حول حركة 18 أكتوبر: مُراجَعة كتاب “اليسار والإسلام السّياسي أو النّزَاع العالق”


2024-10-21    |   

حول حركة 18 أكتوبر: مُراجَعة كتاب “اليسار والإسلام السّياسي أو النّزَاع العالق”

تفصِلُنا اليوم 19 سنة على “حركة 18 أكتوبر”، التي نَالَت اسمها من تاريخ الإضراب عن الطعام الذي خَاضَه عدد من المعارضين التونسيين المُستقلّين والمُنتمين لأحزاب سياسية مختلفة المشارب، في 18 أكتوبر 2005، في مكتب المحامي والمناضل السياسي والحقوقي العياشي الهمامي وسط العاصمة التونسية. تَزامنَ الإضراب مع استقبال نظام بن علي قمّة مجتمع المعلومات في تونس، ورفَع خلاله المُضرِبون ثلاثة مطالب أساسية: حرية الصحافة والتعبير، الحق في التنظّم الحزبي والجمعيّاتي، إطلاق سراح كل سجناء السياسة والرأي عبر عفو تشريعي عام. وشَاركَ فيه كل من أحمد نجيب الشابي (الحزب الديمقراطي التقدمي) والعياشي الهمامي (مستقل) وحمّه الهمامي (حزب العمال الشيوعي التونسي) ولطفي الحاجي (صحفي وناشط سابق في مجموعة 15-21) وسمير ديلو (حركة النهضة الإسلامية) وعبد الرؤوف العيادي (حزب المؤتمر من أجل الجمهورية) ومختار اليحياوي (قاضs مستقل) ومحمد النوري (التحق بالإضراب بشكل غير متوقع، هو رئيس الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين).

منذ استحواذ الرئيس سعيّد في 25 جويلية 2021 على كل السلطات وحَلّه البرلمان والحكومة، وعودة حركة النهضة الإسلامية شيئا فشيئا إلى تقَاسم فضاء المُعارضَة مع بقية المكونات السياسية الدّيمقراطية واليسارية، عَادَ من جديد اسم “حركة 18 أكتوبر” للتّداوُل في النقاش السياسي العام وباتَ يتردد بشكل قَصدي على لسان الكثير من أنصار الرئيس سعيّد القادمين من الحلقات اليسارية، الذين يُندّدون بوجود “تحالف” خفيّ بين جزء من قوى اليسار والإسلاميين، يُشبِه في رأيهم ما حدث في 18 أكتوبر 2005. ضمن هذا السياق الاسترجاعي الذي لا يخلو من التشوّهات التاريخية والسياسية والإيديولوجية، يبدو من المفيد العودة إلى حركة 18 أكتوبر وقراءة وقائعها ودلالاتها وتمثّلاتها، لذلك يُشكّل كتاب الباحث والمترجم التونسي هشام عبد الصمد “اليسار والإسلام السياسي أو النزاع العالق: حول حركة 18 أكتوبر 2005” الذي صدرت ترجمته العربية في سنة 2019، إضاءة معرفية وسياسية جديدة لهذا الحدث، من خارج نَسقَي الحنين والتشويه على حد السواء.

ورغم أن فُصول الكتاب عاصَرَت الإسلاميين في زمن الحكم وزمن احتفاظهم بقدرٍ من القوة السياسية والانتخابية رغم التراجع التدريجي الذي عاشوه منذ صائفة 2013، فإنها تُوفّر مداخل للنقاش الديمقراطي والتعاطي المعرفي-النقدي مع الإسلاميين والظاهرة الإسلامية في تونس بشكل عام. كما أن الكتاب عايَشَ ترهّل النسخة السياسية من “اليسار البرلماني” ورُكونها إلى مظاهر التشتت العنقودي والخَطَابيّة المفصولة عن المشاكل الفعلية للناس، لذلك جاءت المقدمة الثانية للمؤلف المكتوبة بمناسبة صدور النسخة العربية في 2019 لتَرسُمَ لوحة قصيرة واستفهامية حول المصير الآتي لليسار، بخاصة في ظل مُعاينة صعود تيارات الشعبوية بنسختيها “الهووية” و”الليبرالية” على حدّ تعبير الكاتب.

وتظل هذه المَداخِل في حاجة إلى مراكمة وتحيين القراءة، بخاصة في ظل هيمنة نظام الحكم الفردي منذ 25 جويلية 2021، والذي بدأ في الاعتمال من داخل تيارات الشعبوية المشار إليها آنفا، ولكنّه انتقَلَ بسرعة من التأثير الخَطَابي إلى بنية سياسة مسيطرة على أجهزة الدولة والمجتمع. كما أنّ هذه البنية العقابية- التّحشيديّة تَطرح مجابهة لا هوادة فيها ضد كل تيارات المعارضة وكل الطيف المدني والسياسي، وخصوصا الإسلاميين الذين يقبع الكثير من قادتهم في السجون ضمن لائحة من التّهم غير المحصورة، وفي مقدمتهم زعيمهم التاريخي راشد الغنوشي. كما تَشهد مقارّهم الحزبية حالة من الإغلاق الأمني المستمرّ منذ أفريل 2023.

الانفصَال المُبَكّر لهيئة 18 أكتوبر عن الحرَاك الذي أنشأَهَا                               

يُحاول هشام عبد الصمد منذ الفصل الأول من الكتاب الإطاحة بفكرة الارتباط الميكانيكي داخل حركة 18 أكتوبر بين لحظتين أساسيتين: لحظة الإضراب عن الطعام التي دامت شهر تقريبا من 18 أكتوبر إلى 18 نوفمبر 2005، ولحظة الإعلان عن تأسيس “هيئة 18 أكتوبر” بعد الإضراب وبداية حَرَاكها الفعلي مطلع 2006. وفي الوقت الذي يُشير فيه إلى دور الإضراب في استنهاض القوى الكامنة داخل المعارضة التونسية وفضح الطابع الاستبدادي لنظام بن علي، وخَلق دينامية سياسية ذات أفق تعبَوي ضد السلطة، يُنبّه أيضا إلى الطريق الضيّق المعزول الذي سلَكته “هيئة 18 أكتوبر” التي انفضَّ من حولها العديد من مكونات اليسار والمناضلون الاجتماعيون المستقلون والنقابيون والنسويات، رغم أن كل هؤلاء تواجدوا في لجان مساندة الإضراب عن الطعام وأعطوه زخما في الجهات، وأبدوا حماسة تضامنية مع المضربين بمختلف توجهاتهم الحزبية.

ويَعتبر عبد الصمد أنه لا يُمكن تفسير ضُعف الالتفاف حول هيئة 18 أكتوبر بالاطمئنان إلى منطق “المتصالحين” في مواجهة “الاستئصاليين” الموروث عن التجربة الجزائرية، وإنما يبحَث عن هذا التشتت في الأساس الفكري والسياسي الذي تشكّلَت وفقه الهيئة، التي استُعمِلت كـ”مِخبَر لتجربة التآلف بين الإسلام السياسي والمعارضة العلمانية بعد أن كانا في قطيعة تامة”[1] على حساب إطلاق تعبئة واسعة ضد الدكتاتورية وتجميع كل مكونات المعارضة. ورغم أهمية النصوص التي أصدرَتها الهيئة تباعًا حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، وحرية الرأي والمعتقد، والعلاقة بين الدولة والدين، فإنها كانت “أقرب إلى توافقات على الكلمات”[2] وجرى خلالها القفز على نقاط الاختلاف وتأجيل الحوار حولها. ولاحظَ صاحب كتاب اليسار والإسلام السياسي الغياب الكبير للمسألة الاجتماعية داخل نصوص الهيئة، وهو ما جَعلَها خالية من أيّ تصور مستقبلي للبعد الاجتماعي داخل الدولة المنشودة.

رغم النقد الذي وجّهه عبد الصمد للانفصال الذي دشنته هيئة 18 أكتوبر عن الحراك السياسي والمدني الذي أنشأها، وتحوّلها تدريجيا إلى هيئة إفتاء فكري وسياسي بالاستعانة ببعض “الخبراء” إلا أنه يُقرّ بأن ذلك “النقاش المخبري الداخلي ليس بعديم الجدوى تماما. فصلب عالمنا المصغر المتعود على الريبة والأحقاد، يُعتَبَر التأسيس لعادات وتقاليد في التوافق أمرا مُستحبًّا. بل إن النقاش مُرَحّب به حتى وإن اقتصر على مجرّد إجراء ديمقراطي”.[3]

ويُنبّه الكَاتِب إلى المبالغة في القول بأن حركة 18 أكتوبر مهّدت لثورة 2011، وإنما تقاطَعَت أهدافها معها من دون تنسيق قوي مع حركة التعبئة في الشارع، لأن الهيئة عشية الثورة كانت تعيش حالة من الاحتضار، بعد تعليق حركة النهضة عضويّتها داخلها بسبب انقساماتها الداخلية حول الموقف من نظام بن علي بين تياري المصالحة والمواجهة، ثم انسحَاب الحزب الديمقراطي التقدمّي منها تزامنا مع الانتخابات الرئاسية لسنة 2009. وهكذا بحلول سنة 2010، التي شهدت في أواخرها بداية اندلاع أحداث الثورة التونسية في مدينة سيدي بوزيد، لم تكن هيئة 18 أكتوبر متواجدة بشكل سياسي نَسَقي داخل الحراك، وإنما كانت بعض مكوناتها مُلتَحِمة بالحراك في الفضاءات النقابية وفي المناطق الداخلية وفي صفوف الحركة الطلابية، وفي المحاماة، وفي مختلف أفضية الاحتجاج الشعبي التي دشنتها الثورة. وقبلها بسنتين، عندما اندلعت انتفاضة الحوض المنجمي في سنة 2008، نشأت حركة تضامنية سياسية وحقوقية واسعة مع الحراك الذي تعرض للحصار الأمني من خارج حركة 18 أكتوبر، رغم الدور الذي لعبه بعض الفاعلين فيها في إسناد الحراك.              

ما بعد الثّورة ومُحاولات التوظيف المتأخرة لإرث 18 أكتوبر

مع اندلاع الثورة سنة 2011، وما تلاَها من إعادة توزيع للفضاء السياسي في البلاد، وصعود الإسلاميين إلى الحكم إثر انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، بدأ إرث حركة 18 أكتوبر وكأنه حدث بعيد يأكله النسيان شيئا فشيئا. وبحلول العام 2012، وصعود الإسلاموية والصراعات الهووية التي رافقتها، لاحَت هشاشة التسويات الكلامية القديمة التي تضمنتها نصوص الهيئة، بخاصة بعد عودة الكثير من الإسلاميين إلى مواقف ولغة صراع أكثر ارتباطا بالبدايات. لذلك حاول معظم “المتحاورين القدَامى” تجاوز إرث 18 أكتوبر سواء بالتجاهل المرحلي سنة 2012، أو العودة إلى توظيف هذا الإرث لشرعنة بناء سلطة أكتوبر 2011، التي جسدتها الترويكا، والتي عَرضَها بعض المنتسبين إليها بوصفها استئنافًا لحركة 18 أكتوبر 2005. بل يذهب رئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي إلى القول إن التوافق بين “الإسلاميين” و”العلمانيين” جرى في مرحلة سبقت 18 أكتوبر 2005، ويُرجِعه إلى لقاء جَمعَ بعض مكونات المعارَضة في مدينة آكس أون الفرنسية في ماي 2003. [4]

ويلاحظ هشام عبد الصمد أنه بعد كتابة دستور 2014، جَرَت محاولات إيهام واسعة بأن مضامينه التوافقية تعتبر استئنافا للنقاشات التي تضمنتها نصوص هيئة 18 أكتوبر المُشَار إليها سابقًا، وبخاصة القبول بحرية الضمير، في حين يؤكد عبد الصمد إن “النقاش داخل الهيئة لم يصلح لشيء حيث وجبت العودة بعد 2011 إلى مستوى الصفر وانتظار ثلاث سنوات بأكملها من المشادات والمناورات والتوتر للوصول إلى نص يشبه بقدرة قادر ملامح وثيقة 18 أكتوبر”.[5] 

عموما يُلاحظ الكاتب أن معظم الفعاليات الحزبية المشاركة في هيئة 18 أكتوبر، لم تُغَادر معاقل التجاهل أو التوظيف الكلامي لهذه التجربة، ولم تؤسّس لقراءة سياسية ومعرفية رصينة لها، رغم بعض المحاولات، من بينها النص الذي كتبه أحمد نجيب الشابي سنة 2010 من منظور تجربة حزبه الديمقراطي التقدمي داخل الهيئة. كما يلاحظ أيضا انتشار النزعة الأكاديمية التي تعاملت مع حركة 18 أكتوبر من منظور “الاستثناء” الجميل، دون إدراك للتعقيدات والسياقات والمآلات والحصيلة، وأيضا دون فهم لتمفصلاتها التاريخية.

اليسار والإسلام السياسي: النزاع الديمقراطي المُعطَّل     

تَكمُن أهمية “التّحقيق” الذي أجرَاه عبد الصّمد حول حركة 18 أكتوبر، في إعادة طرح النقاش الفكري والسياسي حول علاقة اليسار بالإسلام السياسي في تونس، التي عادة ما يجري اختزالها في منظورين وحيدين: تناحر أو تحالف (توافق). في حين أن كِلاَ المنظورين أدّيَا إلى إنتاج فضاء سياسي هش، وساهمَا في تعطيل مبدأ “النزاع الديمقراطي”.

لذلك يُحاول عبد الصمد تكثيف ملاحظاته في هذا الخصوص قائلا: “إن التوافق التاريخي ليس مسألة إرادية أو “خارطة طريق” تُصاغ بدقة ثم سرعان ما يُعاد النظر فيها، بل هوتَشكّل ينشأ تدريجيا نتيجة تظافر عديد المسارات التي تعتمل، على نحو مفتوح أو غير معلن، صلب اليسار والإسلام السياسي والحركة النقابية…وليست غايته الموضوعية كتمان النزاع والقبول بأشياء عن مضض بل إعادة بناء التمفصلات حول الرهانات الاجتماعية والثقافية”.[6]

مضيفا: “لطالما كان التأرجح بين “سياسة قُبلة الموت” أو إنكار وجود الآخر هو الخيار الوحيد لكلا الطرفين ومخيالهما السلبي المشترك. من هذا المنظور تُمثل حركة 18 أكتوبر فرصة تاريخية لتجاوز هذا الإشكال وبناء علاقات جديدة تحت عنوان المواجهة الديمقراطية”.[7] 


[1]  هشام عبد الصمد. اليسار والإسلام السياسي أو النزاع العالق (ترجمة فتحي بالحاج يحيي) ط1، تونس: منشورات جمعية نشاز، 2019،  ص: 44.

[2]  ص: 55

[3]  ص: 55.

[4]  المرجع نفسه، ص: 92.

[5] المرجع نفسه ص: 90.

[6] المرجع نفسه ص: 137.

[7]  المرجع نفسه ص: 138.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حركات اجتماعية ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني