ايمان حبيب في بلعين ، الضفة الغربية، البعثة المدنية لحماية الشعب الفلسطيني، 2005.
التقت المفكرة القانونية بإيمان حبيب منسقة وكالة اعلام فلسطين (Agence Média Palestine)[1] وأحد الوجوه النسائية الفرنسية البارزة في مجال النضال ضد حرب الإبادة على غزة. يكثف مسار هذه الشابة من أصل تونسي تحولات حركة التضامن مع فلسطين في فرنسا، من حيث الانخراط المتنامي للشباب المنمطين عرقيا (racisés) ضمنها وتصاعد تأثير المقاطعة لإسرائيل.
المفكرة القانونية: هل لك أن تحدّثينا بدايةً عن الظروف التي دفعتْ شابّة مثلك، ولدت في فرنسا من أبوين تونسيين مهاجرين وتعيش في باريس إلى الانخراط في الدفاع عن القضية الفلسطينية؟
إيمان حبيب: في عمر الخامسة والعشرين في صائفة 2005، أثناء عطلتي الجامعية، قمتُ بالاتّصال في باريس بمجموعتيْن تنشطان في مجال الدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني. كان ذلك رغبة مني في القيام بعمل تضامنيّ مع القضية، لا يستوجب التزاما وثيقا. لم أكنْ آنذاك مطّلعة على رهانات وتفاصيل المسالة الفلسطينية. وصلني ردّ وحيد من الحملة العالميّة المدنيّة لحماية الشعب الفلسطيني، فشاركتُ في إحدى بعثاتها المدنية إلى فلسطين لحماية الفلاحين في موسم جني الزيتون في قرية صغيرة قرب مدينة سلفيت وسط الضفّة الغربيّة. كانت تلك المرّة الأولى في حياتي التي أرى فيها جيش الاحتلال يراقب من أعلى برج حركتنا. كان الفلاحون الفلسطينيون يقولون لنا وجودكم معنا يمنعهم من إطلاق النار علينا. هذه الرحلة غيّرت حياتي. عاينتُ الاضطهاد الذي يخضع له الفلسطينيون واكتشفت الحواجز والأسلاك الشائكة… في قلقيلية ونابلس والقدس الشرقية خصوصا حول جامع الأقصى، لكنّي لم أستطِعْ الذّهاب إلى غزة. زيارة فلسطين تضاهي عشرات الكتب عن اضطهاد الفلسطينيين…
قبل هذه الرحلة، لم يكنْ لي أيّ التزام نضالي. كنت فقط متعاطفةً مع القضية. وحين عدتُ إلى فرنسا، كنت في حالة صدمة إلى درجة أنني لم أقدر في البداية رواية ما شاهدت. وبعد أن تجاوزتُ دهشتي قررت الانخراط بشكل نضاليّ في مساندة الفلسطينيين. رجعت مرة ثانية إلى فلسطين في 2008، مع مجموعة جديدة ضمن الحملة المدنية العالميّة وتزامن ذلك مع إطلاق حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) في فرنسا، فاعتبرتها الأداة المركزية للتضامن مع الشعب الفلسطيني و انخرطت فيها. فهذه الحملة خلافا لحركات او جمعيات أخرى تنشط في نفس المجال، تعمل بشكل ملموس من أجل وضع حدّ لنظام الأبارتهايد في فلسطين. طبعا هناك أشكال عدّة للتضامن مع القضية الفلسطينية اليوم، لكن أهمية BDS من وجهة نظري تكمن في أنّها نابعة من مبادرة للفلسطينيين أنفسهم إذ وقع إطلاقها من قبل 170 جمعية فلسطينية وهي اليوم موجود في المنطقة العربية.
المفكرة القانونية: هل لك أن تقدّمي لنا وكالة إعلام فلسطين وتشرحي لنا أهدافها ومهامها؟
إيمان حبيب: رأت هذه الوكالة النور سنة 2011 في أعقاب حرب 2009 على غزة، التي أشعرتْنا بالحاجة الماسّة إلى بعث مؤسسة إعلامية تعمل بشكل حرفي على إنتاج معلومة بديلة لما يروّج له الإعلام المهيمن في فرنسا حول المسألة الفلسطينية. الوكالة تعمل على نشر المقالات، وتوفير التحاليل، التي يكتبها الفلسطينيون والفلسطينيات والإسرائيليون والإسرائيليات المعادون للاحتلال الصهيوني، حول ما يجري في فلسطين. كما نعمل بالخصوص على دحض المصطلحات المستعملة في السردية الفرنسية المهيمنة والهادفة إلى حجب حقيقة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ووضع معادلة بين الشعب الفلسطيني وجيش الاحتلال الإسرائيلي. وأعني تلك المصطلحات من قبيل “الاشتباكات” والمواجهات”… إذ أنّ هدف الوكالة إذا هو التذكير بالسياق التاريخيّ للصراع الذي بدأ منذ أكثر من 75 عاما. في أعقاب 7 أكتوبر 2023، اكتسى عملنا أهميّة أكبر. فالإعلام المهيمن كما النّخب السياسية في فرنسا تتحدّث اليوم عن الحرب على غزة وكان كلّ شيء قد بدأ في 7 أكتوبر، متجاهلةً أنّ غزة تعاني الحصار منذ أكثر من 17 سنة وأنّ مرضى السّرطان لم يكن لهم الحقّ في مغادرة غزّة للتداوي وأن 95% من الماء غير صالحة للشرب في القطاع وأن احتلال غزة وإن كان يبدو غير مرئي بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها إلا أنه مُحكم. لا بل أنّ الاحتلال هو حقيقة في الضفة الغربيّة كذلك، وحيث تُنظّم تحت حكم أكثر الحكومات الإسرائيلية يمينية بوغرامات Pogrom ضد الفلسطينيين.
ما نقوم به عمليا هو نشر المعلومات والتحاليل على موقعنا وإعداد مراسلات نوجّهها إلى الصحفيين الفرنسيين ووسائلهم الإعلامية نُطلعهم فيها على ما يحصل في الضفّة والقطاع ونقترح عليهم فيها ربطهم بفلسطينيّات وفلسطينيين في الداخل، خصوصًا منذ بداية العدوان الأخير على غزّة. كما نتوجه إلى أعضاء وعضوات مجلس الشعب الفرنسي بملفّات إعلامية توفّر لهم معلومات دقيقة حول مجريات الصراع. ولوكالتنا اليوم علاقات مع برلمانيين يساريّين بالخصوص. في الآونة الأخيرة مثلا وعلى إثر العدوان الإسرائيلي على مستشفى الشفاء والذي حاولت إسرائيل التغطية عليه بترويج مزاعمها المعتادة حول وجود مخابئ سلاح لحماس، اتّصل بنا أحد البرلمانيين ليطلب معلومات حول الموضوع. وبما أن الوكالة توثّق منذ سنوات الاعتداءات الإسرائيلية، استطعنا أن نوفّر له جردا بكل الاعتداءات الإسرائيلية السابقة على المستشفيات والتي استعملت فيها نفس الحجج. كما أعلمْناه بكل نتائج تحقيقات الأمم المتحدة السابقة حولها التي أظهرت عدم وجود أيّة أدلّة ضدّ هذه المستشفيات.
وعليه تمكن عضو البرلمان من الاعتماد على معطياتنا الموثقة خلال برنامج تلفزيّ في إحدى أهمّ المحطات الفرنسيّة لدحض مزاعم إسرائيل.
المفكرة القانونية: هل لك أن تخبرينا عن تاريخ ومكونات حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) في فرنسا وانتصاراتها الأخيرة؟
إيمان حبيب: ظهرت حركة المقاطعة في فرنسا في 2009 في أعقاب الحرب على غزّة التي تسبّبت في قتل 1400 فلسطيني من ضمنهم 500 طفل بحسب أرقام منظمة يونسيف. وقد واجهت التجريم منذ انبعاثها. إذ أنّ فرنسا لعبتْ في الحقيقة دور المخبر الأوروبيّ في قمع مناضلات ومناضلي حراك المقاطعة. إذ ومنذ البداية، زمن رئاسة نيكولا سركوزي اليمينية، أصدرتْ وزيرة العدل الفرنسية آنذاك، ميشال إليو ماري، في فيفري 2010، تعميما يحمل عنوان “الإجراءات المعتمدة بعد دعوات لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية” والذي يطلب من النيابة العامة مباشرة الملاحقة الجنائية ضدّ كلّ من ينادي بمقاطعة إسرائيل تحديدا. أي أنه كان يسمح بمقاطعة الصين باعتبار انتهاكاتها في التيبت أو روسيا، لكن القانون الفرنسي أضحى منذ ذلك التاريخ لا يسمح بمقاطعة إسرائيل. هذا التعميم سمح بإجراء العديد من الملاحقات والمحاكمات في حقّ المناضلين والمناضلات والتي تواصلت على مدار 15 سنة تقريبا وأفرزت إدانات أو تبرئة بخطايا وصلت الى 1000 يورو. وهو ما دفع مناضلات ومناضلين من حراك المقاطعة الذين تمّ الحكم عليهم من قبل أعلى سلطة قضائية في فرنسا أي محكمة النقض إلى اللجوء إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية التي أصدرتْ حكمها في 11 جوان 2020، يقضي باعتبار الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل عملًا يتعلّق بحريّة التعبير. وهو ما شكل انتصارا لحراك المقاطعة.
وعليه، تمّ الحكم على فرنسا بدفع تعويض على الضرر للضحايا قُدّر بحوالي 100000 يورو. وباعتبار أن هذا الحكم لم يلغِ السجلّ الجنائي للمتهمين في فرنسا، فقد قام هؤلاء باستئناف الحكم أمام محكمة النقض ومحكمة التعقيب. وفي 17 ديسمبر 2023، أصدرتْ محكمة التعقيب قرارا إيجابيا أكّد قرار المحكمة الأوروبية معترفا بأنّ الدعوة إلى المقاطعة تعتبر من باب حرية التعبير ما لم تترافق مع الدعوة إلى الكراهية. وفي 14 مارس 2024، قامت محكمة التعقيب في باريس بإصدار نفس الحكم. وهو ما يشكل انتصارا مهما ل BDS في فرنسا ويضع حدا لسنوات من التجريم.
حملة المقاطعة في فرنسا هي حراك يهدف الى إيصال نداء المجتمع المدني الفلسطيني. وهي تساهم بنفسها في اللجنة الفلسطينية للمقاطعة التي لها صلاحية تقرير فحوى الحملات. على سبيل المثال، إحدى الحملات المركزية اليوم هي مقاطعة كارفور، لأن كارفور قد عقد شراكات في مارس 2022 مع شركتين إسرائيليتين Electra Consumer Products و Yenot Bitan وفتح مغازات في عديد المستعمرات الإسرائيلية التي يعتبرها القانون الدولي غير قانونية. وقد أصدرت في نوفمبر عديد الجمعيات والنقابات الأكثر تمثيلية في فرنسا تقريرا حول “العلاقات الخطيرة لكارفور مع الاحتلال الإسرائيلي” أدّى إلى توثيق تواطئِها. وقد علمنا مؤخّرا أن كارفور في إسرائيل لم يتوانَ في خضم حرب الإبادة الجارية ضدّ غزّة على توزيع سلال غذاء على الجنود الإسرائيليين.
في كل يوم سبت يتواجد مناضلو المقاطعة أمام مغازات كارفور في فرنسا يوزعون بيانات ويتناقشون مع المواطنين ويشرحون لهم دوافع الدعوة إلى المقاطعة. وبالتوازي كثفنا حملاتنا على وسائل الاتصال الاجتماعي. وبالنتيجة اضطرّ كارفور إسرائيل إلى حذف الإشارة إلى سلال الغذاء من موقعه.
تحقق حملاتنا بعض الانتصارات. إذ أنّ حملة المقاطعة التي نظّمناها على مدار خمس سنوات ضد PUMA، المختصّ في التجهيزات الرياضية، والمتعاقد في إطار حملته الترويجية (sponsor) مع المنتخب الإسرائيلي لكرة القدم الذي يضمّ لاعبين من فرق تابعة للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وعلى غرار حملتنا الحالية ضد كارفور، كنا ننظم تجمّعات أسبوعية كل يوم سبت أمام مغازات PUMA . وقد علمنا في ديسمبر 2023 أن PUMA قررت عدم تجديد شراكتها مع المنتخب الإسرائيلي لكرة القدم. طبعا لم تعترف الشركة أنها أجبرت على اتخاذ مثل هذا القرار تحت ضغط حركة المقاطعة، لكن مناضلو BDS يعرفون حق المعرفة أن القرار يحسب لهم.
حركة المقاطعة في فرنسا لم تتشكّل كجمعية موحّدة، بل كإطار واسع يضمّ العديد من منظمات المجتمع المدني والنقابات مثل الكونفدرالية الفلاحيّة، العضو في منظمة Via Campesina العالمية، ومنظمة ATTAC، ومنظمات فلسطينية موجودة في فرنسا، والاتّحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام Union juive française pour la paix، ولجان محلية موجودة في أغلب المدن الفرنسية. وهو ما يعني أنّ لهذه الحملة تواجد وطني ومحلّي على حدّ سواء.
في تقديري التطوّر المهمّ الذي أحدثه حراك المقاطعة في صلب حركة المساندة للقضية الفلسطينية في فرنسا، هو نجاحه في خلق تنوّع من حيث مسارات ومنحدرات المناضلات والمناضلين المنخرطين في النضال من أجل الحقّ الفلسطيني.
المفكرة القانونية: كيف تفسّرين من موقعك هذا ضعف المظاهرات المندّدة بحرب الإبادة على غزة في فرنسا؟
ايمان حبيب: في تقديري، يعود ذلك إلى قوة القمع الذي وصل، وانا هنا ازن كلماتي، إلى مستوى لم نشهده من قبل في فرنسا. فمنذ بداية حرب الإبادة على غزة، عمدتْ السلطات الفرنسية إلى المنع الفوري للمظاهرات وقمعها وهو ما حال دون قدرة الناس عن التعبير الفوري عن سخطهم ورفضهم للعدوان وتعاطفهم مع الفلسطينيين. أنا أتذكّر المظاهرة الأولى التي تمّت الدعوة إليها يوم 12 أكتوبر 2023 ومُنعتْ. يومها اندهشت من كثافة مشاركة الشابّات والشبّان من أصول عربية قدمُوا من الأحياء الشعبية للتعبير رغم قرار المنع. كان ذلك مشهدا لم أره من قبل. حرب الإبادة ولّدت غضبا كبيرا في أوساط هؤلاء الذين لم يعتادوا المشاركة في المظاهرات.
خلال الأشهر الأولى من الحرب، مُنعت وقُمِعت المظاهرات بقوّة في فرنسا ووقع فرض غرامات مالية على حوالي خمسة آلاف متظاهرة ومتظاهر بقيمة 135 يورو، وهي إجراءات على غاية من الخطورة لم تحصل في عواصم أوروبية أخرى، أين ساندت الحكومات إسرائيل لكنها لم تصادر حقّ التظاهر.
مستوى القمع في فرنسا قارب ما يحصل في ألمانيا. وقد حال ذلك دون إمكانية تنظيم مظاهرات جماهيرية. لكن لحسن الحظّ، وقع اللجوء إلى المحاكم لنقض قرارات المحافظات في المنع ونجحنا بعد أشهر في استرجاع حقنا في التظاهر.
أما السبب الثاني فيعود إلى صعود اليمين المتطرّف في فرنسا والخطاب العنيف المعادي للمسلمين للنخب السياسية المهيمنة ممّا ساهم بشكل مباشر في نزع الإنسانية عن الشعب الفلسطيني. وهو ما نتج عنه اعتقاد أنه وخلافا للأوكرانيين، فإنّ الفلسطينيين لا حق لهم في الحياة، والكرامة، والعدالة، والحماية. السكوت عن سياق الاحتلال الإسرائيلي ساهم مباشرة في نزع هذه الإنسانية.
المفكرة القانونية: كيف ترين من موقعك تأثير حرب الإبادة في غزة على الشابّات والشباب المنمّطين عرقيا (racisés) والمنحدرين من الهجرة الما بعد كولونيالية ؟
ايمان حبيب: ما لاحظته شخصيا، من حيث المشاركة في المظاهرات أو في الجمعيات، أن هناك تجدّدا جيليا خلال الأشهر الأخيرة ومشاركة متصاعدة لشابات وشباب منمّطين عرقيا racisés في أشكال تضامن ملموسة مع الفلسطينيين. أنا رأيت بأمّ عيني أعدادا متزايدة منهم في المظاهرات الأخيرة وحراك المقاطعة لجيل جديد غالبيته لم يكن له أيّ نوع من الالتزام قبل حرب الابادة وأصبح منخرطا في النضال. وهو لعمري تطور إيجابي لم نشهده من قبل.
لقد عادت القضية الفلسطينية التي تم تناسيها في الفترة الأخيرة إلى السطح وتزايد عدد الراغبين الجدد في الدفاع عنها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.