حولا… سلِمت رباها


2024-11-22    |   

حولا… سلِمت رباها
حولا قبل العدوان الإسرائيلي على لبنان

كأنّ بوصلة الروح موجّهة إلى تيك القرية الحدوديّة مهما بعدنا عنها. يجمعني بها كمكان ذاكرة صَيْفين (أو ربما ثلاثة) من طفولة جميلة، وإن كانت قريتي لا زالت محتلة حينها، فما كنت لأفهم وعمري لا يتجاوز 6 سنوات معنى الاحتلال. ولطالما كانت ذاكرتنا عن حولا – نحن أبناؤها – أوسع من حدودها الجغرافية. لطالما نظّم أهالي حولا في فترة الاحتلال، رحلات إلى أحراج في جبل لبنان حيث يجتمعون، علّهم يصنعون حولا صغيرة غير مستباحة لا قتل فيها ولا ظلم، يجدونها في أي مكان يصلح لتلاقي أبناء البلدة على غداء في البر وشرب الشاي على الموقد. ولطالما حرصت عائلتي كما عائلات حولا، على قضاء بعض الليالي عند أقارب في دير الزهراني مثلًا أو في شقرا حيث نكون أقرب إلى حولا. ولسان حال أبناء البلدة المبعدين قسرًا في ضواحي بيروت وكافة المناطق، أنّ أيّ مكان ولو مكثوا فيه ثلاثين عامًا وأكثر يبقى مؤقتًا لهم، فهناك في حولا سالت دماء أجدادهم وأبنائهم وهناك تقبع روحهم.

في 16 تشرين الثاني، بلغتنا أنباء عن تفجير الصهاينة النصبيّن التذكاريّين اللذيْن يخلّدان ذكرى شهداء مجزرة حولا وذكرى شهداء ما بعد المجزرة، الأمر الذي أكده رئيس بلدية حولا مؤخرًا. لم يكتف الصهاينة بذلك بل دوّنوا على لوحة تحمل أسماء شهداء المجزرة، عبارة “الشيعي الوحيد الجيد هو الشيعي الميت”، في استعادة منهم للممارسات النازيّة ضدّ اليهود، والتعبير الذي انتشر سابقًا في أوروبا بأنّ “اليهودي الوحيد الجيّد هو اليهودي الميت”. بعد انتشار خبر تفجير النصبين بقليل يكتب المهندس طارق مزرعاني الذي صمّم كلا النصبين، على صفحته على فيسبوك: “بالتأكيد سنعيد تلك المعالم، ربّما قبل البيوت… حتمًا سنعيدها رغمًا عن أنف عدوٍّ غادر”. 

لعلّها مناسبة للحديث قليلًا عن سيرة هذه القرية التي قامت عام 1948 من بين الرماد. والتي لا تنفصل عن سيرة التضحية لحماية حدود الوطن. كان الوطن فتيًا، لم يتجاوز عمره العامين بعد الجلاء، حين تأسّست هوية جديدة لحولا من قلب المعاناة. نروي – نقول لأنفسنا – إنّ المقاومة بدأت قبل عام 1948 الدامي، لكن وإن كان وعي المقاومة، اللبنانية بشكل عام، بدأ يتشكّل على وقع نكبة فلسطين في ظلّ تخلّي دول العالم عنها، يبقى أنّها لم تكن بالمعنى الذي نفهمه اليوم للمقاومة (لم يكن أصلًا من مواجهة عربية للمشروع الصهيوني قبل عام 1947). فلم يكن أهل الجنوب يملكون السلاح أصلًا قبل هذا التاريخ. وكان أبناء الجنوب عمومًا كما أهالي بيروت أو البقاع أو الشمال أو جبل لبنان، رافضين للظلم وينتفضون لمواجهته بقطع سلاح بسيطة. لكن ما حصل في حولا يشبه تمامًا ما حصل في فلسطين، إذ تخلّى العرب عنها كما العالم. بل حتى الدولة اللبنانيّة تخلّت عن حولا كأنّها جزيرة مستقلّة، وبدا عهد بشارة الخوري ورياض الصلح منهمكًا أكثر في مطاردة التظاهرات العمّالية والصحف التي تفضح أوجه فساد الإدارة حينها. 

لذا ومن تجربتي مع أهل القرية، المتشابهين إلى حد بعيد في تربيتهم الوطنية، أعتقد أنّ الحولانيين توارثوا هذا البحث المستمر عن معنى الوطن وهويّته.

ما جرى أواخر تشرين الأوّل 1948، أنّ اسرائيل خرقت هدنة الحرب واستأنفت المواجهة مع جيش الإنقاذ العربي،  وكانت وحدات هذا الجيش استقرّت على موقع العبّاد الاستراتيجي في حولا، وكان طبيعيًا أن يقدّم أبناء البلدة كلّ الدعم لهذا الجيش، حتى أنّ البعض انخرط في صفوفه كما تنقل الروايات. بدأت الغارات الجويّة على حولا وميس الجبل في تلك الفترة، وانسحب على إثرها الجيش اللبناني المرابض في المالكيّة، فما كان ليصمد من دون الجيوش العربية. ولم تصمد وحدات جيش الإنقاذ العربي الباقية في حولا بدورها، فسحبت جنودها من حولا في 27 تشرين الأوّل 1948. وكانت سرت شائعة في حولا أنّ جيشًا عربيًا آخر سيأتي ليحلّ مكان الوحدات المنسحبة. ولم يكن في بال أهالي حولا والقرى المجاورة أنّ الحرب توقفت، والجيوش العربية هُزمت. وما أشبه الأمس باليوم، إذ أجبرت العصابات الصهيونيّة في تلك الفترة مراقبي الأمم المتحدة على الجلاء عن مراكزهم في ساحة القتال.

وبصرف النظر عن تغيّر موازين القوى والظرف الذي أدى لانسحاب الجيشين اللبناني والعربي، كان لبنان بكل أطيافه منخرطًا حينها في موقف وطني موحّد ضدّ الصهيونية، بخاصّة وأنّ أخبار الإبادة في فلسطين تصلّ إلى لبنان، بدءًا من مجزرة أسفرت عن 250 شهيدًا في دير ياسين في نيسان  1948 وصولًا إلى المجازر في شمال قرى فلسطين. 

وتوضيحًا لسياق الموقف الرسمي والشعبي في تلك الفترة، يُشار إلى أنّ الوفد اللبناني إلى جامعة الدول العربية في آذار 1947، ورغم انشغالاته بخلافاته الداخليّة، كان توحّد على إعلان تأييد حكومة لبنان وشعبه للشعبين الفلسطيني والمصري في نضالهما من أجل الاستقلال. وأغلقت بيروت تمامًا، وبدون تظاهرات، في تشرين الأوّل 1947 احتجاجًا على توصيات لجنة التحقيق الدولية بتقسيم فلسطين، بل خصّصت الدولة اللبنانية أموالًا واقتطع النوّاب من رواتبهم مالًا للدفاع عن فلسطين، وجمع الناس التبرّعات للغاية نفسها. واعتبر المجلس النيابي في كانون الأوّل 1947 أنّ قيام الدولة اليهوديّة يهدّد أرض لبنان وحرّياته بصفة خاصّة، والكيان العربي ككلّ. وسمح بشارة الخوري ورياض الصلح للقوّات العربية بالدخول إلى فلسطين من جنوب لبنان أي أنّ حولا والقرى الحدودية مثّلت الموقف الوطني بامتياز، ويكفي مطالعة عناوين الصحف اللبنانية على كثرتها وتنوّعها في تلك الفترة، لإدراك الانخراط الكامل للبنانيين ضدّ الصهيونية. 

منذ 27 تشرين الأوّل 1948، توالت الاعتداءات على قرى صفد شمال فلسطين والقرى الحدوديّة في لبنان. وفي ليل 28 تشرين الأوّل، أطلقت العصابات الصهيونية عملية “حيرام” لاحتلال شمال فلسطين، وبدأت المجازر في القرى الفلسطينية، بدءًا من قرية الجش التي هجّر أكثر من نصف سكانها آنذاك وقتل عدد من أبنائها (هي قرية مارونية مجاورة لقرية رميش اللبنانية). 

وجرى توثيق عمليات اغتصاب لنساء، كما في قرية الصفصاف، و”تفنّن” الصهاينة كالمعتاد بالقتل، حيث وضع 52 رجلًا من أهالي قرية الصفصاف في حفرة وأطلق النار عليهم، ودفن من لم يستشهد منهم على الفور وهم أحياء. 

وفي 30 تشرين الأوّل، دخلت العصابات الصهيونية إلى قرية صلحا اللبنانية، دعوا أهالي البلدة إلى التجمّع، وجمعوا عددًا كبيرًا منهم داخل مسجد البلدة ودمّروه على رؤوسهم وأردوا آخرين رميًا بالرصاص ما أسفر عن استشهاد نحو 105 أشخاص من أبناء البلدة. وكان من خبث المخيّلة، أن دخلت عصابات الهاغانا في 31 تشرين الأوّل بزيّ عربي إلى حولا، فأوهموا أهالي البلدة أنّهم الجيش العربي المنتظر وبدأوا يعتقلونهم، وهرب من تنبّه أنّهم عصابات صهيونيّة وحاول تنبيه الآخرين. لكن الصهاينة جمعوا ما استطاعوا من أهل القرية في منزل جدّي الذي صار منزلنا ومنزلين كانا لجيراننا في وسط البلدة آنذاك، أو في طرف “القرية القديمة” اليوم. قتل الجميع رميًا بالرصاص وهُدم منزلا جيراننا على من فيهما فيما بقي منزلنا صامدًا. وفي ذاك اليوم الدامي وحده، وقع 70 شهيدًا في المجزرة، عدا عن آخرين استشهدوا في الاعتداءات المتكررة، ووصل عدد الشهداء إلى نحو 90 شخصًا. ووقعت مجازر أخرى في قرى صفد وجنوب لبنان، واحتلّت عصابات الهاغانا نحو 15 قرية حدوديّة، وهجّر أهالي حولا، وأهالي عدد من القرى المجاورة.

مأساة المجزرة لا تتوقف على القتل والدمار 

قلّما حدّثني أبي عمّا يعنيه أنّ بيتنا وقعت فيه مجزرة. علاقته بالمنزل أوسع من جرائم عصابات الهاغانا. كان هذا المنزل قديمًا أحد منزلين أو ثلاثة يجتمع فيها أهالي القرية للتسامر. بالنسبة لأبي، هذا المنزل هو ما تبقى من علاقته مع جدّتي التي سقطت شهيدة غارة اسرائيلية في السبعينيات (أي قبل الاجتياح)، والتي قلّما حدثني عنها، فقد كان وضع جدتي مؤلمًا جدًا بعد الغارة، كما تروي لي أمي. أمّا جدي، فلا يكلّ أبي من الحديث عنه، رغم أنّه قتل على أيدي رجال الإقطاع في وقت كان أبي لا يزال طفلًا. وقد رفض جدّي أن يصرّح لأولاده بهويّة القاتل على فراش الموت، كي لا يورثهم أحقادًا لا تنتهي. 

رغم تلك الروايات، أحبّ أبي كلّ زاوية من زوايا منزلنا، علمًا أنّ أغلب ذكرياته تتعلّق بالمعاناة مع ما يشبه “الأشغال الشاقة” في زراعة التبغ. وكان فخر النسب لعلي أيوب (جدي) مختار القرية، أنّه ابن المختار محمد الحاج ذائع الصيت بين القرى، ويرتبط به المثل الشهير “كل الدباب رقصت إلّا دب حولا”.  والحكاية كما رواها لي أبي أنّ “البيك” خليل الأسعد جمع مخاتير ووجهاء قرى وطلب منهم أن يهبوه عقارات أراض من قراهم، فأذعنوا للأمر. وكانوا استقبلوا البيك كما العادة برقصة “الحَوْرَبة” التقليدية. وحده جدّ والدي (محمد الحاج) لم يرقص للبيك وأبى أيضًا أن يهبه أراضي القرية، وقال للبيك إنّ بإمكانه وهبه من أراضيه الخاصّة، “أمّا أراضي القرية فليست ملكي لأهبها”. وكان ردّ البيك الساخر والمهين “هلّق كل هالدباب رقصت إلّا دب حولا”.

كتيّب عملت على نشره رابطة إنماء حولا – وهو يوثّق مجزرة حولا 1948

وعمومًا فروايات وموروث أهل القرية الثقافي، سواء من المعاناة أو من البطولات أوسع من أن تحدّه قصّة مجزرة 1948. والمجزرة بحد ذاتها ليست الأشد ترويعًا في ذاكرة أبناء حولا عمومًا، إنّما تخلّي الجيش العربي الذي انسحب من البلدة، ثمّ تخلّي الدولة اللبنانية التي رفضت حتى الاعتراف بوقوع مجزرة. 

وحين تبحث عن رواية المعاناة، تجد جزءًا قليلًا منها في الوثائقيات عن الناجي الوحيد أبي فهد (حسين محمد ظاهر رزق مواليد 1924)، أمّا الجزء المتعلّق بشهود العيان الهاربين من الصهاينة، فأهملت الدولة اللبنانية توثيقه، إذ لم تعترف أصلًا بوقوع مجزرة، حتى أنّ أحد أبناء البلدة حبس لمدة شهر حين حاول بعد المجزرة بعامين أن ينشر وقائعها في القرى المجاورة (جرى عام 1998 توثيق وقائع المجزرة بجهد خاص من رابطة إنماء حولا). 

ولدى ذكر المجزرة يروي أبناء البلدة الناجون أكثر عن معاناتهم في هجرتهم القسريّة، بعد أن دمرت بيوتهم وحرقت محاصيلهم، وسرقت العصابات الصهيونية مواشيهم. ومثلًا، خسرت إحدى نساء القرية طفلها الرضيع (لم يسجّل بين شهداء المجزرة). وبعد أن كانت هدمت معظم بيوت القرية، قررت الدولة إيواء أبنائها في حرش ضبيّه في هنغارات من صفائح من مخلّفات الجيش الفرنسي ومن دون تقديم مساعدات، بدلًا من بناء بيوت جديدة لهم. ولم يعودوا إلى القرية إلّا بعد 6 أشهر، بعد توقيع اتفاق الهدنة، فيما استمرّت معاناتهم بسبب الجوع في القرية أو كما يروي أحد الناجين “تغيّر الكثير بعد تلك العودة: نوم في العراء وكوابيس في الليل والنهار وسدّ الجوع بخبز الشعير والأعشاب البرية”. ورغم كل شيء، تمكن أبناء القرية بعد بيع  جزء من حقولهم، من بناء منازل جديدة وأعادوا الحياة إلى القرية بعملهم المضني وجهدهم الخاص. 

بعض أهالي حولا النازحين في حرش الضبية بعد المجزرة

كان خيار أبناء البلدة هو المقاومة منذ ذلك الوقت، فالاعتداءات لم تتوقّف قط. وكانت طبيعة حولا ذات الوديان الأربعة والتلال الخمس، جعلتها خلال المعارك منطقة مواجهة وجبهة مفتوحة وخطّ نار. ولطالما تعرضّت في الستينيات والسبعينيّات لاعتداءات متكرّرة سقط فيها شهداء. أمّا الأخبار المتناقلة عن بطولات أبناء البلدة في ظلّ الاحتلال، فلا تنتهي، لكن قلّما تجد أحدًا يشير إلى أنّ عائلته قدمت شهيدًا أو أنّ أفرادها أسروا أو عانوا من الاحتلال، إذ يخجل من يتكلّم في هذا الصدد، حين يرى أمًّا لشهدين، أو أمًا لثلاثة شهداء تقف شامخة وتأبى إظهار لحظة استعطاف وضعف، لترسّخ فعل المقاومة والذود عن الحدود فعل إيمان لا ينتظر مقابلا. لكن طالما حاول أبناء البلدة ترسيخ ذكرى الشهداء الأبطال (تجد رزنامات في بيوت حولا، عليها صور 48 شهيدًا من الحزب الشيوعي اللبناني سقطوا دفاعًا عن بلدتهم بين عامي 1948 و2006،  وأقيم نصب تذكاري لهؤلاء الشهداء عام 2021، في مكان قريب لنصب تذكاري آخر أقيم عام 2002 لشهداء مجزرة 1948).

تلك النضالات أثمرت في 23 أيّار عام 2000، وصحونا على عرس قبل بزوغ الفجر. فما أن بدأ تهامس البعض أنّ حولا تحرّرت، جرفت العاطفة قبل العقل أهالي حولا، توقًا لعناقها. وحين وقفت بوابة وصخور عثرة أمام السيارات عند مدخلها، نزلوا من سياراتهم كنهر ينساب ويترامى ليروي أرضها العطشى. كان مشهد النصر بامتياز. كنت صغيرًا بين حشود من أهالي القرية، كثيرون منهم لا يعرف بعضهم الآخر، لكن الجميع يتعانقون، ويبكون، ويرقصون فرحًا. من أين جاء هذا كلّه؟ ما كلّ هذه السعادة الهستيرية الصاخبة؟ كان هذا السؤال الذي بحثت عن إجابة عنه ولاحقته وأنا طفل، ولم أكمل 12 عامًا بعد من عمري… ولكني اليوم أعلم… بعد 24 عامًا على التحرير، أعلم أنّ هذه البلدة لم تزرع سنابل قمح أو شتل تبغ، إنّما زرعت شغفًا بالحياة ومقاومة الظلم وذاكرة آلام ونضالات.    

كم مرة يخدع الموت

وهذه ليست ذاكرة مضت، كانت هذه الذاكرة حاضرة كلّها حتى أواخر تشرين الأوّل الماضي، حينما رأيت صورًا على مواقع التواصل، لجنود صهاينة يتنقلون في بعض أحياء حولا. وحين رأيت مشاهد تفخيخ أحياء كاملة في القرية وتفجيرها، شعرت كأنّ رأسي يهيم داخل غيمة سوداء. شعرت ببساطة بالخوف، بالجهل، بالغربة. ليس الخوف على أرض أهلي وأقربائي وبيوتهم، ليس الخوف على أشجار التين والزيتون، ولا هو الخوف على الذكريات… إنّما الخوف على حولا الفكرة، خوفي على حولا لبنان الصغير على حدود لبنان، وعلى حولا الأغنية، وحولا دفء الموقد ودفء كرم الضيافة والروح المرحة الطليقة دائمًا. تلك الروح سبق وجابهت غدر الهاغانا، وعادت لتضمّد جراحها وتقف شامخة. صنعت من دمائها النازفة توقًا إلى العلم، فكانت إحدى أكثر القرى من حيث عدد الأطباء والمهندسين والأساتذة، وكانت نشطة ثقافيًا ووطنيًا فكان لا بدّ أن تجابه الإقطاع جولات ثمّ تجابه الطائفيّة جولات أكثر. واليوم حولا، إلى جانب شقيقاتها في القرى الأمامية تدفع أثمانًا من البشر والشجر والحجر بعد تغوّل آلة الصهيونيّة وسعيها لمحو معالم القرى وإرث أهلها وحضارتهم. حولا العزيزة ذاتها، حولا السهرة تحت التينة، أو تحت الخرنوبة، أو تحت السنديانة، حولا سهرات الضحك المستمر، نجدها اليوم في فم التنين…

اليوم التالي على رؤيتنا صور توغّل جيش العدو في القرية كان 31 تشرين الأوّل، ذكرى مجزرة حولا. ولم يكن هذا النمط الانتقامي المتجدّد من البلدة خارجًا عن المألوف، فمثلاً في الذكرى الـ 61 للمجزرة عام 2009، أطلقت إسرائيل على القرية بتسع قذائف قصفتها على أطراف البلدة. واليوم بعد 76 عامًا، دخل الصهاينة القرية بساديّتهم وأعمالهم المقزّزة مجددًا. وكان للذكرى وقع خاص على شباب وشابّات حولا. فقد اعتدنا أن نضيء شموعًا أو نضع باقة زهور كلّ عام في هذه المناسبة على النصب التذكاري لشهداء مجزرة حولا. ولم نكن نريد استثمارًا في المجزرة، أو استدرار أي تعاطف من أحد. أردنا فقط أن نحيي ما حاولت الدولة اللبنانية – حتى عقد خلا – أن تمنع توثيقه في سجلّاتها. أردنا إبقاء ذكرى هؤلاء الشهداء، لأنّهم كانوا. وأردنا ألّا يُمحى أحد منا مجددًا أو يُمحى ذكره… ذاك اليوم توجّهت إلى العمل. كان راديو السيارة تعطّل بعد أن أصبحت نازحًا، ولم تتح لي الفرصة لإصلاحه، لكنّه دار بالصدفة هذه المرة وكأنّه يخاطبني: “لم يبق غصنٌ غير منتهب.. لم يبق وجهٌ غير مستلب”. لماذا هذه الأغنية الآن؟ هذه أغنية حولا… ولماذا تبدو معاني كلماتها أعمق اليوم؟

“ما همّهم إلّا الربى سلمت آياتها من رجس مغتصب”… لم أتمالك نفسي، وانهرت باكيًا. لم أبك على شطر سابق ـ و لاحق… إنّما هنا تحديدًا “إلّا الربى”. وأعزّي نفسي، سلِمت حولا، وسلمت رباها. ولنا معها موعد مقبل، بل مواعيد.   


[1] زكريا محمد فرج. حرب 1948 ونكبتها. 2010، ص260-261

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني