حين عطّل حاكم مصرف لبنان التدقيق الجنائي في حساباته: قراءة في الحجج والحجج المضادة


2020-11-30    |   

حين عطّل حاكم مصرف لبنان التدقيق الجنائي في حساباته: قراءة في الحجج والحجج المضادة

وقّعت الدولة اللبنانية ممثّلة بوزير المالية غازي وزني عقدا للتدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان مع شركة Alvarez & Marsal في 30/9/2020 سندا لقرار الحكومة رقم 2 في 28/7/2020.  إلّا أن مصرف لبنان رفض تزويد شركة التدقيق بالعديد من المعلومات الضرورية للتحقيق بذريعة مخالفة هذا العقد لقانون النقد والتسليف الصادر بمرسوم رقم 13513 في 1/8/1963 ولقانون السرية المصرفية الصادر في 3/9/1956. وقد اعتبر حاكم مصرف لبنان بأنه ملزم بالإبقاء على سريّة هذه المعلومات مع إمكانية البوح بحسابات الدولة وحدها للشركة في حال رفع وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني السرية عن حسابات الدولة، وهو أمر لم يحصل.

لم ينقضِ ساعات على الإعلان عن رفض الحاكم إعطاء المعلومات، حتى خرج رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان ليقول أن خطوة إبرام الحكومة لعقد تدقيق جنائي غير موفقة لأن تنفيذه يتطلّب تعديل قانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف. وبفعل هذه العوامل، انطلق نقاش واسع حول مفعول السرية المصرفية وفيما إذا كانت فعلا تُعيق تسليم المعلومات اللازمة لإنجاز التدقيق الجنائي. وهو نقاش زاد حمأة بعد إعلان شركة Alvarez & Marsal إنهاء العقد واعتذارها عن المهمة الموكلة إليها، حيث أصبح عدم تزويدها بالمعلومات مدعاة لتوقّع سقوط المحاسبة عن تفليسة البلد بشكل كامل. 

وإذ نشرت “المفكرة القانونية” قراءة حول أبعاد هذا القرار، فإننا نخصص هذا المقال للبحث في مدى سدادة الذرائع التي أدلى بها حاكم مصرف لبنان، وذلك على ضوء بنود العقد ومطالب شركة التدقيق وأجوبة هذا الأخير. 

وقبل المضي في ذلك، لا بد أن نذكر بأن قانون السرية المصرفية وضع في 1956 بناء على اقتراح تقدم به ريمون إدّه الذي كان عميد الكتلة الوطنية من ضمن سياسة  laissez faire التي اعتمدتها الدولة تجاه المصارف بهدف جذب الرساميل الأجنبية والاستفادة من الطفرة النفظية وهروب الرساميل من عدد من الدول العربية تبعا لسياسات التأميم [1]. وفيما ارتبطت السرية المصرفية تاليا بحقبة تاريخية معينة، فإنه يعاد النظر فيها منذ فترة بضغوط دولية في إطار السياسات الدولية المعتمدة في إطار مكافحة تبييض الأموال. كما يشهد اللبنانيون اليوم المساوئ الكبيرة الناجمة عنها بعدما أصبحت الأداة الفعلية لإخفاء مجمل أعمال الفساد بل للتستر عن هوية الذين هربوا رساميلهم بعد 17 تشرين. وكان المجلس النيابي مؤخرا قد تراجع عن تمكين القضاء من رفع السرية المصرفية، حاصرا هذه الصلاحية بهيئة التحقيق الخاصة في المصرف المركزي والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي لم تنشأ بعد. 

  • علام نص العقد؟ وماذا طلبت شركة التدقيق؟ 

يعرّف التدقيق الجنائي على أنّه تدقيق في سجلات شركة أو مؤسسة مالية من أجل استخراج أدلة من الممكن استخدامها في المحاكم أو في إجراءات قانونيّة غالبا ما تتعلق بجرائم جزائية.

وبالعودة إلى عقد التدقيق الجنائي الموقّع مع ألفاريز، تشكّل الدولة اللبنانية ممثّلة بوزير المالية غازي وزني الطرف  الأوّل فيما شركة  Alvarez & Marsal الطرف الآخر. في المقابل ليس مصرف لبنان طرفا في العقد بل هو فقط موضوع التدقيق بصفته مصرف الدولة ولكونه ملزما بتطبيق سياساتها المالية [2] التي يدخل التدقيق من ضمنها. وقد شكل ذلك أحد مواقع الخلل في العقد الموقع، لأنه كان من شأن توقيع المصرف المركزي على العقد (وهو أمر غير مضمون طبعا) أن يجنّب الحديث عن السرية المصرفية ويرفعها بوجه الشركة المدقّقة. 

أمّا في ما خصّ نطاق التدقيق، نتبين أن الهدف الأساسي منه هو معرفة ما إذا تمّ ارتكاب مخالفات وجرائم مالية أثناء عمل المصرف المركزي خاصة أثناء فترة القيام بعمليات الهندسة المالية لما يعتري هذه الهندسات من شبهات، وذلك عبر مراجعة العمليات المالية التي تمت، وتطور أصول وأعباء المصرف المركزي، والظروف المحيطة بذلك [3].

فبحسب العقد الموقع مع Alvarez & Marsal يشمل التدقيق الجنائي الأولي:

  •  التأكد من أن الأصول المرتبطة بالعمليات المالية التي حصلت على مستوى المصرف المركزي خلال السنوات الخمس الأخيرة قد استخدمت في خدمة الهدف الموضوعة له؛ 
  • التأكد إذا ما كانت قيمة العمليات المالية قد تم تضخيمها أو لم توثّق؛ 
  • التأكّد إذا ما كانت الدفوعات قد تمت لشركات وهميّة أو تخدم هدفا مشابها غير مناسب؛ 
  • تقييم، مراجعة وتحليل أي إشارات تحذير قد تبيّن أساليب تقرير مالي غير مناسبة، إختلاس أو إساءة استعمال أصول؛ 
  • تقييم، مراجعة وتحليل أي نفقات وأعباء صرفت لأهداف غير مناسبة؛ 
  • مراجعة كيفية تراكم أعباء وأصول المصرف المركزي على مر الوقت؛ 
  • مراجعة تكوين احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية وأعبائه؛ 
  • مراجعة الظروف والشروط المحيطة باصدار سندات خزينة وكيفية اكتتاب المصرف المركزي بهذه السندات؛
  •  مراجعة الهندسات المالية خلال السنوات الخمسة الماضية؛ 
  • إجراء تحليل دقيق لحركة الودائع في المصارف التجارية على صعيد الأفراد والمجموعات خاصة خلال الفترة التي جرت فيها الهندسات المالية؛ 
  • تبيان المصارف التي تحمل دينا حكوميا ومدى مصداقية حساباتها المحمولة من مصرف لبنان؛
  • وأخيرا تحليل نوعية الودائع وانكشاف المؤسسات المالية على مصرف لبنان والحوكمة المحيطة بذلك.

أما المعلومات التي طلبتها الشركة والتي رفض مصرف لبنان تزويدها إياها فهي معلومات تتعلق بشكل أساسي بعمليات المصرف المركزي مع المصارف أثناء الهندسات الماليّة والشروط المحيطة بها بالإضافة إلى أنظمة تقييم المخاطر والإدارة الرشيدة. فهي تضمّ قائمة بكل التحويلات المقامة المتعلقة بالهندسات المالية منذ كانون الثاني 2015 كما تفسير الأسباب التي دفعت إلى إجرائها وأهدافها كما المستندات المرفقة؛  الحسابات التفصيلية والمستندات المرفقة المرتبطة؛ توصيف أنظمة الدفع والمحاسبة؛ توصيف إجراءات الموافقة ومعالجة الدفوعات؛ حسابات دفتر الأستاذ العام من كانون الثاني 2015 حتى 30/6/2020؛ المنظومة المفوضة السلطة والتي تبين درجات الموافقة على كل أنواع الدفع منذ 2015 حتى الآن؛ نسخ عن كل حسابات الإدارة والتقارير المالية للفترة بين 2015 و2019 وحتى 30/6/2020؛ لائحة عن كل المؤسسات المالية التي تلقى منها مصرف لبنان إيداعات والحسابات معها؛ لائحة مفصّلة  عن نوعية موجودات احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة  والأعباء وكل التحركات من 1/1/ 2015 حتى 30/6/ 2020؛ نسخ عن كل مواثيق لجان الإدارة الرشيدة السارية منذ كانون الثاني2015 حتى اليوم وكل تقارير التدقيق الداخلي والخارجي المرتبطة بالمخاطر، بالإدارة الرشيدة وبالإمتثال منذ 1/1/ 2015 حتى اليوم وكل الخطط المتعلقة بهذه المواضيع. وقد تم رفض تزويد كل هذه المستندات بحجة أن تسليمها يشكل خرقا لقانوني النقد والتسليف والسرية المصرفية [4]. كما رفض المصرف المركزي إعطاء نسخة عن أسماء كل موظفي مصرف لبنان الحاضرين والسابقين مع تحديد وظائفهم تحت ذريعة وجود أسباب أمنية تمنع ذلك.

  1. هل تشمل السرية المصرفية المعلومات المطلوبة؟ 

هنا، سنحاول تحليل في ما إذا كان قانون السرية المصرفية يشمل المعلومات المطلوبة وإلى أي مدى. ولهذه الغاية، يقتضي تسجيل 3 ملاحظات أساسية هي بمثابة ردّ على رفض إعطاء المعلومات: 

  • حماية خصوصية الزبائن: لا شيء يمنع استبدال الأسماء بأرقام 

عرّفت المادة 2 من قانون السرية المصرفية الصادر في 3/9/1956 موجب احترام السرية المصرفية بالموجب، الذي يقع على مديري ومستخدمي المصارف المنشأة على شكل شركات مغفلة وفروع لمصارف أجنبيّة وكل من له اطلاع بحكم صفته أو وظيفته بأية طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية، بكتمان السر إطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف. ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص فردا كان أم سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية. بهذا المعنى، يكون موضوع السريّة المصرفية المعلومات الخاصة بالزبائن، والهدف منه توفير طبقة حماية إضافية لخصوصية الزبائن تضاف إلى سر المهنة، تضع حظرا مطلقاً على إفشاء أسماء العملاء ومعلوماتهم والأموال في حساباتهم تحت طائلة الملاحقة الجزائية. ولا يمكن اعتبار هدف السرية المصرفية إذاً صون السريّة المطلقة في عمل المصارف أو المصرف المركزي واستبعاد أي عين خارجية على عملها droit de regard، وإلا لما كان مفهوماً إخضاع الأولى لرقابة لجنة الرقابة على المصارف والثانية لرقابة ووصاية وزارة المالية من خلال تكريس وظيفة مفوض للحكومة في المصرف المركزي منه إنشائه. 

كذلك أخضع قانون النقد والتسليف في المادة 151 منه المصرف المركزي وموظفيه لموجب السرية المصرفية. [4] وتسري هذه السرية حتى بوجه رقابة وزارة المالية على المصرف المركزي بواسطة مفوّض الحكومة في المصرف المركزي بحسب المادة 44 [5] من قانون النقد والتسليف وهو ما يتذرع به الفريق الذي يعتبر أنّه لا يحق لشركة التدقيق المكلّفة من الدولة الحصول على بعض المعلومات لشمولها بقانون السرية المصرفية وعدم قدرة الدولة على تسليم ما لا يحقّ لها الوصول إليه.

انطلاقا مما ورد، وطالما أن حماية خصوصية الزبائن هي الهدف من السريّة المصرفية – وليس أبداً إعفاء المصارف الخاصة والمصرف المركزي من أية رقابة خارجية –، كان من الممكن مراعاة قانون السرية المصرفية من خلال استبدال أسماء زبائن المصرف المركزي بأرقام أو أسماء أخرى. وقد أيدت وزيرة العدل ماري كلود نجم هذا التوجّه متسلّحة باستشارة هيئة التشريع والإستشارات رقم 881/2020، الصادرة عن رئيسة الهيئة جويل فواز في 22/10/2020، والمحالة إلى وزارة المالية في 26/10/2020، والتي أفادت بأنه “في حال كان لهذه الجرائم ارتباط وثيق بأسماء الزبائن، يشار إلى أسمائهم بأرقام حفاظاً على السرية بالنسبة إليهم”. وهذا ما كانت قد وافقت عليه الشركة.

  • توجه دولي بمنع التذرع بالسرية المصرفية بشأن مخالفات المصارف والجرائم المالية

إذا كان مفهوم السرية المصرفية قد نشأ لتأمين طبقة إضافية من الخصوصية للزبائن، فقد أثبتت التجربة سواء في لبنان أو سويسرا أنه شكّل عامل جذب مهما جدّا لأصحاب النشاطات الإجرامية مما استدعى إلغاءه في بعض البلدان كاللوكسمبورغ في عام 2014 أو تخفيفه كما فعلت سويسرا. وقد تداركت المواثيق الدولية هذه الإشكالية العالمية، فوضعت المادة 40 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقع عليها لبنان على الدول، موجب تأمين آليات مناسبة في نظامها القانوني الداخلي لتذليل العقبات التي قد تنشأ عن تطبيق قوانين السرية المصرفية في حال القيام بتحقيقات جنائية داخلية في أفعال مجرمة وفقا لهذه الإتفاقية. 

وتندرج آلية رفع السرية المصرفية من قبل هيئة التحقيق الخاصة المنصوص عليها في قانون مكافحة تبييض الأموال 44/2015 في هذا التوجه في ما خص جرائم تبييض الأموال. وقد ذهبت هيئة التشريع والإستشارات التي استندت وزيرة العدل إلى رأيها في ذات الإتجاه، والتي جاء فيه أن “السرية المصرفية تنحصر فقط بعدم إفشاء أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلّقة بهم، ولا يدخل ضمن نطاقها ضبط مخالفات المصارف والجرائم المالية التي ترتكب في إدارة الأموال من جانب المؤسسات المصرفية وفي حال كان لهذه الجرائم ارتباط وثيق بأسماء الزبائن، فيشار إلى أسمائهم بأرقام حفاظاً على السرية بالنسبة إليهم”. 

وانطلقت القاضية فواز من المادة 25 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تلزم من شاهد اعتداءً على الأمن العام أو على حياة شخص أو على ماله، بإعلام المدعي العام، لتشير إلى أنه “لا يدخل ضمن نطاق السرية المصرفية ضبط مخالفات المصارف والجرائم المالية التي تُرتكب في إدارة الأموال من جانب المؤسسات المصرفية التي من ضمنها دون أدنى شك المصرف المركزي الذي هو مصرف القطاع العام، وإلا لكان المشرع قصد حماية الجرائم العادية التي يمكن أن ترتكبها المصارف في ممارستها تحت غطاء السرية وليس فقط الزبائن ». أما بالنسبة إلى وجوب حفظ السرية المصرفية والمهنية، فيؤكد رأي هيئة التشريع والاستشارات أنه يسقط أمام موجب الإبلاغ عن الجرائم، مستطرداً أن مخالفة السرية المصرفية لا تُشكّل في كل حال جرماً يُعاقب عليه القانون، إلا إذا تم إفشاء السرّ عن قصد بنيّة الإضرار بالغير”

  • السرية المصرفية لا تسري على الأموال العامة

عدّد القانون الحالات التي تُرفع فيها السرية المصرفية  وهي:

  • إذن خطي بذلك من صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم،
  • أو إذا أعلن إفلاسه، 
  • أو إذا نشأت دعوى  تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها [6]
  • كذلك لا يمكن للمصارف التذرع بالسرية المصرفية في حالة الطلبات التي توجهها السلطات القضائية في دعاوى الاثراء غير المشروع [7]

وقد جاءت 3 حالات من خارج قانون السرية المصرفية لتسمحا برفعها:

  •  أولها هي حالة توقف المصرف عن الدفع، إذ ترفع في هذه الحالة السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الادارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات، وذلك وفق المادة 15 معطوفة على المادة 13 من القانون الرقم 2 تاريخ 16/1/1967، المتعلق بإخضاع المصارف التي تتوقف عن الدفع لأحكام خاصة،
  • أما الثانية فهي حالة الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها. وعندها، ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية، وذلك وفق البند الثالث من المادة 3 من القانون 44 الصادر في 24/11/2015 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال،
  • أما الثالثة فهي الحالة التي تطلب فيها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رفعها بموجب القانون رقم 175 الصادر في 8/5/2020 وعاد وأكّد التعديل الأخير على قانون السريّة المصرفية صلاحية الهيئة برفعها عن الأشخاص الذين يتولّون الشأن العام (وهو لزوم ما لا يلزم طالما أن هذه الهيئة تتمتّع أصلا بهذه الصلاحية).

لم يتطرق القانون بشكل صريح إلى حالات أخرى تسمح برفع السرية المصرفية. إلا أنه يستوجب النظر بمدى شمول الأموال العامة بهذه السرية وبهذا القانون نظرا لطبيعتها الخاصّة ولارتباطها الوثيق بالمصلحة العامة. وقد جرى هذا النقاش نظرا لأن عمليات الهندسات المالية التي تشكّل دراستها أحد أهداف هذا التدقيق بحسب العقد، جرت من خلال تبادل سندات خزينة تعتبر من الأموال العامة، بالإضافة إلى أن شبهات الفساد تتعلّق بأموال عامة وبالتالي تعتبر الدولة طرفا في هذه العمليات المالية. 

يستند هذا النقاش إلى مبدأ الشفافية المتعلّق بالأموال العامة والإنفاق، المكرس عالميا [8]. وقد وضع هذا المبدأ نظرا لأن الأموال العامة تتشكل بشكل خاص من أموال المكلفين وبالتالي يحق لهؤلاء معرفة كيف تصرف أموالهم. بالإضافة إلى ذلك تزداد الحاجة إلى الشفافية والمساءلة مع ازدياد منسوب الإستقلالية والمسؤولية في ما يتصل بإدارة المصارف المركزية، حيث تصبح شفافيتها ومساءلتها الواجبات المقابلة للاستقلالية الواسعة الممنوحة لها. في هذا الإطار، نشر الخبيران توبياس أدريان وأشرف خان في صندوق النقد الدولي مقالة بعنوان “مساءلة البنوك المركزية واستقلاليتها وشفافيته [9]ا” شدّدا فيها على أنّ الاستقلالية والمساءلة وجهان لعملة واحدة. وتناولا مفهوم المساءلة الإجتماعية وأعطيا أمثلة عنها تمثّلت في نشر محاضر الاجتماعات، وسرعة الاستجابة لاستفسارات المُشَرِّعين، ونشر تقارير فنّية مفصّلة، وعقد اجتماعات مع وزراء المالية، وتنظيم مؤتمرات صحافية. هذا وقد اقترح  الصندوق ميثاقاً جديداً لشفافية البنوك المركزية يُتوقّع منه أن يسهّل تحقيق شفافية أكبر لدى البنوك المركزية. ويشير المقترح بوضوح إلى أنّه يُتوقع من البنوك المركزية أن تفسّر وتبرر إجراءاتها وأن تصف قراراتها المتخذة في سياق تنفيذها للمسؤوليات المنوطة بها. 

في ما خصّ لبنان، فقد تكرس مبدأ الشفافية المتعلّق بإدارة الأموال العامة أولا في المادة 9 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقع عليها لبنان. وقد جاءت المادة 7 من قانون حق الوصول للمعلومات لتكرّس هذا الحق حيث وضعت على الإدارة موجب النشر الحكمي لجميع العمليات التي بموجبها يتم دفع أموال عمومية تزيد عن خمسة ملايين ليرة لبنانية، وذلك خلال شهر من تاريخ اتمامها أو اتمام أحد أقساطها، على أن يتضمن النشر ما يلي: قيمة عملية الصرف، وكيفية الدفع، والغاية منه، والجهة المستفيدة، والسند القانوني الذي بموجبه جرى الصرف (مثلاً: مناقصة، عقد بالتراضي، تنفيذ حكم قضائي) مستثنية من أحكام هذه المادة فقط رواتب وتعويضات الموظفين وما ينال من المصالح المالية والاقتصادية للدولة وسلامة العملة الوطنية بحسب أحكام المادة 5 [10] من القانون ذاته، وهو استثناء لا يمكن التذرّع بأنه ينطبق على الحالة الراهنة نظرا إلى أن هذا التدقيق يبدو شرطاً أوّلياً لاستعادة لبنان واقتصاده ومصارفه وعملته عافيتهم عبر تحديد المسؤوليات والموارد المتوفّرة تمهيداً لوضع خطة نهوض من الانهيار، وأن جميع الاطراف الدولية يشترطون إجراء هذا التدقيق قبل تقديم أي مساعدة للبنان. وقد تبنّت وزيرة العدل كما نقيب المحامين ملحم خلف وجهة النظر هذه لدى تناولهما مخالفة المصرف المركزي للقانون بامتناعه عن تسليم حساباته. كذلك يبين إدراج الإثراء غير المشروع على لائحة الإستثناءات على السرية المصرفية نية المشرّع تفضيل مبدأ الشفافية على السرية المصرفية، لارتباط مفهوم الشفافية بضرورة الحفاظ على الأموال العامة. 

أخيرا رغم اقتناعها بعدم شمول الأموال العمومية بالسرية المصرفية وفقا لكل ما تقدم، استطردت وزيرة العدل واعتبرت أنه حتى لو اعتبرت أموال الدولة مشمولة بالسرية المصرفية، فإن اتخاذ الدولة ممثلة بالحكومة لقرار إجراء التدقيق الجنائي وتوقيعها العقد ممثلة بوزير المالية غازي وزني يرفع السرية المصرفية عن المعلومات المطلوبة، طالما أن معلومات المصرف المركزي هي معلومات الدولة، بما أن الحكومة هي المسؤولة عن وضع السياسات المالية للدولة [11]. وهذا ما أكدت عليه هيئة الاستشارات والتشريع إذ خلصت في رأيها إلى اعتبار أن قرار مجلس الوزراء التعاقد مع شركة «ألفاريز اند مارسال» للقيام بعملية التدقيق الجنائي ما هو إلا تطبيق للمادة 65 من الدستور التي أناطت بمجلس الوزراء رسم السياسة العامة للدولة في جميع المجالات واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها. وفي الحالة الراهنة، فإن قرار التعاقد مع شركة التدقيق يكون ملزماً للجميع، ولا سيّما الأشخاص المعنيّين بتطبيقه من أجل تمكين الشركة من القيام بمهمتها و« منهم طبعاً ومن دون أي شك حاكمية مصرف لبنان والأجهزة التابعة له أو المرتبطة به أو المنشأة لديه ». فالدولة هي أحد زبائن المصرف المركزي كما نتبين من المادتين 85 و97 [12] من قانون النقد والتسليف، ويقدّم لها المصرف المركزي العديد من الخدمات وبإمكانها رفع السرية عن أموالها سندا للمادة الثانية من قانون السرية المصرفية الذي يسمح برفع السرية المصرفية إذا أذن بذلك صاحب الشان المتمثّل هنا بالحكومة. في المقابل حاول الحاكم رمي الكرة في ملعب الحكومة فتمسّك بموقفه الرافض تسليم أي من الوثائق، وطلب كتابا من وزير المالية غازي وزني يطلب فيه هذا الأخير رفع السرية المصرفية عن حسابات الدولة اللبنانية، وهو ما رفضه وزني، معتبراً “أنّ في إمكان مصرف لبنان التصرّف بمعزل عن طلبه”.

 

[1]Hicham Safieddine, Banking on the state, Stanford University Press, 2019, pp. 82-84

[2]المادة 65 من الدستور اللبناني

[3]الصفحة 14 – 15 من العقد

[4]المادة 151:على كل شخص ينتمي او كان انتمى الى “المصرف المركزي”، بأية صفة كانت، ان يكتم السر المنشأ بقانون ٣ ايلول سنة ١٩٥٦ . ويشمل هذا الموجب جميع المعلومات وجميع الوقائع التي تتعلق، ليس فقط بزبائن “المصرف المركزي” والمصارف والمؤسسات المالية وانما ايضا بجميع المؤسسات المذكورة نفسها والتي يكون اطلع عليها بانتمائه الى “المصرف المركزي”.

[5]المادة ٤٤: للمفوض ولمساعده، المشار اليه في الفقرة (ب) من المادة ٤٢ ، حق الاطلاع على جميع سجلات “المصرف المركزي” ومستنداته الحسابية، باستثناء حسابات وملفات الغير الذين تحميهم سرية المصارف المنشأة بقانون ٣ ايلول سنة ١٩٥٦. وهما يدققان في صناديق المصرف المركزي وموجوداته.
وليس لهما ان يتدخلا ، بأية صورة ، في تسيير اعمال “المصرف المركزي”.

[6]المادة 2 من قانون السرية المصرفية

[7]المادة 7 من قانون السرية المصرفية

[8]Code de transparence des Finances publiques , FMI qui precise les principes de transparence des fonds publics.

[9]توبياس أدريان وأشرف خان ، “مساءلة البنوك المركزية واستقلاليتها وشفافيته”،2019، الموقع الإلكتروني لصندوق النقد الدولي

[10]المادة 5:المستندات غير القابلة للاطلاع:
أ – لا يمكن الوصول الى المعلومات المتعلقة ب:
1 – أسرار الدفاع الوطني والأمن القومي والأمن العام.
2 – ادارة العلاقات الخارجية للدولة ذات الطابع السري.
3 – ما ينال من المصالح المالية والاقتصادية للدولة وسلامة العملة الوطنية.
4 – حياة الأفراد الخاصة وصحتهم العقلية والجسدية.
5 – الأسرار التي يحميها القانون كالسر المهني أو السر التجاري مثلاً.
ب – لا يمكن الاطلاع على المستندات التالية:
1 – وقائع التحقيقات قبل تلاوتها في جلسة علنية، والمحاكمات السرية، والمحاكمات التي تتعلق بالأحداث وبالأحوال الشخصية.
2 – محاضر الجلسات السرية لمجلس النواب أو لجانه، ما لم يقرر خلاف ذلك.
3 – مداولات مجلس الوزراء ومقرراته التي يعطيها الطابع السري.
4 – المستندات التحضيرية والإعدادية والمستندات الادارية غير المنجزة.
5 – الأراء الصادرة عن مجلس شورى الدولة إلا من قبل أصحاب العلاقة في إطار مراجعة قضائية.

[11]المادة 65 من الدستور.

[12]المادة 85: المصرف المركزي” هو مصرف القطاع العام ، وبهذه الصفة :
. أ – تودع لديه دون سواه اموال القطاع العام
ب – يدفع المبالغ التي يأمر بصرفها القطاع العام حتى قيمة موجودات هذا الاخير لديه.
ج – يجري تحويل الاموال التي يطلبها منه القطاع العام حتى قيمة موجودات هذا الاخير
لديه.
د – يؤمن حراسة القيم التي يسلمه اياها القطاع العام، وعند الاقتضاء، ادارتها، وبصورة
عامة يؤدي لهذا القطاع جميع الخدمات المصرفية.
ه- يمكنه، أخيرا، وفي الحالات المنصوص عليها بالمواد ٨٨ و ٩١ و ٩٢ اعطاء قروض
للقطاع العام.

المادة ٩٧:
“المصرف” هو ايضا العميل المالي للقطاع العام وبهذه الصفة:
أ – يساعد مجانا على ترويج قروض القطاع العام الداخلية والخارجية .
ب – يقوم، دون نفقة او عمولة، بدفع فوائد القروض المذكورة وايفاء اقساطها المستحقة من
المؤونات التي تكون قد اودعت لديه قبل الاستحقاق بعشرة ايام على الاقل.
ج – يشترك في المفاوضات الرامية الى عقد اتفاقات دفع او مقاصة.
د – يكلف دون سواه بمسك الحسابات المتعلقة بهذه الاتفاقات وبامكانه ان يتعاقد على
الترتيبات الضرورية لهذه الغاية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، مصارف ، تشريعات وقوانين ، مرسوم ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني