في أيلول 2022، صدر قرار اتّهامي في قضيّة مقتل اللاجئ السوري بشّار عبد السعود في مركزٍ لأمن الدولة، أدّى إلى انطلاق أوّل محاكمة أمام القضاء العسكري لمتّهَمين بارتكاب جناية التعذيب بموجب قانون معاقبة التعذيب رقم 65 الصادر في العام 2017. وإذ شكّل القرار الخرق الأوّل في جدار الإفلات المُعمَّم من العقاب في جرائم التعذيب في لبنان، فإنّه أخذ في الوقت نفسه باختصاص القضاء العسكري الاستثنائي للنظر في جرائم التعذيب. وهو بذلك خالف المعايير الدولية والتوجُّهات الحقوقيّة التي تتّجه إلى إناطة النظر في جرائم التعذيب بالمحاكم العادية حصرًا.
في هذا السياق، ارتأت “المفكّرة القانونية” ضرورة البحث في أُفق المحاسبة الممكنة لقضايا التعذيب أمام القضاء العسكري. وعليه، تهدف هذه الورقة البحثية إلى المساهمة في هذا النقاش من خلال البحث في مدى صلاحية القضاء العسكري للنظر في جرائم التعذيب، والتدقيق في كيفيّة تعامله مع شكاوى التعذيب من خلال مراجعة عيّنة من خمس قضايا عُرضت أمام القضاء العسكري بعد إقرار القانون رقم 65/2017. وتأتي هذه الورقة البحثية الثانية ضمن سلسلةٍ من الأوراق التي تبحث فيها “المفكّرة” في دور القضاء العسكري في محاسبة جرائم التعذيب، تبعًا للورقة البحثية الأولى التي بحثت في مدى ضمانه لمبادئَ المحاكمة العادلة للمشتبه فيهم وللضحايا.
تستند هذه الورقة البحثية إلى مراجعة الإطار القانوني الدولي واللبناني المتعلّق بجرائم التعذيب والقضاء العسكري، وإلى مقابلات نوعية أُجريت خلال شهر تمّوز 2023 مع ستّة قضاة ومحامين وصحافيين، كما وإلى أعمال “المفكّرة” المستمرّة في رصد العمل القضائي والبرلماني. بالإضافة إلى ذلك، تستند الورقة إلى مراجعة خمس قضايا تعذيب عُرضت أمام القضاء العسكري، وهي الشكاوى المقدَّمة من زياد عيتاني (2018)، خلدون جابر وحسن شعيب (2019)، “الحدّاد” وهو اسم مستعار (2021) وعائلة بشّار السعود (2022).
الخلاصات
1-لا تزال السلطات القضائية اللبنانية متردّدة في إقرار مبدأ عدم اختصاص القضاء العسكري الاستثنائي للنظر في جرائم التعذيب، في حين تفرض المعايير الدولية والقوانين اللبنانية إخراج جرائم التعذيب من صلاحيته لعدم توافر ضمانات المحاكمة العادلة أمامه، ولاعتبارها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تخرج عن إطار الوظيفة الرسمية؛ فباستثناء بعض المواقف القضائية القليلة الداعية إلى تكريس صلاحية القضاء العدلي (قضيّة عيتاني)، ذهبت سائر قرارات النيابات العامة التمييزية والعسكرية وقضاة التحقيق، التي تمّ رصدها، في اتّجاه إرساء اختصاص القضاء العسكري للنظر في معظم شكاوى التعذيب، وذلك من دون أيّ تبرير، أو من خلال اعتماد تفسير للنصوص القانونية على نحوٍ يتعارض مع الاتّفاقيات والمواثيق الدولية والمبادئ القانونية العامة.
2-يخالف القضاء العسكري قانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017 والمعايير الدولية بهذا الشأن بشكل ممنهَج، ممّا يحول دون محاسبة مرتكبي التعذيب أو جبر ضرر الضحايا. ويساهم ذلك في التطبيع مع ممارسات التعذيب وتعزيز ثقافة العنف والإفلات من العقاب في الأجهزة العسكرية والأمنية. وقد تبيّن ذلك من الأمور الآتية:
2.1-في حين شكّل التحقيق في مقتل اللاجئ السوري بشّار السعود في مركز مديرية أمن الدولة حالة استثنائية لجهة السرعة والجدّية في التحقيق، خالف القضاء العسكري موجب التحقيق السريع والنزيه في معظم إخبارات وشكاوى التعذيب التي وصلت إلى علمه. فقد امتنع عن إجراء تحقيقات جدّية فيها أو تأخّر في المباشرة فيها، وتاليًا في حفظ الأدلّة وتوثقيها على نحوٍ أدّى غالبًا إلى زوال آثار التعذيب وإلى حرمان الضحايا من حقّهم في الانتصاف القانوني.
2.2-تخالف النيابة العامة العسكرية، بشكل ممنهَج، حظر الاستعانة بالأجهزة الأمنية لإجراء التحقيقات في قضايا التعذيب على نحوٍ يؤدّي إلى وضعها في عهدة الأجهزة المشتبه بضلوعها في التعذيب، ويضع الضحايا في خطر التعرّض للمزيد من العنف.
2.3-لم يتّخذ القضاء العسكري إجراءات كافية لحماية ضحايا التعذيب من استمرار أعمال التعذيب بحقّهم، ومن مضايقات الأجهزة، ومن إفشاء سرِّية التحقيقات والمسّ بقرينة البراءة، في حين أنّه اتّخذ إجراءات تهدّد استقلالية المحامين الذين يتولّون الدفاع عن ضحايا التعذيب.
2.4-لم يلتزم القضاء العسكري بموجب عدم الاستناد إلى الأقوال التي تمّ الإدلاء بها تحت التعذيب بشكل كافٍ.
2.5-لم يعمد القضاء العسكري إلى تقديم التسهيلات الكافية لتمكين ضحايا التعذيب من المشاركة في إجراءات التحقيق والمحاكمة للمتَّهمين في ارتكاب جرائم بحقّهم، إذ امتنع أحيانًا عن إبلاغهم بنتيجة التحقيقات وعن تزويدهم بمستندات تتعلّق بقضاياهم.
ابرز التوصيات
انطلاقًا من ذلك، وبهدف ضمان المحاسبة في جرائم التعذيب، تقدّم الدراسة عددًا من التوصيات للسلطات اللبنانية، أبرزها:
أوّلًا: إلى مجلس النوّاب: تعديل قانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017، بهدف ملاءمته مع الاتّفاقية الدولية لمناهضة التعذيب ومع المعايير الدولية، لا سيّما لجهة توسيع تعريف التعذيب وإقرار صلاحية القضاء العدلي للنظر في جرائم التعذيب، وكذلك الإقرار بمبدأ عدم سريان مرور الزمن عليها، وتنظيم الإجراءات المسلكية والتأديبية التي تتّخذها الأجهزة العسكرية والأمنية في قضايا التعذيب بهدف ضمان فعالية التحقيقات القضائية.
ثانيًا: إلى السلطات القضائية العسكرية والعدلية
1-تفسير النصوص القانونية في اتّجاه الإقرار بعدم صلاحية القضاء العسكري الاستثنائي للنظر في جرائم التعذيب، وإحالة جميع قضايا التعذيب أمام القضاء العدلي العادي سندًا للمادّة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وذلك ضمانًا للحقّ في المحاكمة العادلة للمتّهَمين بالتعذيب، والحقّ في المشاركة في إجراءات التحقيق والمحاكمة للضحايا.
2-الالتزام بالعمل جدِّيًّا لوضع حدّ لنظام الإفلات من العقاب في جرائم التعذيب وتطبيق قانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017، لا سيّما لجهة إجراء تحقيقات سريعة في أيّ معلومات ترِد حول حصول أعمال التعذيب، بما فيها الشكاوى والإخبارات وإفادات المدّعى عليهم، والامتناع عن الاستعانة بالأجهزة الأمنية لإجراء هذه التحقيقات وعن الاستناد إلى الإفادات التي تمّ الإدلاء بها نتيجة أعمال التعذيب، والعمل على توثيق الأدلّة والمحافظة عليها بما يتلاءم مع مبادئ “بروتوكول إسطنبول”.
3-الالتزام بإيجاد بيئة قضائية ملائمة لضمان حقوق ضحايا التعذيب، تأخذ بعين الاعتبار وضعهم النفسي، وتعترف بمعاناتهم، وتضمن حقّهم في المشاركة في الإجراءات القضائية وفي الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بقضاياهم، كما تضمن حمايتهم من أيّ تخويف أو تضييق ناتج من تعرّضهم للتعذيب أو كشفهم عنه.
ثالثًا: إلى قيادات الجيش والأجهزة الأمنية: الالتزام ببذل جهود جدّية للقضاء على ثقافة العنف والتعذيب المُعمَّمة داخل المؤسَّسات، وبتطبيق قانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017 والمادّة 47 من أصول المحاكمات الجزائية وأصول التوقيف والتحقيق والاحتجاز ومدوّنات السلوك، وباتّخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمنع أعمال التعذيب ومعاقبتها، حمايةً لها وللمجتمع.
لتحميل الدراسة بصيغة PDF
للاطلاع على الملخص باللغة الانكليزية