تُطلق منجزات دولة الاستقلال نفَسها الأخير بينما تتخلّى هي شيئا فشيئا عن مسؤوليّتها في توفير الخدمات الاجتماعية للمواطنين والمواطنات وعلى رأسها الخدمات الصحية، بما يهدّد مباشرة صحّتهم وحياتهم. يقترن تداعي قطاع الصحة بعناصر مركّبة تمتدّ لأبعاد عدّة، اقتصادية وثقافية وديمغرافية وغيرها، وهو ما يجعل أزمة الصّحة بنيوية بالأساس. عندما يتعلّق الأمر بالصّحة الإنجابية للنساء٬ تتعدّد تمظهرات الانهيار لتشمل اللامساواة وتردّي الخدمات والتخليّ عن الفئات الأكثر هشاشة. وهو ما ينتج عنه وفيات مفزعة في صفوف الأمهات بمعدّل والدتيْن كلّ أسبوع. تتمثّل الأسباب الأساسية المباشرة لوفيات الأمهات في النزيف (ما بعد الولادة) وارتفاع ضغط الدم وحالات العدوى الجرثومية وهي أسباب يمكن تفاديها في 80% من الحالات. تنشأ هذه الأسباب في ظلّ تقهقر الخدمات الصحية وترتبط أساسا بالرعاية الصحية التي تتلقّاها الأمّ وجودتها خلال فترة حملها وولادتها. كما تستفحل في ظلّ تهميش البعد الثقافي والمجتمعي لأزمة الصحة وعدم أخذها بعين الاعتبار السياسات الصحية، ممّا يحمّل الدولة وخياراتها السياسيّة والمنظومة الاقتصاديّة المهيمنة مسؤولية وفيات الأمّهات.
أزمة من رحم أزمة قطاع الصحة
إذا بحثنا عن نموذج مصغّر أو مثال معبّر عن أزمة قطاع الصحّة، سنجد ملفّ وفيات الأمهات كمرآة تعكس مكامن ضعفه وإشكالياته. بُني نظام الخدمات الصحية على شكل هرميّ بثلاثة مستويات. يمثّل المستوى الأوّل المؤسسات الصّحية التي تقدّم الرعاية الصحية الأساسية وذلك عبر المستوصفات وعددها 2091 موزّعة على كافة المجال الترابي وهو ما يجعلها المراكز الصحية الأقرب للمواطنين والمواطنات (على بعد 5 كم تقريبا). إلى جانب المستوصفات تمثّل المستشفيات المحلّية وعددها 109 الركيزة الثانية للمستوى الأوّل من الخدمات الصحية٬ وهي مستشفيات ذات سعة واختصاصات محدودة. أمّا المستوى الثّاني للنظام الصحيّ فيتكوّن أساسا من المستشفيات الجهوية وعددها 35. ويمثّل المستوى الثالث من النظام الهرمي المستشفيات الجامعية والمراكز المتخصصة حيث تتركّز الخبرة والموارد وعددها 34. ويهدف هذا الشكل من التنظيم أساسا للتقليل من تكلفة الخدمة الصحية، فيتمّ العناية بالحالة الصحية حسب طبيعة الخدمات المقدمة بكلّ مستوى ومن ثمة تحويل المريض من مستوى لآخر حسب نوعية الحالة ومتطلّبات العناية بها. تخضع خدمات الصحة الإنجابية لهذا النظام الهرمي٬ فتقوم مراكز الصحة الأساسية٬ إضافة إلى المراكز التابعة للديوان الوطني والعمران البشري، بمتابعة الأمّ خلال فترة الحمل ومن بعده. كما تقدّم خدمات مرتبطة ببرنامج التنظيم العائلي ومنع الحمل. أمّا المستشفيات المحلية والجهوية والجامعية فتقدّم خدمات التوليد ورعاية الوليد. كما تختصّ بتقديم الخدمات الاستعجالية للعناية بصحة النساء.
في تماثل تامّ مع بقية الخدمات الصحية٬ لا تلبّي مراكز المستوى الأوّل احتياجات النساء للرعاية بصحّتهنّ الإنجابية، فلا يقبل الكثير منهنّ عليها نظرا لتدهور جودة الخدمات المقدّمة ومحدوديّتها. هذا التدهور هو بالأخصّ نتيجة مباشرة لسياسة التقشّف التي تتّبعها الدولة وما لها من استتباعات على مستوى الموارد (على سبيل المثال لا تقدّم خدمة الكشوفات التي يقوم بها الطبيب إلا مرّة واحدة كلّ أسبوع في أغلب المستوصفات). أمّا المستوى الثاني٬ فيتميّز أساسا بخدمات لا متساوية على مستوى الجودة وقدرة الاستيعاب التي لم تتطوّر بفعل السياسات التمييزية التي تهمّش جهات عدّة في الداخل. ممّا يُغرق مؤسسات المستوى الثالث، والتي تتميّز بخدمات فعّالة نسبيّا، بسيْل الطلبات التي لم يتمّ تلبيتها في المستويات السابقة. تتوه صاحبات الحقّ وسط فوضى النظام الذي لم يعدْ قادرا على تلبية احتيجاتهنّ٬ فيُدفعن إمّا إلى إهمال صحّتهنّ وبالتالي إلى الترفيع من فرضيّة تعرّضهنّ لأحد أسباب الوفيات المذكورة أو اللّجوء للمؤسسات الخاصّة باهظة الأثمان والتي لا تخضع للمساءلة كما يلزم. لم يعدْ نظام الخدمات الصحيّة ناجعا لعدم ملاءمتِه لحاجيات المواطنين والمواطنات التي تطوّرت بفعل التحوّلات الاجتماعية التي عرفها المجتمع، وبسبب خيار تشجيع الاستثمار الخاصّ في قطاع الصحة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. علاوة على نقص الموارد والتهميش٬ لم يواكب هذا النظام التطورات الديمغرافية والاجتماعية٬ بل كرّس سياسة تمييزية تتمظهر على مستوى البنية التحتية وجودة الخدمات فقسّم البلاد عموديا إلى نصفين.
اللامساواة بين الجهات: تمييز الدولة بين صاحبات الحقّ
لا تلد المرأة في أرياف جندوبة كما تلد المرأة في مدينة نابل. بل يمكن أن تضطرّ الحامل إلى قطع 200 كلم من الشمال الغربي إلى الشمال الشرقي لترفّع من فرص نجاتها. تبلغ نِسبُ وفيات الأمهات في الشمال الشرقي 27,9 لكل 100 ألف ولادة٬ بينما تتضاعف لتصل 67 لكل 100 ألف ولادة في الشمال الغربي. لهذا التفاوت أسباب عدّة أهمّها التفاوت في تقديم خدمات الصحة ككلّ والصحّة الإنجابية بشكل خاصّ.
تتعدّد أشكال التمييز وتمظهراتها٬ إذ يوفّر النظام الصحّي في القطاع العامّ عدد أسِرّة مخصّصة لأمراض النساء والتوليد متفاوتة بين جهات الداخل والساحل. يبلغ مؤشّر الأسِرّة في جهة سوسة 7.75 لكلّ 10 آلاف امرأة في سنّ الإنجاب بينما يبلغ في سيدي بوزيد 4.69.[1] وتتفاوت كثافة أطباء أمراض النساء والتوليد بين الجهات بنفس النموذج اللاّمتساوي. فتتدحرج من 4.72 لكلّ 10 آلاف امرأة في سنّ الإنجاب في سوسة، إلى 1.13 في جندوبة و0.73 في سليانة. تتعلّق هذه الأرقام بأطباء اختصاص أمراض النساء والتوليد فقط، ولكن وجب التذكير بأنّ كلّ عمليّة حمل وولادة تتطلب أكثر من متدخّل على مستوى الإطار الطبي كالقابلات والمساعدين. في غياب هذه الإحصائيات تبقى القراءة مجزّأة وإن كانت سمات التمييز واضحة. وهو ما تؤكّده أيضا الأرقام المتعلّقة بقسم الإنعاش٬ ففي حال تعكّر حالة الأمّ وضرورة التدخّل العاجل لإنقاذها٬ تخضع الأمّهات للامساواة الخدمات. على سبيل المثال، خدمات الإنعاش مفقودة تماما في ولاية سليانة من الشمال الغربي.
بالإضافة إلى تفاوت الموارد ووسائل العمل المتوفّرة وجودتها على مستوى الجهات٬ تخضع الأمّهات لظُلم البنية التحتية وتخطيطها. إذ تتفاوت المسافة التي يجب أن تسلكها الأمّ للوصول للمؤسسات الصحية المجهّزة للقيام بخدمات استعجالية لأمراض النساء والتوليد والتي تكون حاسمة لإنقاذ حياتها. على سبيل المثال تسلك الأم 8 كلم، كمعدّل، للوصول لهذه المؤسسات في ولاية بن عروس بينما قد تصل المسافة إلى 50 كلم في ولاية القصرين[2].
إلى جانب غياب السياسات الإصلاحية التي كان من الضّروري أن تتلافى أخطاء الماضي الذي امتدّ على عقود٬ تمّ تعميق الأزمة بسياسة التقشف والتراجع شيئا فشيئا عن القليل الذي تمّ تحقيقه وتشوبه عدة شوائب. وهو ما أدّى على سبيل المثال إلى ارتفاع معدّل وفيات الأمهات بتونس الكبرى (من 40 سنة 1994 إلى 51 لكلّ 100 ألف ولادة سنة 2010[3]) رغم كثافة الخدمات الإنجابية هناك وتوفّرها وهو ما يُترجم تدهور جودة الخدمات المقدّمة وطريقة تنظيمها.
للتغطية الصحية والحقوق الاجتماعيّة دور أيضا
تساهم الأُسَر بأكثر من 37% في مصاريف الخدمات الصحية، وهي نسبة مرتفعة تُترجم ضعف خدمات التغطية الصحية التي وَجب تأديتها للمواطنات والمواطنين.[4] على مستوى الصحة الإنجابية٬ قدّم قرار وزير الصحة عدد 85 لسنة 2006 قائمة الخدمات الصحية الأساسية التي تتمتّع بها النساء مجّانا خلال فترة حملهنّ بالمؤسسات العمومية وهي كالتالي: خمس معاينات طبية من قبل طبيب مختصّ وثلاث صور صدى (échographies) وخمسة تحاليل في علاقة بمرض فقر الدم والسكري وأمراض أخرى. في تقريرها التمهيدي للاستراتيجية الوطنية لصحّة الأمّ والوليد٬ أكّدت الوزارة عدم تطبيق مجانيّة الخدمات المنصوص عليها بالقرار على أرض الواقع، بالإضافة لعدم التكفّل بكافّة مصاريف الولادة.[5]
غياب التغطية الصحية المضاعف بسوء جودة الخدمات (إن وُجدت) بالنسبة لفئات هشة متعددة يعني بالضرورة حرمانهنّ من الرعاية الصحيّة الضروريّة، وبالتالي دفعهنّ لمخاطر مضاعفة تهدّد صحّتهنّ وحياتهنّ. لا يختلف الأمر بالنسبة للأمّهات العاملات٬ اللاتي يَضطررنَ للمخاطرة ومواصلة العمل في ظروف قد تضرّ بصحّتهنّ من أجل توفير مصاريف الرعاية خصوصا في ظلّ غياب حقوق عمالية قوية تحميهنّ. وهو ما يترتّب عنه مضاعفة الهشاشة والمخاطر الصحية بالنسبة للعاملات في القطاعات غير المنظّمة كالعاملات في القطاع الفلاحي حيث تضطرّ الأمّهات للعمل في ظروف لاإنسانية يوميّا متخلّيات بذلك عن رعاية ومعالجة أمراضهنّ.
لا تتأثّر وفيات الأمهات بحقوق الأمّ العاملة فقط بل تمتدّ أيضا للحقوق الشغلية للعاملين بقطاع الصحة، الذين يعانون أيضا من السياسات التقشّفية للدولة. ففي تحسين ظروف عمل هؤلاء انعكاس مباشر على جودة الخدمات المقدّمة للأمهات وذلك في علاقة بساعات العمل والأجر والتّكوين المتطوّر والمستمرّ. ترتبط كلّ هذه الحلقات ببعضها البعض لتشكّل وضعية مركّبة تكرّس التمييز الاقتصاديّ بين الأمهات. فتتوجّه النساء المنتميات لطبقات اقتصادية ميسورة للقطاع الخاصّ لتلقّي خدمات مباشرة ذات جودة أعلى نسبيّا علّها تَقيها من خطر الوفاة أو المخلّفات الصحية. بينما تُصارع أمّهات الطبقات الفقيرة بهدف الحصول على الخدمات التي يكفلها لها القانون نظريّا.
الأسباب الثقافية: تخلّي الدولة عن مسؤوليتها في التوعية وتغيير الذهنيات
لا يقتصر ملفّ الصحّة والعلاج على المشاكل التقنية أو الخدماتية فقط٬ بل يرتبط أيضا بأبعاد ثقافية واجتماعية. فيما يخصّ أمراض النساء والتوليد٬ تأخذ المسألة طابعا اجتماعيا أعمق بالنظر إلى تداخل المعطى الثقافي في مسألة الصحة الإنجابية والجنسية للنساء، كفئة ما زالت تعاني من الهيمنة الذكورية داخل المجتمع. وهو ما يطرح منطقيّا تحدّيات أكبر على الدولة ومؤسّساتها التي يقع على عاتقها حماية هذه الفئات وتقديم الرعاية الصحية اللازمة لها. مرّة أخرى تسجّل الدولة وسياساتها الغياب. فلا تحظى النّساء بأيّ توعية فيما يخص الأمراض التي ترافق الحمل والمخاطر الصحية التي تهدّدهنّ. ولا يحظيْنَ بالمعلومات الهامّة فيما يخصّ الحمل والولادة والكشوفات الصحية الضرورية التي تسبقها وتليها. تعيش الأمهات رحلة الحمل وتجربة الولادة من دون إرشادات أو توجيهات إلاّ بما جاد به الإطار الطبي خلال الكشوفات القصيرة التي تخضع لضغط كثافة طالبي الخدمة بالمقارنة مع ضعف عدد العاملين. وهو ما يؤدّي إلى عدم استشارة الأم وعدم أخذ رأيها بعين الاعتبار فيما يخصّ صحّتها. ويطرح فكرة رميها لمخاطر عدة نظرا لعدم إلمامها بما يهدّد صحّتها وعدم إقناعها بالتخلي عن ممارسات وتقاليد ثقافية قد تعقّد حالتها الصحيّة.
لا ينحصر غياب التوعية على جانب الأمّ فقط٬ بل ينسحب أيضا على كافّة المتدخّلين والعاملين بقطاع الصحة الجنسية والإنجابية. وهو ما ينبثق عنه ممارسات تمييزية قد تصل لسوء المعاملة في حقّ الكثير من الأمّهات خصوصا تلك اللاّتي يعانين من هشاشة مضاعفة. فتتعرّض المراهقات والأمهات العازبات والمهاجرات من جنوب الصحراء والأمهات ذات الاحتياجات الخصوصية والحاملات للعدوى المنقولة جنسيا ونساء الطبقات الفقيرة والجهات الداخلية للتمييز وسوء المعاملة وهو ما يدفع بالكثيرات منهنّ للتوجّه للقطاع الخاصّ، حيث يتعرّضن لأشكال استغلال تفلت في جلّ الأحيان من أيّ رقابة أو محاسبة. لعلّ أهمّ أوجه هذا الاستغلال يكمن في ارتفاع الولادات عبر العمليات القيصرية منذ سنة 1999 والتخلّي عن الولادة الطبيعية بتعلّة تهديدها لصحّة الأمّ. حيث تخضع لهذه العمليات 58% من نساء الطبقة الأكثر ثراء وتُمارس بنسبة 46.4% في المدن مقابل 37.7% في الأرياف حسب إحصائيات 2018[6]. ارتفاع في ممارسة عمليات ولادة مكلفة لا يقي الأمهات من مخاطر الوفاة وهو ما أكّدته نتائج المسح الوطني لسنة 2010 حيث بلغت نسبة الأمهات المتوفّيات اللاّتي خضعن لولادة قيصرية 58.3% من مجموع الوفيات. وهو قد يستشفّ منه أنّ الخيار الأخير الذي قد تلجأ له الأمّهات في كنف اللامساواة الاقتصادية، لا يمثّل هو الآخر طوق النجاة لهنّ لحمايتهنّ من الموت ويؤكّد مرة أخرى أنّ أزمة وفيات الأمهات بنيوية بامتياز ولا يمكن تجاوزها إلا بسياسات إصلاحية مدروسة واستثمار عمومي جدّي في قطاع الصحّة. إلى حين استفاقة الدولة ومؤسساتها على ما يجدر أن تضطلع به من مسؤوليات ومهام٬ تواصل الأمهات خوض تجاربهنّ مع الحمل والولادة بكثير من المشقة والألم واللامساواة متسلّحات بالأمل علّهنّ يهبن الحياة لا أن تُسلب منهنّ.
[1]Carte sanitaire 2020-2021, ministère de la santé.
[2] Cadre de suivi de l’accès universel à la santé sexuelle et reproductive en Tunisie, Office national de la famille et de la population, Fond des nations unies pour la population, 2014.
[3] Tej Dalleji.R, et al, L’enquête nationale tunisienne sur la mortalité maternelle de 2010: A propos des données de Tunis, La Tunisie Médicale, 2014, Vol 92.
[4] Stratégie nationale de la santé maternelle et néonatale 2020-2024, ministère de la santé.
[5] Ibid.
[6] Enquête par grappes à indicateurs multiples (MICS), Institut national des statistiques, 2018.