عشرات الأفكار مرّت في بالهم قبل أن يقرّروا الالتحاق طوعاً بفريق "كورونا" في الصليب الأحمر، عشرات الأفكار راودتهم أيضاً عندما ارتدوا فيها أول مرّة بدلة الحماية القصوى قبل توجّههم إلى نقل أوّل شخص مشتبه في إصابته بفيروس "كورونا"، إنهم المسعفون المتطوعون في الصليب الأحمر اللبناني.
تدرّب هؤلاء بحرفيّة عالية على التعامل مع الفيروس، وهم يتّبعون أقصى درجات الوقاية منه، إلّا أنّه لم يكن سهلاً عليهم في البداية تجاوز رهبة وباء ضرب العالم، فمنهم من لم ينم في الليلة الأولى التي تلت نقله مشتبهاً في إصابته، ومنهم من عاش لحظات قلق لم يختبرها من قبل. أما اليوم وبعد مرور أكثر من شهر على تطوّعهم وبعد نقلهم مئات الحالات المشتبه فيها باتوا أكثر إصراراً على إتمام واجبهم وأكثر يقيناً بأنّ قرارهم بالتطوّع مع الصليب الأحمر ومن ثمّ التطوع في فريق "كورونا" كان صائباً، كما أكد المتطوّعون الذين التقتهم "المفكرة القانونية".
… إلى ما وراء الواجب
لم يكن قرار التطوّع في فريق "كورونا" سهلاً بالنسبة لسعاد أبي إسحق (26 عاماً)، رئيسة فرق الإسعاف والطوارئ في مركز الصليب الأحمر في الكورة، ولكنه لم يأخذ منها الكثير من التفكير. وتقول في حديث مع "المفكرة القانونية": " تطلّب الأمر لحظات، مرّ خلالها في بالي الكثير من الأسئلة والمخاوف، فماذا لو نقلنا، نحن الذين نسارع لنجدة الآخرين، الفيروس إلى أعزّ الناس على قلوبنا، إلى أمهاتنا وآبائنا أو ربما إلى أولادنا، وماذا إذا أُصبنا ولم نستطع إكمال واجبنا".
تتحدث أبي إسحق عن اندفاع وحماسة كبيرين يسيطران على معظم المتطوّعين في فريق "كورونا" وعن اطمئنان وثقة في النفس وفي مؤسسة "الصليب الأحمر" إلّا أنّهم بشرٌ في نهاية المطاف، فلا يخلو الأمر من لحظات خوف على أهلهم وعلى بعضهم البعض وتقول: "طبعاً هناك أفكار مقلقة تمرّ في بالي، هناك خوف على المسعفين والمسعفات، أفكر كيف يمكن أن يتلقّى الأهل خبر إصابة ابنهم المتطوّع بفيروس "كورونا"، الأمر ليس بسيطاً".
تشبّه أبي اسحق قرار تطوعها في فريق "كورونا" بقرار انتسابها إلى الصليب الأحمر، فهي عندما قرّرت خوض تجربة التطوّع في هذه المؤسسة قبل سبع سنوات كانت تعرف جيداً معنى شعار هذه المؤسسة "إلى ما وراء الواجب"، وعند انتشار وباء "كورونا" أحسّت بضرورة الذهاب إلى ما وراء الواجب ودخول فريق "كورونا" والذي لم يكن إجبارياً.
ليس "الواجب" هو الدافع الوحيد لاتخاذ هذا القرار، فمعرفة أبي إسحق بأنّ هذه المؤسسة تؤمّن لها أفضل سبل الوقاية والتدريبات للتعامل مع هذا الوباء عند نقل أي مريض، كان أيضاً عنصراً مطمئنا لها، ساعدها على تجاوز أيّة مخاوف قد تراودها.
حياة أبي اسحق، وهي مدرّسة مسرح، كغيرها من المتطوّعات تغيرت بعد ظهور "الوباء"، علاقتها بمحيطها لم تعد كالسابق، فالمسؤولية كبيرة كما تقول، ولاسيما أنّها تعيش في منزل والديها في ما يشبه حجراً غير معلن تفادياً لإشعار من معها في المنزل بأي قلق أو خوف، فعندما تتواجد في المنزل تحرص على البقاء في غرفتها ومراعاة جميع التدابير الوقائية، كما أنها لا تخبر هي ورفاقها المتطوعون من حولهم عند الخروج في أيّة "مهمة كورونا".
تقضي أبي اسحق معظم وقتها في مركز "الصليب الأحمر" الذي بات بيتها الثاني، تتأكد هي ورفاقها من جهوزيته، يستعدون لأيّ مهمة قد تطلب منهم ويتسابقون على تلبية النداء، يتعاملون مع الأمر بعيداً من منطلق الواجب وباندفاع إنساني لا يخلو من الوعي بضرورة الحفاظ على سلامتهم حتى لا يضطرون للتوقف عن العمل.
دعم المحيط أساسي
الثقة بالمؤسسة التي تطوّع فيها منذ العام 2001 كانت الأمر الذي حسم قرار محمد محمود صالح (35 عاماً) حين فكّر بالالتحاق بفريق "كورونا"، والقرار لم يكن سهلاً عليه أيضاً إذ يقول: "الفيروس جديد، وربما هذه أول مرة نجابه فيها في لبنان وباء على صعيد وطني، الخوف من الفيروس كان موجوداً وكان عقبة أمام حسم قراري، ولكنّ اندفاعنا الإنساني كمتطوعين وثقتنا بالصليب الاحمر كانا أقوى من الخوف".
الخوف الذي تخطّاه محمد لم يكن خوفاً على نفسه فقط، بل على زوجته وولديه الصغيرين، وعلى والدته التي تعاني من أمراض مزمنة، كما يقول في حديث مع "المفكرة القانونية"، شارحا أنّ هؤلاء الذين يخاف عليهم كانوا أنفسهم أيضاً دعماً له، فشجّعوه على الالتحاق بفريق "كورونا" وتحمّلوا تبعات الأمر، فعلاقته بهم لم تعد كما كانت في السابق.
منذ التحاقه بفريق "كورونا" توقّف محمد، وهو رئيس مركز الصليب الأحمر في بلدة الأنصارية الجنوبية، عن زيارة والدته، يكلّمها عبر الهاتف ليطمئن عنها، وحين يسمع صوتها يشعر بشيء من الحزن ولكنها تسارع إلى تشجيعه ودعمه فيرتاح ويشعر بدافع أكبر للاستمرار.
ليس من السهل على محمد عدم رؤية والدته ولكنّ تفهّمها للموضوع يسهل الأمر، لتبقى المهمة الأصعب مع ابنه (6 سنوات) وابنته (3 سنوات)، فهو يحاول إفهامهما لماذا لم يعد بإمكانه ضمهما وتقيبلهما كما اعتاد أن يفعل قبل التحاقه بفريق "كورونا"، الأمر الذي يتعاون فيه مع زوجته التي كانت أيضاً متطوّعة في الصليب الأحمر.
محمد أيضاً كغيره من المتطوّعين يُمضي معظم أوقاته حالياً في مركز الصليب الأحمر، ولا يذهب إلى عمله حالياً كتقني أشعة سينية "إكس راي"، ولكنه يؤكد أنّه سعيد باختياره وأنّ كلّ ما يتمناه أن ينجح لبنان والعالم في احتواء الأزمة الحالية، وأن يكون هو وكلّ شخص من موقعه يقوم بالدور المناط به في هذه المحنة.
الصليب الأحمر جاهز في الصفوف الأمامية
منذ ظهور أول حالة "كورونا" في لبنان حتى اليوم، جهّز الصليب الأحمر 36 مركزاً من للإستجابة على كافة الأراضي اللبنانية، إضافة الى 11 مركزاً رديفاً جاهزاً للاستجابة عند الحاجة، ومنذ ظهور أول حالة "كورونا" في لبنان إلى اليوم، نقل 826 حالة مشتبه في إصابتها بـ"كورونا".
من اللحظات الأولى كان الصليب الأحمر اللبناني في الصفوف الأولى، عبر مسعفين بلغ عددهم حاليا 1170 مسعفاً مدرّباً و520 متطوعاً متدرّباً على التوعية، وتتطلب كل عملية نقل مشتبه فيه مسعفين اثنين إلى ثلاثة.
ويرتدي المسعفون في مهمات الكورونا بدلة الحماية القصوى وبدلة الحماية المتوسطة في جميع المهام الأخرى.
ويؤمّن الصليب الأحمر كلّ ما يحتاجه المتطوّع من تدريبات وتجهيزات عالية الجودة تضمن سلامته وسلامة رفاقه في العمل، فقد خضع هؤلاء المتطوّعون إلى دورات تدريبية على سبل الوقاية وكيفية ارتداء الملابس الواقية ونزعها وكيفية التصرّف مع الحالات المشتبه فيها أثناء الاستجابة.
كما جهّزت المؤسسة أماكن لحجر وعلاج المسعفين في حال انتقال العدوى إليهم، مع الإشارة إلى أنه حتى اللحظة ليس هناك أيّة إصابة في صفوف المسعفين .
بالإضافة إلى ذلك يقدّم الصليب الأحمر الدعم والمتابعة النفسية للمسعفين الذين قد يعيشون حالات من القلق نتيجة تعاملهم مع وباء مثل "كورونا"، ومع احتكاكهم اليومي مع أشخاص يواجهون حالات صحية صعبة قد تترك آثاراً نفسية عندهم.