“طرنا متل العصافير… عاصفة سخنة طيرتنا، موت أحمر صرت صرّخ لولادي، وينو حيدر؟ ما عدنا قشعنا بعض من الدخنة، والبناية عم تروح وتجي شمال ويمين، كنت مش عارفة إذا وقعت فينا وإذا رح نبقى طيبين أو خلص!”
تستقوي أم حيدر على دموعها ولكنّ الأخيرة تهزمها. تبكي كالطفلة وتنظر إلى بلاط ملعب المدرسة الذي صار “بيتها” اليوم في تجمّع المدارس في كترمايا، إقليم الخرّوب، بعد مشقّات نزوحها الثالث وتقول: “شو ذنبنا نحنا؟ نحنا شو عملنا؟ ما تركولنا بيوت ببرج رحّال، حتى ناسنا وأهلنا مش كلّن لحقوا يفلّوا”، وتمتّن وتشكر: “ما صدّقنا إنّو بعد منعيش، مشينا ساعات تحت القصف حتى وصلنا على مفرق الزرارية”.
تغمض أم حيدر عينيها وتصمت لثوان وكأنّها ما عادت تقوى على حمل ما أرجعته الذكريات، إلى أن فجّر البكاء صمتها: “وربّي خلّصنا من الموت بأعجوبة.. شفناه محاوطنا.. كلّ الأتوستراد وهو مرافقنا.. بس ما تخيّلت يلحقنا ع الضاحية!”
تأخذ نفسًا وكأنّه الفاصل بين المشهد والآخر في فيلم رعب لا يعرف نهاية، كما وصّفته، وتحكي: “حافيين ضهرنا من مكان نزوحنا بالضاحية عالشارع، وهون بلّش الذل، 3 الصبح كنّا ع الرملة البيضا، قعدنا عالرصيف.. وبعدها ع ساحة الشهداء.. نمنا عالطريق، ما في دولة ولا حدا سئلان عنّا”. وسرعان ما تستدرك: “مبلا فجأة إجا حدا ناولنا ربطة شوفان وعلبة مرتديلا.. الله لا يجرّب حدا .. عيشة الكلاب عشنا”.
وتسرد أم حيدر لـ “المفكرة” تفاصيل نزوحها المتكرّر وعائلتها المكوّنة من 10 أفراد من برج رحّال جنوبًا إلى الضاحية ومن ثمّ كورنيش المزرعة، بعد أن أصرّ أحد أقاربها على احتضانهم، من دون أن يخيّل له أنّ سكان المبنى الذي يقطنه سوف يمنعوه ويطردونهم جميعهم، خوفًا من أيّ عدوان، نتيجة سياسة “شيطنة النازحين” التي تعتمدها إسرائيل. تستذكر أم حيدر: “فلّلونا.. قَدَرنا ننذلّ بهالبلاد.. رحنا على الجيّة، في رجّال قلنا إنتو بعيوني.. وفتحلنا غرفة فاضية حد البحر، بس الولاد انرعبوا من صوت الطيران والقصف.. ما تحمّلنا رجعنا جينا لهون على كترمايا أأمن شوي”.
من الإقليم إلى الشوف الأعلى، أنين والنكبة واحدة: “نحنا ما بدنا نترك بيوتنا! وما ضهرنا إلّا لمّا نزلت كلّ البيوت حوالينا”. تتنهّد “أم عبّاس” ابنة معروب الجنوبية، وكأنّها تعتذر من الأرض التي تركت: “إيه هربت بأولادي وأحفادي، اللحظة لي شفت فيها جارتي تشقّفت وزوجها عم ينشال على دفعات من تحت الردم..”. تلتقط أنفاسها، وتكشح الدموع التي خانتها وتسأل: “مين بسلّم أرضه ورزقه برضاه؟ بس شفنا الويل!” وسرعان ما ترصّ يديها، وتحفّ كفًّا على الآخر علّها تواسي نفسها بنفسها، وتستجمع ما تبقّى فيها من حيل، لتكمل بصوت خافت ما أعادته الذاكرة من أحداث أليمة: “مين حاسس فينا؟ صرلنا سنة بحرب أعصاب، سنة صامدين بس مش عايشين”.
المشهد في الشوف والإقليم، عينه في عاليه، أروقة وباحات المدارس الرسمية والثانويات والمهنيات وكذلك بعض كليات فروع الجامعة اللبنانية، تعجّ بمفاعيل عصف النار والصواريخ التي حوّلت قرى بأكملها إلى أرض محروقة، وأسقطت بيوتًا فوق ساكنيها، مبعثرة أهل البلاد، وأحيانًا مشرذمة العائلة الواحدة باتجاه الوديان أو الأوتوسترادات، على غير هدى، إلى أن اهتدوا إلى الجبل أو بيروت أو الشمال بحثًا عن مكان آمن.
من المدخل الرئيسي للمدارس الرسمية التي حوّلتها الحكومة إلى مركز إيواء، يتكشّف الوضع المأساوي، هنا عشرات العائلات تفترش الأدراج وقد أنهكها مسير العذاب، وهناك كبار السن يقلّبون أجسادهم وقد أضنتها قسوة الزمن، كما المقعد الدراسي الصغير الذي يضيق بأحوالهم الصحية.
أما الأطفال فمعظمهم لم تغرِه كرة القدم المُتبرّع بها، لا تراهم يركضون حتى، بل يركنون جانب أهلهم، بعضهم يأبى أن يفارق أحضان أمهاتهم، والبعض الآخر لا يملّ التحديق في عيون والديه، وكأنّهم يحاولون قراءة ما لم تنطق به الشفاه، ويبدو معظمهم قد خاصم اللعب.. أو تراهم يخشون أن يفوتهم أي خبر قد يصلهم بجديد عن بيوتهم أو ألعابهم أو أصدقائهم.
سبّب العدوان الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر موجة نزوح توسّعت لتشمل معظم قرى الجنوب والبقاع بدءًا من 23 أيلول مع توسيع إسرائيل لأعمالها العدوانية، مرورًا بـ 27 أيلول تاريخ الغارات التي ألقى فيها الطيران الحربي الإسرائيلي 80 قنبلة بوزن طنّ لكلّ منها في الضاحية الجنوبية ولاحقًا الإنذارات التي وجّهها الاحتلال لأهالي أحياء في الضاحية، ليقارب عدد النازحين قسريًا عتبة المليون نازح، وفق ما قال رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، نال الإقليم والشوف وعاليه حصّة كبيرة منه حيث تجاوزوا في الساعات الأخيرة، 200 ألف نازح، توزّعوا على أكثر من 130 مركز إيواء رسميًا وخارج المراكز: في صالات وقاعات مساجد وبيوت مستأجرة أو استضافتهم، وفق الإحصائيات التقديرية التي رُصدت في قائمقامية عاليه ومصادر معنيّة بإدارة خلايا النزوح في الشوف والإقليم، وأُبلغت لـ “المفكّرة”.
ومنذ ساعات الفجر الأولى لـ “إثنين النزوح”، تجنّد آلاف الأفراد من أهالي الإقليم والشوف وعاليه ومن الجمعيات والمنظّمات الفاعلة ومبادرات مدنية شُكلت على عجل، إضافة إلى الأحزاب السياسية والهيئات الاختيارية والبلدية، مسلّحين بقيم التضامن والإنسانية، لإغاثة النازحين من الجنوب الدامي، وتباعًا من الضاحية بعد ضربة 27 أيلول، في ظلّ غفلة الدولة وغياب أي أثر للّدعم الذي وعدت به خطة الطوارئ والاستجابة للأزمة.
ورغم الورشة الإنسانية وكرم المبادرات ونبلها التي يشهدها كل من الشوف وعاليه، إلّا أنّ مئات العائلات النازحة تفترش البلاط لليوم السابع على التوالي، بعد رحلة العذاب من أقاصي الجنوب إلى ضواحي بيروت، وصولًا إلى المنطقة، بحثًا عن أماكن آمنة.
“فرشٌ تبقى قليلة أمام هول الأعداد”، قدّمت من أحزاب المنطقة وجمعيّاتها وأهاليها، ليتناوب عليها أصحاب الأوضاع الصحّية الأصعب أو كبار السن تحديدًا، في ظلّ غياب تامّ لخطّة الطوارئ والاستجابة الرسمية، حيث اقتصر دعم الهيئة العليا للإغاثة، الذي إنْ وُجد على مدّ المنطقة، على حوالي ألف فرشة، أي بمعدّل فرشة واحدة لكل 200 نازح. “على البلاط والله العظيم”، تصف النائبة حليمة القعقور إثر جولاتها في مراكز الإيواء، أحوال النازحين. وتشير إلى النقص في الاحتياجات كافة من طعام وأدوية وحليب وحفاضات للأطفال والمسنّين، كما وتفتقر مراكز الإيواء إلى أماكن الاستحمام، ورغم بعض الجهود التي نجحت في بعض القرى لتأمين المياه الساخنة للنازحين، إلّا أنّ معظمهم لم يتمكّن من الاغتسال منذ لحظة النزوح الأسبوع الفائت.
يرسم النائب بلال عبد الله مأساة النزوح: “الأعداد هائلة، أعداد كبيرة قدِمت بعد تفجير الضاحية… ما عاد في قدرة استيعابية بالإقليم..” وعن الاحتياجات أوجز عبدالله: “بحاجة لكلّ شيء.. كلّ شيء”.
200 ألف نازح وللإقليم الحصّة الأكبر
تشير مصادر مطّلعة على عمل قائمقامية الشوف لـ “المفكّرة” إلى أنّ الإحصاءات الأوّلية، التي سُجّلت رسميًا حتى ظهر يوم الخميس 26 أيلول: “أكثر من 10 آلاف نازح في 70 مركز إيواء في الشوف والإقليم، في حين يتراوح عدد النازحين المتواجدين في بيوت للإيجار أو استضافة لدى أهالي المنطقة بين 20 و25 ألف”.
أمّا في إقليم الخرّوب فيقول يحيى علاء الدين، مدير خليّة الأزمة في المنطقة لـ “المفكّرة”: “ما عاد في ولا غرفة شاغرة بكلّ الإقليم، الذي يحتضن اليوم، نظرًا لموقعه الجغرافي الوسطي بالنسبة للجنوب والضاحية، حوالي 65 ألف نازح في مراكز الإيواء الرسمية وغير الرسمية التي افتتحت، من دون إحصاء المنازل المُستأجرة، أو تلك التي فتحها أصحابها للمهجّّرين تحت النار، لصعوبة الأمر”. ويوضح علاء الدين: “أقل ضيعة بالإقليم فيها 2000 و3000 نازح، مركز واحد بكترمايا يحتضن أكثر من 750 شخصًا، وكلّ المدارس الرسمية والثانويات والمهنيّات تخطّت طاقتها الاستيعابية، وبعد افتتاح كلّية العلوم الجامعة اللبنانية في الدبية، افتتحت الجامعة الإسلامية بمنطقة الوردانية”.
ويلفت علاء الدين إلى أنّه: “إثر قصف الضاحية في 27 أيلول ولغاية السبت الماضي، استمرّينا باستقبال النازحين إلى أن غصّت كلّ مراكز الإيواء الرسمية بنحو 17 ألفًا و200 نازح، وكلّ المساجد والمنازل بلغت أقصى طاقتها”. ويضيف: “مركز الحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل وحزب النجدة الشعبية كلها تحوّلت إلى مراكز إيواء. بل وأكثر من ذلك فُتحت صالات الأفراح والروابط والباحات وقُسمت بالشوادر لاحتضان العائلات.. وإيواء أفرادها”.
وعن عدد النازحين في قضاء عاليه، تشير بدر زيدان قائمقام عاليه، الى أنّ العدد تضاعف بشكل هائل بعد قصف الضاحية الجنوبية، فارتفع من حوالي 17 ألف نازح إلى حدود 35 ألف نازح، من دون الأخذ بعين الاعتبار الوحدات السكنية المستأجرة (13 ألف نازح مسجّلون رسميًا في 66 مركز إيواء بعد أن كان عدد المراكز 60 قبل أحداث الضاحية، وفي حدود 22 ألف نازح في بيوت وقاعات وصالات وأندية فتحت أبوابها لإيواء النازحين رغم كونها غير مفروشة أو مجهّزة).
وفي حين يقدّر غازي الشعار، رئيس اتّحاد الغرب الأعلى والشحار، ورئيس بلدية عيناب وعضو خلية الأزمة في قضاء عاليه، لـ “المفكّرة”، أنّ أعداد المتواجدين في بيوت الضيافة أو الإيجار، يقدّر ما بين ضعفي إلى ثلاثة أضعاف المتواجدين في مراكز الإيواء، ليتجاوز 70 ألف نازح مستأجر على امتداد قضاء عاليه، يؤكّد الشعار صعوبة إعطاء رقم نهائي نظرًا لتزايد الأعداد بشكل هائل، ولصعوبة جمع البيانات.
استجابة الدولة: حبر وخطط ووعود
يقول مصدر مطّلع على عمل قائمقامية الشوف لـ “المفكّرة” لدى السؤال عن تقييم الاستجابة في الساعات الأولى وفعالية خطة الطوارئ: “لم يكن هناك من جهوزية على صعيد المساعدات العينية، لافتقار الدولة لهكذا نوع من الاحتياط المالي، فيما تقتصر إيجابية خطة الطوارئ على الفتح الممنهج لمراكز الإيواء وعلى التنظيم الهيكلي والاستعداد والتخطيط والاستجابة السريعة من قبل الموارد البشرية وأجهزة غرفة الكوارث”. ويشرح المصدر موجزًا: “في خطط وهيكلية ولكن على أرض الواقع عمليًا ما في شي، للأسف نفتقر للمقوّمات.. والمساعدات العينية”.
ويتابع المصدر: “نؤكّد أنّ قائمقامية الشوف لم تستلم بعد مرور خمسة أيام على النزوح أيّ “فرشة”، في ظل توارد معلومات تفيد أنّ بعض البلديات والأحزاب قد استلمت من الهيئة العليا للإغاثة عددًا من الفرش وعمدت إلى توزيعها. يجري الاعتماد على مبادرات فردية تسعى لتأمين المطلوب بعد أن تبيّن لليوم أنّ الناس ما عندها حرامات ولا عندها فرش، رغم وعود هيئة الإغاثة”. ويتابع المصدر: “لقد صرّح الوزير ياسين برصد الاعتمادات، لذلك الكل بانتظار وصول الدعم”.
وفي محاولة “التنقيب” عن دعم الإغاثة، ولدى سؤال القائمقام زيدان عن دعم الإغاثة، بعفوية عبّرت برفع يدها أمام عينيها، دون التصريح وكأن الصمت أبلغ من توثيق الوضع المأزوم للدولة.
وتحفظّت زيدان، عن ذكر عدد الفرش الذي استلمته من الإغاثة، واكتفت بالتعبير: “الدعم خجول.. خجول جدًا”. ولدى سؤال “المفكّرة” ما إذا بلغ الدعم “ألف فرشة”، لم تتردّد زيدان بالنفي القاطع: “حتمًا لا، لم يصل إلى الألف فرشة لكلّ قضاء عاليه”.
وفي سياق مقابل، تشير النائبة حليمة القعقور، إلى أنّ “خطة الطوارئ غير مفهومة وواضحة حتى الساعة” كما وصّفتها ب”الكلام الفارغ”، وأنها مبنية على وعود عامة ومستقبلية وليس على مراحل عملية ودقيقة وواضحة. وتضيف: ” خطة تفتقر لأي دعم رسمي يذكر”.
وتستنكر القعقور: “بعض الأحزاب، كالعادة بتعوّم حالها بمال الدولة.. في أحزاب عم تسعى تجيب الحد الأدنى الموجود بحوزة الدولة وتنسبه إلها. للأسف الناس والأهالي والجمعيات وبعض الأحزاب عم تبذل جهود وتقدّم، بس ما من وجود للدولة ومؤسسات الدولة، إلّا نادرًا”.
وتأسف النائبة القعقور: “ما في دولة، عيب والله عيب! صرلها سنة الحرب مش محضرين حالكن؟ نعلم أنّ القدرات محدودة… ولكن 40% من الخطة شقّ تنظيمي.. أين 20%؟” وتختتم: “طبعًا متروك الوضع للمنظمات الدولية.. ولكن حتى المنظمات الدولية والجمعيات منعًا للازدواجية، بحاجة لتنظيم وإدارة مؤسسات الدولة”.
وفي جولتنا على قضاء عاليه، يؤكد لنا غازي الشعار، رئيس اتحاد الغرب الأعلى والشحار، أنّ الاستجابة للصدمة كانت بجهود خليّة الأزمة المحلّية التي أنشئت العام 2019 وما زالت فاعلة، وهي تضمّ المجلس البلدي والاختياري وأحزاب المنطقة والمجتمع الأهلي والروابط اجتماعية. ويبدي استنكاره من تعبير جهوزية الدولة: “ما تسألي عن دعم الدولة، ما حدا… كلّها مبادرة أطلقناها لجمع التبرعات وتمويل احتياجات النازحين، والقائمقام تسعى جاهدة بتواصلها مع الجهات المانحة لتأمين المساعدات”. ويعقّب: “صفر دعم، ناسيتنا الهيئة العليا للإغاثة، وكذلك وزارة الشؤون”.
وفي محاولة التقصّي عن دور مؤسسات الدولة، ووزاراتها، في الاستجابة لكارثة النزوح، شرحت نجوى ضوّ، المنسّقة في خلّية الأزمة التي شكّلتها وزارة الشؤون الإجتماعية مع مجلس الوزراء، أنّها باشرت جولتها على عدد من مدارس الشوف والإقليم، وأنّ: “مهمّتنا كمنسّقين ستقتصر على مسح وإحصاء أعداد واحتياجات النازحين، ليصار الى تأمين الدعم النفسي الإجتماعي إن طالت الأزمة”.
وثقّتت “المفكرة” في جولتها مئات الصرخات من النازحين كما القيمين على مراكز الإيواء، لنقص الدعم الغذائي: “التحدّي كبير، المجتمع المدني والجمعيات والأحزاب والبلديات عم تأمن يوميا بحدود 5000 حصة عم تتوزّع ولكن أمام هول الأعداد شو بيعملوا؟” يوضح علاء الدين وضع الإقليم.
وفي السياق عينه يضيف مسؤول أحد المراكز بالشوف: “قدّمت اليوم مؤسسة فرح 20 وجبة لمركزنا، بس عندي أكثر من 200 نازح، ولو قدّمت لكل النازحين، بكرا ويلي بعدو شو؟”
أما الوضع الصحّي لا يبدو أرحم إنْ استمرت الأزمة، رغم جولات المتطوعين فهناك جرحى، وعُجّز، وكبار سن بالإضافة إلى أكثر من حالة أطفال حديثي الولادة اضطرت فيها الأمهات الى ترك المستشفى والنزوح بأطفال لم يبلغ عمرهم يومين وثلاثة.
ويلزمنا هنا، أن ننقل صرخة أحد أبناء خربة سلم الجنوبية، يتساءل:” شو ناطرين ليتحركوا بعد؟ بعد دم أكثر؟ قرى الجنوب كلها تدمّرت، بيوتنا نزلت على الأرض، والله أبادونا.. هيدي إبادة! شو ناطرة الدولة لتتحرّك وتسأل عن شعبها؟ أيمتى ببتدخل وبتحطّ حد؟
الحزب التقدّمي الاشتراكي: مهمّتنا وطنية وإنسانية
“ويني الدولة؟ ما شفناها؟ ما شفنا إلّا الناس.. الحزب الاشتراكي وجمعيات إجوا من بيوتهن محمّلين ثياب وحرامات وكل شي بيقدروا عليه، حطونا بعيونن وما قصروا والله”. يغمر أم علي التي نجت من قصف تفاحتا الجنوبية مشاعر حمد وامتنان رغم لوعة المآسي التي حلّت برزقها.
الكلّ لبّى النداء الإنساني، مئات الأعضاء في الحزب التقدّمي الاشتراكي والمؤسّسات الرافدة له، من منظمة الشباب التقدّمي والاتحاد النسائي والكشّاف التقدّمي وجمعية الخريجين التقدّميين وجمعية النضال من أجل حقوق الإنسان.. جميعهم هرعوا لتلبية نداء الإغاثة الإنساني، والمنسجم بالطبع مع مواقف قيادة الحزب وتوجيهاتها.
“جبلنا جبلكم وبيوتنا بيوتكم” هي إحدى الحملات التي أطلقتها منظمة الشباب التقدمي انسجامًا مع تصريحات الرئيس السابق للحزب وليد جنبلاط، لطلب يد العون من الخيرين لتأمين احتياجات النازحين.
يشير وكيل داخلية الشوف في الحزب التقدمي الإشتراكي عمر غنّام في اتصال مع المفكرة، إلى الغياب الكلّي لدعم هيئة إدارة الكوارث والمخاطر وكذلك هيئة الإغاثة، ويؤكّد: “مهمتنا إنسانية ووطنية”.
ويلفت غنام إلى بعض الدعم المقدّم من الحزب الديمقراطي والسوري القومي.. إلّا أنّه يؤكّد أنّ: “لا مجال لأي تنافس سياسي”، بل أن هناك حرص على أن تكون الدولة والبلديات حاضرة وحاضنة لتنسيق وإدارة كل الدعم، ولكنه يأسف للواقع: “بعض البلديات عاجزة عن ذلك ولكنها معذورة بسبب امكانياتها شبه المعدومة”.
“ورغم الدعم الذي يقدّمه الحزب الاشتراكي، من مواد غذائية وفرش وأغطية ووسائد ومواد تنظيف ومواد النظافة الشخصية ووجبات الأكل الجاهزة والمواد الغذائية، إضافة إلى الجولات الطبية”. يوضح غنّام: “أن الإمكانيات ليست كبيرة، وبالتالي يتم العمل على قاعدة الأهم قبل المهم”، في إشارة إلى أنّ عدد النازحين في الشوف فقط دون الإقليم قد تجاوز 4 آلاف نازح موزّعون على 23 مركزًا يأوي بحدود 650 عائلة، أما الأعداد خارج المراكز فهي أضعاف هذا العدد.
ويلفت غنّام إلى أنّ “الحزب يتابع موضوع تأمين المياه للمدارس عبر الدفاع المدني الذي يُشهد لجهوده المبذولة”. أما بالنسبة للكهرباء فتبدو الأمور غير واضحة تمامًا لكيفية التغذية والجهة التي ستتكفّل بتسديد فواتيرها، إذ يبدو الاعتماد على الطاقة الشمسية أو مولدات المدارس الكهربائية أو تغذية الإشتراكات، جميعها إن وجدت.
ويسلّط غنام الضوء على بدء وصول مساعدات حزب الله الى المنطقة، في اليوم الثالث على النزوح بكميات معقولة، ولكنه يشير إلى أنّ: “المطلوب أكثر بكثير” وأنّ “التنسيق دائم معهم للحصول على بعض الفرش والأغطية والمواد الغذائية”.
دعم المجتمع الأهلي لا يكفي أمام الحاجة الهائلة
جولة “المفكّرة” شملت على سبيل المثال لا الحصر مدارس كترمايا، عانوت وسبلين وداريا، مزرعة الشوف، وبقعاتا، وجديدة الشوف، وبعقلين والسمقانية، وبتلون وباتر ونيحا الشوفية، ومن ثم البنيه وعيناب وعاليه.. ورصدت خلايا النحل، أفرادًا وجمعيات ما هدأت، منذ فجر الإثنين، تجتمع وتنسّق وتطلق حملات التبرّع والدعم في مختلف مناطق الشوف وعاليه لتجول بدعمها على كل مراكز الإيواء بلا استثناء.
في ظل فقد الدولة المزمن، والذي يعود لعقود طويلة، اعتاد المجتمع الأهلي على إسعاف وإنعاش نفسه بنفسه. صخب المبادرات الفردية والجمعيات الأهلية يستقطب كما في مرحلة “ما بعد تفجير المرفأ” دعم الأهالي والمنظمات الدولية لإغاثة آلاف النازحين.
ولاستحالة الإحاطة بكل المبادرات الإنسانية، سنعمد إلى تسليط الضوء على بعضها المتنوّع.
يستوقفك في بعقلين مبادرة أحد أبنائها إلى إيواء 192 نازحًا، وفقًا لما نقله د. هيثم القعسماني، عضو المجلس البلدي في بعقلين ورئيس خلّية إدارة النزوح.
كما فتحت مئات البيوت أبوابها في عاليه والبنيه وعين وزين وبقعاتا الشوفية وغريفة وبعقلين… وسواها من البلدات التي احتضنت مئات العائلات النازحة، وفي المقلب الآخر رصدت “المفكرة” في جولتها صرخات بعض النازحين استنكارا لوطأة بدلات الإيجارات القاسية، حين سوّلت للبعض نفسه جشع استغلال الفرص.
وفي الإقليم والشوف سُجلت عشرات المبادرات الفردية التي خصصت في صيدليات المنطقة، حسابات بلغ مجموعها آلاف الدولارات لتغطية فواتير أدوية كبار السن، الحليب أو الفوط الصحية.. للنازحين والنازحات، كي لا يُردّ أصحاب الحاجات الماسة خائبين عند أبواب الصيدليات.
وفي الشوف، قابلت “المفكّرة” الشاب أكرم ذبيان، الذي حوّل مكتبه إلى خليّة ضمّت عشرات المتطوعين، الذين عمدوا كمئات مثلهم، إلى جمع التبرعات وتوزيعها. وفي السياق عينه كرّست سارة سري الدين وقتها ومتطوّعين ومتطوّعات لنشاط الدعم النفسي الإجتماعي علّها تخفف من وطأة النزوح على قلوب الأطفال والشباب.
وعن مبادرة شباب الشوف، أوضحت شيرين الحسنية، وهي احدى المتطوعات، أن المبادرة انطلقت منذ اليوم الأول للنزوح والتي شملت متطوعين/ ات من الشوف بالتنسيق مع ” دكانة الناس” في بعقلين، والتي تحوّلت إلى نقطة تجمّع رئيسية. كما استحدث مركزين إضافيين في منطقتي كفرحيم وبتلون.
وأفادت مصادر مطلعة على إدارة ملف النزوح في الشوف أنّ إحدى شركات المياه المعدنية وبعد تقديمها لآلاف عبوات المياه، والتي وزّعت على المدارس، قررت تقديم غالون كبير من مياه الشفة لكل عائلة نازحة وبشكل دوري.
أما اللافت في ميدان المبادرات وبعيدا عن المواد الغذائية واللوازم الأساسية التي لا بد من توفّرها عند وصول النازح الى مراكز الإيواء، كانت مبادرة جمعية فن الحياة – لبنان. وفي اتصال أجرته “المفكّرة” مع مديرة الجمعية، أوضحت دانا شمس الدين أنّ الجمعية بدأت بالتعاون مع المنظمة الدولية للقيم الإنسانية ببرامج الإغاثة النفسية للنازحين للتخفيف من آثار الصدمات، حيث تقدّم ورشة عمل الشفاء والمرونة والتمكين في المدارس الرسمية، وهي دورة مصممة لمعالجة العواقب النفسية-الاجتماعية للصدمات وتهدف إلى تزويد النازحين بالأدوات اللازمة لإدارة صحتهم النفسية والعقلية خلال هذه الأوقات الحرجة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.