في 20 نوفمبر 2014، عقد المجلس الوطني التأسيسي جلسة عامة لاختتام أعماله والتوقيع على نسخة خطية متميزة من الدستور من قبل كل أعضائه، إيذاناً بتسليم سلطة التشريع لأول مجلس نيابي منتخب بعد ثورة 14 جانفي 2011. وبذلك، طوت تونس مرحلة تأسيسية أصلية ثانية من تاريخها (بعد المرحلة الأولى التي امتدت من 1956 إلى 1959 وانتهت بصدور دستور الجمهورية التونسية في الأول من جوان 1959).
ويجدر اليوم أن ننظر إلى عمل المجلس التأسيسي بكل موضوعية وتجرد لتقييم دوره التشريعي والتأسيسي والإداري بإيجابياته ونواقصه ومواطن قوته وضعفه ومدى إيفائه بالتزاماته.
نجاحات المجلس
حقق المجلس الوطني التأسيسي خلال فترة عمله نجاحات هامة لا يمكن إنكارها. فرغم سيطرة حزب حركة النهضة عليه بفعل المقاعد التي حازها فيه وتحالفاته مع قوى حزبية علمانية، بقي المجلس خليطاً من كل التوجهات السياسية والإيديولوجية المختلفة والمتنافسة وحتى المتناقضة والمتصارعة. وبذلك، تمثل نجاح هذا المجلس في تحوّله الى فضاء للحوار التأسيسي الحر، وهو نجاح لكل مكوّناته في التعايش والتحاور المنتج. ومن هنا، تتميز هذه التجربة التأسيسية عن التجربة السابقة للمجلس القومي التأسيسي (مجلس 1956/1959) والذي كان عموماً ذا لون سياسي وإيديولوجي واحد ومنبثقاً عن قائمات حركة الدستور.
المجلس التأسيسي “حلبة” حوار أصلي
كان الذهاب إلى المجلس التأسيسي خياراً صعباً وفيه مجازفة كبرى. فتحديد الخيارات الكبرى وتضمينها في أسمى نص قانوني في البلاد لم يكن مهمة سهلة في ظل الاختلافات الجوهرية بين مكوّنات المجلس. ولا يمكن أن ننسى الوقت الطويل الذي استغرقته النقاشات المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة ومدنية الدولة وحرية الفكر والضمير ودور رئيس الجمهورية الخ… وكانت كلها نقاشات أصلية تمكنت كل مكوّنات المجلس وخاصة المعارضة منها من أداء دور أساسي للخروج من عديد المآزق الإيديولوجية في اتجاه الوصول الى تفاهمات وسطية هامة.
المجلس التأسيسي والمجتمع المدني
كان لانفتاح المجلس على المجتمع المدني الأثر الإيجابي على سير أعماله من ناحية وعلى مضمون عديد النصوص القانونية الصادرة عنه بما فيها الدستور الجديد من ناحية أخرى. وقد أكد هذا المنهج إمكانية التقارب بين المجتمعين السياسي والمدني، وهو منهج عمل من شأنه إن تواصل في عمل المجالس النيابية القادمة أن يؤسس للديمقراطية التشاركية.
الدستور الجديد
وفى المجلس بالتزامه الأساسي والأهم وهو صياغة دستور جديد للجمهورية التونسية. وقد اختارت الأغلبية في المجلس أن تخط الدستور انطلاقاً من ورقة بيضاء وهو ما صعّب المهمة وعقّدها وأطال مراحلها. ولكن هذا النوع من التمشي عزز بالمقابل الحوار الجدي والأصلي حول المسائل الأساسية والجوهرية في الخيارات الوطنية الآتية والمستقبلية كما سبق بيانه. وكانت الصبغة التوافقية التي تطبع أغلب فصول الدستور انعكاساً لهذا التمشي الصعب.
ماذا عن القوانين الأساسية؟
هل وفى المجلس التأسيسي بتعهداته التشريعية؟ الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تكون إلا جزئية، ذلك أن المجلس الذي أقر لنفسه صلاحيات تشريعية واسعة وفي جميع المجالات بموجب القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 بتاريخ 16 ديسمبر والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية، لم يصدر إلا القوانين المتعلقة بالمسائل الأساسية، بينما فوّت المجلس عديد الفرص لإصدار قوانين هامة أخرى كان يمكن أن تساهم بصفة إيجابية في الحياة الاجتماعية والسياسية والأمنية للبلاد.
ومن القوانين الأساسية التي نجح في إصدارها، القوانين المتعلقة بالانتخابات وخاصة القانون عدد 23 لسنة 2012 بتاريخ 20 ديسمبر 2012 والمتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات وكذلك القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات والاستفتاء )القانون المؤرخ في 01 ماي2014). كما صدر القانون الأساسي عدد 43 في 21 أكتوبر 2013 والمتعلق بإحداث الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب وهو نص أساسي من شأنه تعزيز منظومة حقوق الإنسان ومجابهة خرق حقوق المواطن، خاصة الموقوفين والمساجين. وفي رصيده أيضاً، القانون المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها )القانون عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013).
هذه النصوص القانونية الهامة كانت تحتاج أيضاً إلى وجوب إحداث هيئات ضامنة للحقوق والحريات من ناحية وتكوينها وتفعيلها من ناحية أخرى. وفي هذا الإطار، أدى المجلس التأسيسي دوراً أساسياً في إحداث عدة هيئات ضامنة ومعدلة أهمها الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي بموجب القانون الأساسي عدد 13 لسنة 2013 المؤرخ في 2 ماي 2013، هذه الهيئة التي تلعب دور المجلس الأعلى للقضاء المؤقت والتي ساهمت في الإشراف الجدي على القضاء العدلي وإرساء قواعد وتقاليد ديمقراطية في ترقية القضاة ونقلهم واختيار رؤساء المحاكم العدلية العليا والإشراف على افتتاح السنة القضائية ليصبح حدثاً قضائياً هاماً لا سياسياً. كما أقر المجلس التأسيسي أيضاً إحداث الهيئة الوقتية لرقابة دستورية مشاريع القوانين بموجب القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014، والتي حصر المجلس دورها في رقابة دستورية مشاريع القوانين التي يعرضها عليها النواب ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. ويسجل هنا أن المجلس لم يمكن هذه الهيئة من التعهد التلقائي بمشاريع القوانين، فلم تنظر حتى الآن إلا في مشروعين هما مشروع قانون الانتخاب والاستفتاء ومشروع قانون الطاقة المتجددة، فأقرت دستورية الأول وعدم دستورية الثاني. وإلى جانب إقراره وإحداثه لهيئات تعديلية وضامنة، كان المجلس التأسيسي هو الذي اختار وانتخب أعضاء هيئتين من الهيئات التي أحدثها وهما هيئة الانتخابات وهيئة الحقيقة والكرامة.
بالمحصلة، وفى المجلس التأسيسي بجانب كبير وهام من تعهداته. فما هي إخفاقاته ونقائصه؟
إخفاقات المجلس ونقائصه
إن المجلس التأسيسي وبكونه الهيئة السياسية الأولى في البلاد كان عرضة لصراعات سياسية وإيديولوجية عدة أثرت على مردود عمله في عديد المجالات.
على المستوى الاجتماعي
يلاحظ الإخفاق الأول للمجلس في تلك الصورة التي انطبعت في الأذهان بعدم قدرته على طمأنة المواطنين في حقوقهم من ناحية وفي معاشهم من ناحية أخرى. فلم تصدر عنه أية نصوص قانونية كبرى في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، فيما بقي نتاجه جد محدود المجال الثقافي. واكتفى دوره في هذا الإطار بمحاولات ترقيعية لفئة واحدة تقريباً وهي فئة ضحايا استبداد النظام السابق وحصرها بالأساس في المتمتعين بالعفو العام. وصدر في هذا السياق القانون عدد 4 لسنة 2012المؤرخ في 22 جوان 2012 والمتعلق بأحكام استثنائية للانتداب في القطاع العمومي. وقد أدى هذا القانون إلى انتدابات عشوائية في الوظيفة العمومية غلبت الانتماءات السياسية للمنتدبين على مصلحة الإدارة نفسها من ناحية وعلى حق فئات أخرى من المجتمع في الانتداب وخاصة الشباب حاملي الشهادات العليا والذين لم يجدوا في عمل المجلس التأسيسي وما صدر عنه من قوانين ما يتوافق مع مطالبهم وطموحاتهم.
هذا الانطباع غلب على الصورة التي يحملها الجميع عن المجلس التأسيسي الذي انغمس في الحقوق المدنية والسياسية (الحقوق المدنية والسياسية من ناحية وكيفية توزيع السلط وتقاسم السلطة) وأغفل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية واكتفى في هذا الإطار بتكريس آلية مساءلة الحكومة عن سياساتها المالية والاقتصادية.
على المستوى التشريعي
في هذا المجال، لم يتولّ المجلس التأسيسي التشريع في كل المجالات التي عهد بها لنفسه في القانون التأسيسي عدد 6 الذي نظم به صلاحياته وصلاحيات السلط الأخرى. فبالرغم من مشاريع النصوص القانونية العديدة التي أودعت لديه، لم يتطرق المجلس إلى أغلبها وأخفق عند التطرق لبعضها في إنجاز صيغها النهائية وإقرارها[1]. ومن أهم هذه النصوص التي لم تُدرج في جدول أعمال الجلسة العامة للمجلس: مشروع قانون تنقيح قانون حماية الأراضي الفلاحية ومشروع قانون الإجراءات المساندة للناشطين في قطاع الفلاحة والصيد البحري، ومشروع قانون يتعلق بتنظيم مهنة العدول المنفذين وكذلك مشروع قانون مجلة الاستثمار. وبالرغم من الحاجة الملحة لقانون شامل وحديث لمكافحة الإرهاب، فإن المجلس لم يول هذا النص أهمية إلا قبل أسابيع من انطلاق الحملة الانتخابية التشريعية، ففضل إنجازه.
على المستوى المؤسساتي
يطغى الطابع السياسي في أحيان عديدة على عمل المجلس، سواء عند إحداث الهيئات أو خاصة عند اختيار وانتخاب المترشحين لها. وهو ما لمسناه في عدة مناسبات، حيث يعمد المجلس وتحديداً اللجان المكلفة بفرز الترشحات واختيار المترشحين إلى الأخذ بعين الاعتبار التوازنات السياسية المكونة للمجلس وهو ما قد يؤدي إلى عدم تشكيل هيئات هامة حتى تاريخه. فبالرجوع إلى القوانين المنظمة للهيئات المحدثة، نلاحظ أن تركيبة لجان فرز الترشحات تعكس دائماً تركيبة المجلس نفسه أي أن عدد أعضاء اللجان يكون متماشياً مع الأغلبية والأقلية داخله، وهو ما سيؤثر سلباً على تشكيل هذه الهيئات. ثم إن التصويت في الجلسة العامة يمكن أن يؤثر أيضاً وأن يسيّس تركيبة الهيئات، وقد بلغ هذا الإشكال درجات من التعقيد عطل لمدة شهور طويلة تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات وأدى إلى عدم تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة التعذيب بالرغم من انطلاق فتح الترشحات لعضوية هذه الهيئة منذ نوفمبر 2013.
وبنهاية فترة عمله التي دامت ثلاث سنوات، يكون المجلس الوطني التأسيسي قد وفى بأهم التزاماته السياسية والدستورية ولكنه أخفق على المستويات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية. وهو ما حتّم أثناء فترات الأزمات الكبرى تدخل الأطراف الاجتماعية والحقوقية، فيما أطلق عليه الرباعي الراعي للحوار لتحويل الديمقراطية من مجرد ديمقراطية نيابية إلى ما يقترب من نموذج الديمقراطية التشاركية التي يمكن أن تمثل الحل في الديمقراطيات الناشئة.
٭ دكتور في القانون و مسؤول ماجستير قانون البيئة في جامعة تونس