في 2009، نشر سامر غمرون ونزار صاغية، وهما من مؤسسسي المفكرة، دراسة بعنوان: “التحركات الجماعية في لبنان” ضمّ توثيقا لتجارب منسية من تحركات القضاة في فترة (1969- 1982). وقد نشرت هذه الدراسة ضمن كتاب “حين تجمع القضاة” ضم أعمال مؤتمر انعقد تحت التسمية نفسها في بيروت في 2008 بحضور أكاديميين وقضاة عرب تحدثوا فيه عن تجارب تحركات قضائية في المنطقة العربية، وتحديدا في مصر والعراق وتونس والمغرب والجزائر. وقد لاحظ الكاتبان في مستهلّ دراستهما أن “مراجعة الخطاب الاصلاحيّ للقضاء في زمن ما بعد الحرب تظهر بوضوح تركيزا على الإصلاحات التي تضعها الدولة أو مؤسّساتها الرسميّة فيما يظهر القاضي دوما محلا لإصلاح يتلقّاه دون أن يكون له أيّ دور فاعل فيه. والواقع أن هذا التوجه لم يكتفِ فقط بتهميش “التحرّكات القضائية الجماعيّة” كآليّة من شأنها الإسهام في إصلاح القضاء، إنما أيضا –وهنا الغرابة- بطمس ذاكرة القضاء بهذا الشأن، وتحديدا بما يتّصل بالتحرّكات الواسعة التي شهدها في العقود السابقة للطائف”.

منذ نشر هذه الدراسة، تغيرت الأمور كثيرا في المنطقة العربية، وخصوصا في المغرب وتونس، حيث نجح القضاة هنالك، بفعل تحركاتهم الجماعية الحاصلة بعد 2011، في فرض اشكالية استقلال القضاء في الخطاب العام، وفي انتزاع قوانين تعزز ضماناته إلى درجة كبيرة في هذين البلدين. ومع انخراط القضاة اللبنانيين في عدد من الاعتكافات في 2017 و2018، عادت التحركات القضائية، بما تستدعيه من أسئلة، لتطفو على السطح، خصوصا أن السبب الأساسي لهذه الاعتكافات تمثل في الدفاع عن أحد أهم مكاسب التحركات القضائية الحاصلة في فترة (1969-1982)، وهو صندوق تعاضد القضاة وما يتيحه للقضاة من ضمانات اجتماعية في مجالات الصحة والتعليم والسكن. وقد بلغ هذا التحرك الجماعي أوجّه مع التحركات الحاصلة في آذار 2018 والتي أدت إلى تحقيق جزء من مطالب القضاة بهذا الخصوص، بعدما اضطر التحرك القضائي على مواجهة ليس فقط السلطات السياسية، بل أولا الهرمية القضائية المتمثلة في مجلس القضاء الأعلى. وقد تكلّلت هذه الحراكات بتأسيس نادي قضاة لبنان في آخر نيسان 2018.

وعليه، ارتأت المفكرة القانونية أن تعيد نشر فصول دراسة مؤسسيها حول التحركات الجماعية للقضاة، في سياق مساهمتها في دعم استقلال القضاء وإعادة إحياء ذاكرته، بعدما استكملتها بتوثيق مجمل تحركات القضاة في فترة ما بعد الطائف.

وقد تم إعادة النظر في المعايير المعتمدة لتبويب المواد: ففيما كان التقسيم السابق يعتمد بالدرجة الأولى على خصائص التحرك، اعتمدنا في التقسيم الجديد معيار الوضع السياسي والاجتماعي السائد. وعليه، ميزنا التحركات الحاصلة في فترة الوصاية السورية عن التحركات الحاصلة بعد انتهاء هذه الوصاية، لننتهي  إلى الأقسام الآتية:

الأول، يتناول فترة ما قبل الحرب، وتحديدا ما سمي الفترة الذهبية في لبنان، حيث ارتبطت التحركات القضائية الحاصلة بنية تطوير المؤسسة القضائية والإعلاء من شأنها.

الثاني، يتناول التحركات الحاصلة خلال الحرب وفي الفترة التي أعقبتها مباشرة، حيث رمت الجهود إلى تصحيح أوضاع القضاة تبعا لتراجع العملة الوطنية وتراجع مكانة القضاء وتنامي فضاءات اللاقانون، وفي ظل ضعف السلطة التنفيذية. وقد غلب على هذه التحركات الطابع النقابي المطلبي ولكن أيضا الظرفي.

الثالث، يتناول التحركات (أو بالأحرى اللاتحركات) الحاصلة بعد اتفاق الطائف في ظلّ الوصاية السورية (1991-2005). وقد تميزت هذه المرحلة في إرساء نظام شمولي، تتغلغل فيه السلطة الحاكمة (ورأسها النظام السوري) في جميع مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسة القضائية في موازاة ضعف الحراكات الاجتماعية وتعرضها للقمع. ورغم بروز تحديات كبيرة في هذه الفترة (أبرزها انهيار العملة اللبنانية والقيمة الشرائية للرواتب واستدعاء القضاة الشبان لخدمة العلم)، فإن تحركات القضاة بقيت عموما خجولة، في ظل خطاب قيمي يهيمن عليه موجب القضاة بالتحفظ ولزوم الصمت، وهو خطاب تكرس في مدونة الأخلاقيات القضائية الصادرة في سنة 2005. وعليه، بات التحدي الأساسي في هذه الفترة امكانية المحافظة على الحدّ الأدنى من المكاسب والاستقلالية، الأمر الذي يفسّر ربما تمسك القضاة بمرجعية مجلس القضاء الأعلى، رغم التدخلات الكبيرة الحاصلة في أعماله، وذلك اتّقاءً للأسوأ.

الرابع، يتناول التحركات الحاصلة بعد انسحاب الجيش السوري (2005-الآن..). وقد تميزت هذه المرحلة في إرساء نظام تقاسم السلطة والمحاصصة (حكم الزعماء) وتاليا تبعثرها بعد زوال الرأس. وفيما ضعفت تبعا لذلك السلطة الحاكمة، فإنها سعت إلى تعويض هذا الضعف من خلال انتهاج الشمولية “شمولية المحاصصة الطائفية” في مختلف مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها القضاء.

وقد أدّى هذا النهج إلى تظهير هوية القضاة الطائفية بعدما باتت عاملا أساسيا في تحديد مساراتهم المهنية، مع تحويلها إلى أداة لحثّ القضاة على الارتباط بدرجة أو بأخرى بمرجعيات سياسية من طوائفهم. وعليه، تمثّل التحدّي الأبرز في هذه الفترة في إيجاد بيئة مهنية من شأنها إنتاج مفعول معاكس، أي إعادة الاعتبار للهوية المهنية وما تفرضه من أخلاقيات وتغليبها على الهوية الطائفية وما يتصل بها من منافع وامتيازات. وهذا ما يبرر ربما محاولات القضاة المتكررة ولو المتقطعة لمأسسة أشكال جديدة من التضامن فيما بينهم. وقد تجلى ذلك بشكل خاص في الحديث المتكرر عن إنشاء جمعية، بما يربط مع تحركات الستينيات.

وقبل المضي في عرض هذه الدراسة، تجدر الإشارة إلى أننا اعتمدنا فيها تعريفا واسعا للتحرّكات الجماعيّة بحيث يشمل أيّ تحرّك يقوم به عدد من القضاة بصفتهم تلك بما يتجاوز ما تفرضه عليهم وظائفهم المحددة قانونا. وتاليا، هو يشمل ليس فقط إنشاء جمعيات أو التجمع، لكن أيضا توقيع البيانات والعرائض. وهذا التوسع في التعريف يسهم برأينا بتكوين فكرة أوضح عن شروط هذه التحركات ولا سيما لجهة مدى حاجة القضاة إليها أو مدى استعدادهم للقيام بها. بالمقابل، استبعدنا من التعريف مساعي السلطات السياسية أو القضائية في تجميع القضاة، كدعوتهم إلى جمعيات عمومية، ليس بهدف التباحث إنما فقط بهدف إملاء توجه معين عليهم. وهذا مثلا حال العديد من الجمعيات العمومية التي دعا إليها مجلس القضاء الأعلى لتعميم مدونة السلوكيات القضائية (2005) أو للاحتجاج على عدم تعيين أعضاء في مجلس القضاء الأعلى (2006) أو أيضا للاحتجاج على تطرق برامج تلفزيونية للقضاء (2008).

للإطلاع على الدراسة:  حين تجمّع القضاة في لبنان.