الشهيدات إنعام وغنيّة وزينب الهقّ وزميلهنّ الشهيد حسين الهق
حتى وهنّ شهيدات لم يتركن الكواخ وحدها. واظبت إنعام وغنيّة وزينب الهقّ مع زميلهنّ حسين الهق، في آخر فعل لهنّ، على رفع اسم بلدتهنّ عاليًا. في رحلة البحث عن قصصهنّ، أخذنني إلى الكواخ التي لم أكن قد زرتها قبلًا، لأختبر كم تختلف نساؤها، ويتميّزن عن غالبية نساء المنطقة في جدّهن وكدّهن داخل المنزل وخارجه لتأمين لقمة عيش المتروكين هناك في لحف السلسلة الغربية، حيث يتركن موائل العشائر في الجرد الهرملي الغربي على حدود جردَي الضنية وعكار. فصحيح أنّ معظمنا، بنات وأبناء الريف الفقير، غالبًا ما تنجبل أيادينا بتراب الأرض لتخفيف كلف الزراعة على عوائلنا، لكن نساء بلدة الكواخ التي تتربّع لغاية اليوم على عرش الاقتصاد الريفي القائم على سواعد نسائها ورجالها، مختلفات ومتطرّفات في تضحياتهنّ.
فهناك تتبدّى صيَر المواشي القديمة التقليدية كثيفة وهي تزنّر جنبات البيوت المتواضعة. تُعرف المزارعات من بناتها بالاسم وجودة منتجاتهنّ من السمن البلدي والجبن وقنبريس الضرف واللبنة المكعزلة والبيض البلدي الناتج عن تربيتهنّ عشرات الدجاجات لدعم أسرهنّ… وهناك في الكواخ نشأت التعاونية النسائية الأولى في الجرد..
ومن هناك، وعند السادسة من صباح كلّ يوم، دأبت الشهيدات غنية وإنعام وزينب ونحو ست نساء أخريات في الكواخ، ومنذ أكثر من عشر سنوات على مغادرة البلدة إلى مستشفى البتول في الهرمل للعمل في شركة التنظيفات التابعة للمستشفى. يطلق الأهالي عليهنّ اسم “بنات المستشفى”، سعاة بريدها إلى المدينة، الهرمل، يحملن معهنّ في رجوعهنّ عصرًا، أغراض الوصايا الكثيرة. واظب أهالي الكواخ، ممن لا يغادرون البلدة بشكل يومي، على الاصطفاف على طريق مغادرتهنّ إلى عملهنّ وفي أياديهم أوراق عليها احتياجاتهم :”جيبيلي معك دوا”، “ربطتين خبز”، “ما تنسي تاخدي لي موعد من الحكيم”… والكثير.
عصر 22 تشرين الأوّل 2024، وعلى طريق عودتهنّ مع زميلهنّ حسين الهق الذي يعمل في الشركة نفسها، ومكلّف نقلهنّ يوميًا، أغارت طائرة حربية إسرائيلية على حيّ الضيعة في الهرمل وقت مرور سيارة حسين “الرابيد”. يقول بعض أقارب الشهداء بسخرية مُرّة إنّ الإعلام العبري تحدّث عن استهداف مسؤول في حزب الله يتردد إلى مستشفى البتول. استشهد حسين، والد حوراء وبنين وحنين وعلاء، فيما أكلت نيران الصاروخ أجساد زينب وإنعام وغنية، اللواتي دفنتهنّ الكواخ تحت الرخامة نفسها: “عشن معًا، كددن معًا، عملن معًا، استشهدن معًا، ويدفنّ معًا”. ليس بعيدًا عن منازلهنّ المتجاورة التي لا يفصلها عن بعضها البعض سوى أمتار، وبينها وبين قبرهنّ أكثر بقليل، وتحت فيء سنديان الكواخ التي أحببن ولم يخرجن منها إلّا إلى العمل، طوال كل تلك الحياة التي أنهتها إسرائيل بتبرير كاذب.
الشهيدات عماد بيوت عائلاتهنّ
في بيوت الشهيدات الثلاث تتكرّر الحكاية : “كانت عمود البيت”. حتى أنّ غنيّة، أم الأبناء الثلاثة، حرصت على تعزيل منزلها تحت العدوان. وأنهت صفّ مراطبين المونة من مكدوس وأجبان وقنبريس والكثير من الكشك الذي يحبه أولادها وأحفادها، وخصوصًا ملاك (6 سنوات)، حفيدتها الأولى التي “ربتها”، كما تقول أمها، أم ملاك. عندما سمعت ملاك خبر استشهاد جدتها، نزلت درج الطابق الأوّل لمنزلها، منزل الجدة، حيث تبقى وترفض العودة مع أمها، وركضت وحيدة على الطريق الذي تعرفه جيدًا وتراقب غنيّة في رحلة المغادرة صباحًا وتنتظرها حين موعد عودتها. أرادت الصغيرة، ابنة الست سنوات، أن تتأكّد بنفسها علّها تكذّب ما سمعت. اليوم، لا تفارق جدها: “بدي ضلّ ببيت ستي”، تقول لأمها وهي تحتمي وراء جدّها ليدعم قرارها.
في غرفة الجلوس حيث أقامت العائلة عزاء ربّة الأسرة المؤجل إلى موعد وقف إطلاق النار، يجلس محمد، ابن غنية صامتًا. أسأله بعدما تحدثتُ مع أفراد العائلة والجيران ما إذا كان يرغب في قول أيّ شيء عن غنيّة، أمّه. لا تخرج كلمة واحدة من فم محمد، فقط يحرّك يده في إشارة العاجز عن قول أي شيء. قدّمت غنيّة، قبل استشهادها بأيام، أوراق محمد إلى المؤسسة العسكرية التي طلبت مؤخرًا آلاف المتطوّعين: “قولك بشوف محمد ببدلة الجيش وبيفرح قلبي”، قالت لمريم زميلتها في طريق ذهابهنّ إلى العمل قبل أيام، وهي تضمّ ملف محمد إلى قلبها فرحة. مريم، ابنة الكواخ أيضًا، تخلّفت يومها عن الذهاب معهنّ إلى العمل ونجت، كما تقول لـ “المفكرة”. أرادت غنيّة لمحمد وظيفة غير العمل في الحقل وذلك المياوم، وهي فرص الإنتاج الوحيدة أمام من يولد ويعيش في الكواخ. تقول مريم إنّ محمد، إن نجح في التطوّع مع الجيش، سيأتي في أوّل يوم يتسلّم فيه بدلته ليزورها، وإنّ “قلب غنيّة وروحها سيفرحان بها”، وسيقول لها “ها أنا صرت عسكريًا في الجيش اللبناني كما أردتِ يا أمي”.
على الجهة المقابلة من الطريق الذي يفصل بين منزل الشهيدة غنيّة وبين منزل الشهيدة إنعام، تستقبلني عائلة الأخيرة في غرفة لا تتعدّى مساحتها الثلاثة أمتار مربّعة، وسقف منخفض. هذه غرفة إنعام التي حفرت أرضها بيديها: “بس ما سكنت فيها”، تقول زوجة أخيها. حتى أنّ إنعام، التي فرحت بانتهاء أعمال بناء الغرفة التي كانت ستمنحها بعض الخصوصية في بيت العائلة حيث يشاركهم شقيقها وعائلته العيش، “شطفت الغرفة قبل ما تروح ع الشغل حتى ترجع وتمدّها”. عادت إنعام شهيدة وفرشت العائلة الغرفة لتستقبل المعزّين بها. إنعام هي أيضًا عمود العائلة ومعيلتها “هي القايمة بالبيت” تؤكّد شقيقاتها وزوجة شقيقها في جملة تخرج من خمسة أفواه في اللحظة عينها. وهي “لولب العيلة، وكل شيء”. كان يوم 22 تشرين الأوّل موعد العطلة الأسبوعية لإنعام “بس طلبت من مسؤولتها بالشغل استبدال عطلتها لأنّها كانت تريد قطف الزيتونات في اليوم التالي”، واستشهدت قبل أن تتبارك من موسم هذا العام.
أترك بيت إنعام وأصعد الطريق المتعرّجة نحو تلّة لا تبعد أكثر من مائة متر حيث ينتصب بيت صغير ما زالت جدرانه الإسمنتية من الخارج والداخل من دون طلاء. في صدر الغرفة التي تقع على يمين المدخل، تجلس امرأة مسنّة على فرش اسفنجية، هي أثاث البيت، ومن حولها تحلّقت نساء يتّشحن بالسواد. هذه أم زينب، بكر أبنائها وبناتها، وفي صدر الغرفة ثُبّتت صورتها مع زينب الشهيدة: “كانت عمود البيت وسندنا ومعيلتنا”، تقول الأم قبل أن تغصّ وتبكي “كسرتيلي قلبي يا أمي”. تقترب شقيقة زينب من أمّها تحضنها وهي تقول: “زينب كانت الأم والأب”. تعمل شقيقة زينب في معمل حليب صغير عند مدخل البلدة: “أنا حدك يا أمي”، تضيف وهي تقبّل رأسها. كانت زينب تعمل في شك الدخان إلى أن تزوّجت شقيقتها التي كانت تشتغل في شركة التنظيف في البتول “ودخلت زينب محلها ع الشغل”، تكمل الشقيقة الثانية قصة الشهيدة. أما ابنة شقيقة زينب فتدلي بشهادة أخرى: “خالتي زينب ربّتنا، هي لي كانت تهتمّ فينا، كانت أمّنا مش بس خالتنا”، ثم تجهش بالبكاء.
“عمّر حد أمّه ودفن بالقرب من بيتها”
أما حسين الهق، زميل غنيّة وإنعام وزينب، ورفيق الشهادة، فقد قرّر قبل ثلاث سنوات إنهاء تغرّبه عن الكواخ والهرمل: “خلص صار لازم نرجع نعيش بين أهلنا يا بيي، بدّي عمّر حد أمي”، قال لحوراء بكره، بعدما قضى 25 سنة عاملًا في مزرعة مواشي في قضاء زحلة. بنى حسين بيتًا ملاصقًا لبيت أمه وأبيه وانضمّ إلى فريق عمل شركة التنظيفات في مستشفى البتول. لم ينزح “ما بترك شغلي وبروح”، ولم تتركه أم علاء، زوجته “ونحن ما منتركهم”، تقول حوراء.
ينهض حسين يوميًا عند الخامسة فجرًا “وكل يوم بوعى عليه عم يبوّسنا ويغطينا، أنا وعلاء وبنين وحنين قبل ما يفل”. قبل يوم من استشهاده، وعند الثالثة من بعد ظهر الـ 21 من تشرين الأوّل، استهدفت إسرائيل مبنى لعائلة النمر في الهرمل ودمّرته مع سوبرماركت في طابقه الأرضي: “خفنا كتير ع البابا”، تقول حوراء، لتزامن الغارة مع موعد خروجه من المستشفى. كان حسين فرحًا عند عودته وهو يرى أنّ زوجته وبناته وابنه قد اتصلوا به في اللحظة ذاتها، كل من هاتفه: “قال تأكّد إنّه كلّنا منحبّه كتير”. في اليوم التالي، قال لزوجته وهي تودّعه على الباب “اليوم ما رح ردّ عليكي”. وعند الثالثة والنصف في اليوم نفسه، وكانت حوراء في عملها كمحاسبة عندما وصل خبر حصول غارة إسرائيلية على طريق حي الضيعة بالقرب من استهداف اليوم الأول “قلت البابا بيكون قطع وأصلًا هو ما بيجي من هيدي الطريق”. لحظات وتتصل بها صديقتها “عم يقولوا استشهدوا بنات المستشفى”. اتصلت بأبيها ولم يردّ، وكذلك حصل مع أمها. تركت حوراء كل شي ولا تتذكر كيف وصلت إلى البتول “ما لقيت حدا، صرت عيّط وصرّخ وفتش بالغرف”. بعد قليل خرجت إليها إحدى الممرضات وقالت لها “حسين مصاب بجرح طفيف، حطينا له دوا أحمر وراح ع البيت، ارجعي شوفيه”.
عند استهداف الطواقم الطبية، رجته حوراء أن يزيل شعار الهيئة الصحية التي تتبع لها مستشفى البتول عن سيارته، ولكنه رفض: “صار مستشهد أكثر من خمسين ألف إنسان بغزّة وبلبنان يا بيي، إذا استشهدت بيزيدوا واحد”. تعرف حوراء أنّ حسين الذي “لم يعامل أبٌ ابنته كما عاملني وأحبني”، يرعاها وأخوتها وأمها وخصوصًا هي وأختيها “كان يهتم فينا نحن البنات أكتر من علاء أخي”. زار عمتها، شقيقته في المنام وقال لها: “ديري بالك ع البنات يَختي”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.