بتاريخ 02-11-2021، نشر مجلس القضاء العدلي تقريرا تضمن جردا للقضايا التأديبية التي تعهد بها وأصدر فيها قرارات مؤاخذة للقضاة المشمولين بها من تاريخ 29-06-2021. ويتبين من الاطلاع عليه أنه وخلال ثلاث جلسات عقدت بداية من ذاك التاريخ، تعهد المجلس بنظر 12 ملف تأديبي ل 12 قاضيا وأن القرارات التي اتخذت فيها تنوّعت بين عدم المؤاخذة والتوبيخ والإيقاف عن العمل لمدة معينة والإيقاف عن العمل مع الإحالة للنيابة العمومية للتعهد بالبحث الجزائي وفقا للآتي: عدم مراخذة (1)، توبيخ (2)، إيقاف شهر عن العمل (3)، إيقاف شهرين عن العمل (1)، إيقاف تسعة أشهر عن العمل (4)، إيقاف عن العمل وإحالة إلى النيابة العمومية (1). ويُذكّر نشر هذه المعلومات بخطوات سابقة مماثلة للمجلس أو للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وهي اشتركتْ جميعها في طابعها المناسباتي وبغياب الشفافية اللازمة في خطوة يُظنّ أنّها تحقق تلك الغاية وهما الملاحظتان اللتان يستحقّ التوقف عندها. يستدعي نشر هذا التقرير في هذا الظرف ملاحظات عدة نستعرضها أدناه.
لم الآن فقط؟ سؤال يتكرر دوما
بتاريخ 24-02-2016، في سابقة كانت الأولى من نوعها عقدت الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي ندوة صحفية خُصّصت لاستعراض نشاطها التأديبي من تاريخ إرسائها. وقد تعهد خلالها المتحدث باسمها بالتزام دورية في ذلك لكن هذا لم يحصل، رغم كونها تعهّدت بعدد هامّ من الملفات طيلة فترة عهدتها بلغ عدده 136، تعلّقت نسبة هامة منها بملفّات القضاة المعفيين.
تبعا لإرساء المجلس الأعلى للقضاء، لم يُسجّل أيّ نشاط تأديبي لمجلس القضاء المالي ولم يتعهد مجلس القضاء الإداري إلا بملف تأديبي واحد. وعليه، كان مجلس القضاء العدلي الأكثر نشاطا في المجال. وهو أمر قد يفسر بعوامل موضوعية منها محدودية عدد قضاة القضاءين الإداري والمالي وغياب جهاز رقابة داخلي صلبهما في مقابل أهمية عدد القضاة العدليين وخضوعهم لرقابة في عملهم من التفقدية العامة زيادة طبعاً لملامسة اختصاصهم الحكميّ لشرائح اجتماعية واسعة مما يزيد من احتمال تقديم تشكّيات ضدّهم. وفي حين يُبرّر هذا الأمر أن تحظى ملاحقة القضاة العدليين باهتمام مجتمعيّ أكبر، فإن مجلس القضاء اكتفى حتى الآن بنشر عدد من البلاغات في الموضوع تعلّق أغلبها بإجراءات اتّخذها في ملفّات يتابعها الرأي العام أو بنشر بيانات إحصائية لا تغطّي زمنيّا مدّة ولايته. وقد انتهج المجلس في تقريره الأخير التوجّه نفسه بحيث انحصر بأعمال تأديب القضاة اللاحقة لتفرّد سعيّد بحكم تونس. فكأنما المجلس أراد من خلال ذلك التأكيد على أنّ القضاء قادرٌ على تطهير نفسه من خلال آليات المحاسبة العادية بما ينفي الحاجة لما يدعو له الرئيس من تطهير له.
مُصطلحات لا يعلم مقصودها إلا من كتبها
ميّز بلاغ المجلس بين خطأين: أولهما “المسّ بشرف القضاء والإخلال بواجبات الوظيفة والنزاهة والحياد” والذي كان سببا في العقوبات الأكثر قسوة وتمثلت في الإيقاف عن العمل نهائيا أو لمدة تسعة أشهر. وثانيهما “الإخلال بواجبات الوظيفة والنزاهة والحياد” وكان جزاؤه عقوبات أقلّ قسوة. ويُلاحظ على هذا المستوى أن تعريف الأخطاء وتصنيفها على هذا الوجه إنما يبقى ضبابيا وبخاصة أنه يتم تعريفها بمصطلحات غامضة لم يتم تعريفها لا نصّاً ولا فقهاً. وتكشف هذه الضبابيّة في التّعريف عن غياب الرؤية الإصلاحية وهي تُعمِّق من الفراغ التشريعيّ في هذا الخصوص بدل السعي إلى التعويض عنه بفقه متين وواضح.
خلل هيكلي: تأخّر الإصلاح مجددا
ينص الفصل 63 من القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء[1] على كونه “في صورة ثبوت الخطأ الموجب للتأديب على مقتضى أحكام الأنظمة الأساسية للقضاة، فإن المجلس القضائي المعني المنتصب للتأديب يقرر العقوبة المناسبة للأفعال المرتكبة من بين سلّم العقوبات الوارد بالأنظمة الأساسية المذكورة”. هذا النص يعكس اتجاها تشريعيا نحو تكريس مبدأ تناسب العقوبة مع خطورة الفعل.
إلا أنه حتى الآن، وبفعل تأخر الإصلاحات الهيكلية للقضاء، يبقى تعريف الخطأ التأديبي بالنسبة إلى القضاة العدليين منظما بموجب القانون الأساسي عدد 29 لسنة 1967 المتعلق بالقانون الأساسي لقضاة وهو يشمل ” كلّ عمل من شأنه أن يخلّ بواجبات الوظيفة أو الشرف أو الكرامة يقوم به القاضي يتكون منه خطأ موجب للتأديب”. وهو تعريف مبهم وغير دقيق يتعارض مع مبدأ شرعية العقوبة. وما يزيد من قابلية نظام التأديب للانتقاد هو أنه ترك لمجلس التأديب سلطة مطلقة في تحديد درجة خطورة ما قد يعده خطأ وبالتالي ما يستحق من عقوبة.
إحصائيات بلا روح تعكس غياب الرؤية الإصلاحية
في فترة سابقة، قرّر أعضاء هيئة القضاء العدلي اعتماد “تنصيص عام للخانة التي تتنزل فيها الأفعال المنسوبة للقاضي دون تحديد الأفعال التي ارتكبها القاضي المحال بعينها”. واعتبروا أن ذلك “يندرج في باب الاستثناءات التي أتى بها قانون حقّ النفاذ إلى المعلومة…. وحماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية”. ويبدو أن مجلس القضاء قد التزم بذات التوجّه والاجتهاد الذي لا يلتفت لأهمية فقه القضاء الذي كان ينتظر منه صياغته في المجال تغطية للفراغ التشريعي وضمانا لحقّ أصلي في المعلومة يحتاجها القضاة المعنيون بالتأديب قبل سواهم. وهي ممارسات التزمت بها مجالس القضاء في المجتمعات الديموقراطية كشفتْ تجربتها عن دورها الإيجابي في تعزيز الثقة العامة في القضاء. يذكر مثلا أن مجلس القضاء الفرنسي يتولّى منذ سنة 2005 نشر مختلف قراراته التأديبية، فيما يكرّس نظيره الايطالي مبدأ علنية كاملة لجلسات التأديب وقد سخّر بثّا إذاعيا خاصا لضمانه لم يستثنَ منه إلا الحالات التي تمسك فيها القضاة المعنيون بالسرية صوناً لمعطياتهم الشخصية.
يستخلص مما سلف أن ما بادر إليه مجلس القضاء العدلي من نشر لمعطيات إحصائية حول نشاطه التأديبي قد يبعد عنه ما بات يتّهم به تصريحا من رئيس الجمهورية قيس سعيد وأنصاره من تقصير ومحاباة في المجال ويمنع بالتالي ترذيل صورته لدى الرأي العام. ولكنه يظلّ جهدا غير كافٍ لكونه لا ينتهي إلى صياغة مقاربة مؤسساتية تضمن حق القضاة في المؤاخذة العادلة في موازاة حماية حق المجموعة في رقابة ملائمة على عمل مؤسساتها. وهو الإصلاح الذي يؤمل العمل عليه مستقبلا طلبا لثقة عامة في القضاء تقام على الوضوح والشفافية لا على الحجب والكتمان.
[1] قانون أساسي عدد-34-لسنة 2016 مؤِرخ في 28 أفريل 2016 يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء