المصانع لفائدة ماركات عالمية.
الانخراط في شكل الحياة العصرية (التصنيع، التحديث العمراني، التنظيم المَدِيني للحياة…) لم يُفلح تماما في سحق الماضي القَبَلي لحيّنَا. نحن ننتمي في الأصل إلى عشيرة “أولاد عامر” أو “العْوَامرية” التي تُعتَبَر من أعرق عشائر المدينة، التي تَعود كل منطقة طينة لَهم، وتقريبا هي العشيرة الوحيدة هنا التي مازالت تُحافظ على عاداتها وتقاليدها سواء في نمط العيش أو اللّباس. يَمتاز لباس النساء بتطريز فريد من نوعه يسمّى “الفيستو” نِسبة لكلمة “feston” وتَعني باقة الورود. حيث يعتمد التطريز في اللباس هنا على أشكال الأزهار.
لا يَبعد حيّنا على وسط المدينة سوى 10 كيلومترات، ومع ذلك مازلنا ننظر إلى أنفسنا كريفيين، ونُحافظ على موروثنا القروي، فتجد من يَغرس شجرة زيتون أمام بيته، ومن يزرع الخضار في حديقة الحارة، وأخرى تُربّي دجاجات في قُنّ بَنَته داخل الحديقة. وعشيرة أولاد عامر تَمتاز أيضا بنمط غنائي يتميز بإلقاء الشعر الشعبي بشكل ملحون، دون مرافقة أدوات موسيقية، ويُسمى “الأديب”، والأديب هي الصّفة التي تُطلق على الشاعر أو المُغني الذي يُحيي السهرة، ولكن يمتاز غنائه بطابع خاص لا يوجد في مناطق أخرى في تونس. ويُساعد الأديب في العناء مؤديان ثانويان، هما بمثابة الكورال، يٌطلق عليهما “السَّعْفَة”. ويَعود هذا النمط الغِنَائي إلى قبيلة المْثَالِيث، التي تُعتبر من أكبر القبائل التاريخية في ولاية صفاقس.
ورغم أن غناء الأديب مُستَمَدّ من الشعر الشعبي الذي يستحق انتباها ودراية كافية لإدراك مَعانيه، إلا أن معظم الناس هنا عادة ما يُقضّون فَصل الصّيف في الاستمتاع بحفلات الشعراء والأدباء في الأعراس. وبحكم استماعي المتكرر لحفلات “الأديب” في حيّنا وأحياء أخرى، والحديث مع أصدقاء يَملكون خبرة بهذا الصنف أكثر مني، فهمت أنه يقوم على أغراض شعرية تُشبِه الشعر العربي القديم، وهي عموما أربعة ويتم أداءها خلال السهرة الواحدة. يفتتح الأديب الحفلة بغرض أساسي ذي طابع ديني، يَذكُر فيه الله وخصال الرسول. ثم يمرّ إلى الغرض الشعري الثاني وهو “البَرڨ” وهو عنصر قار في الغناء، يَجري فيه التغني بالأمطار ووصف حالة الطقس وصفا دقيقاً بداية بالبرق والرعد ثم الأمطار وانهمار الوديان وارتواء الأراضي والأشجار. أمّا الغرض الثالث فهو “النّجْعْ” والمقصود به تجمّع القبيلة أو العشيرة، ويَقوم على وصف حياة الترحال بين المدن والقبائل بحثا عن الماء والمرعى والقُوت، ويتضمّن أيضا وصفا لعلاقات الحب التي تنشأ أثناء الرحلة. ثم ينتقل أخيرا الى غرض الغزل. كما يتضمن هذا النمط الغنائي أغراضًا شعرية أخرى مثل المدح والفخر والذّم، وفيها يتبارز الأدباء بالشعر، في صورة تُشبه المِخيال الذي نَحمله عن سوق عكاظ.
يُعَبِّر الغناء الشعبي البدوي المُحتَفَى به في قلب المدينة، عن جزء من حياتنا الراهنة. إذ أن التغني بالرحلة وآلامِها وأفراحها يعكس في جزء منه رحلتنا الكبرى من حقول الزيتون إلى المدينة، بحثا عن فرص العمل والخدمات العمومية القريبة والتعليم الجامعي. نحن البدو الذين اقتلعَتهم دولة الاستقلال من أراضيهم، بعد أن جَرَى تفقير واسع للريف التونسي بداية الستينات وتوجيه كل الموارد للحواضر الشرقية الكبرى. والتغني بالبرق والأمطار، كأنه يُعوّض حاجة فقدناها وأصبحت نادرة: الماء. معظم سكان الحي قدموا من فضاءات ريفية شَحّت فيها المياه وقَلّت فيها الأمطار، ومازال العطش يتهدّدنا في المدينة، وكأنه لعنتنا الأبدية.
الترحال القَبَلي بحثا عن الماء مازال متواصلاً، وهو يُشبه مشاهد الترحال في المسلسل التونسي “ماطوس” عندما هربت القبيلة من أزمة الجفاف وبطش الحاكم وكثرة الجباية في الفترة المُراديّة، في ليلة واحدة، واستقرت على ضفاف وادي مجردة في الشمال الغربي التونسي. وفي الصيف الفائت، أثناء مروري بمسجد الحي، رأيت طوابير النساء والرجال والأطفال يَحملون أوعية كبيرة لجلب الماء من المسجد، بسبب انقطاع المياه في الحنفيات المنزلية.
حي طينة نشأ بشكل أو بآخر من داخل هذه الرحلة القَبليّة الباحثة عن الرزق والأمان والخدمات، وبُنيَ على أنقاض إرث روماني لا يُعتَبَر مهما في مخططات التهيئة العمرانية والسياسات التراثية، كما أنه يحاول الحفاظ على مَعانِيه وشاعريته القديمة التي تَصِل سكانه بمواطنهم الأصلية. كما أنه ينخرط في الحياة الصناعية في المدينة، من موقعه الهامشي وعبر طاقة العمل التي يُوفّرها نساءه ورجاله.
[1] المقصود بهذا المثل الشعبي أن مدينة طينة لا تشهد إعمارا في أول الكون وإنما مع اقتراب نهايته.