في هذا الحوار المُستفِيض، يُحدّثنا عبد الله بن سعد الحاصل على شهادة دكتوراه دولة من كلية الحقوق والاقتصاد والعلوم الإنسانية بجامعة “فرانسوا رابلي” في فرنسا سنة 2002 وأستاذ التعليم العالي بالمعهد الوطني للبحوث الزراعية في تونس عن السياسات الفلاحية التي اتّبَعَتها تونس منذ الاستقلال، والوضعية التي آلت إليها المسألة الزراعية خصوصا في ظل التوجه العام نحو “الرأسمالية العقارية ” في نمط الإنتاج الفلاحي وتشعّب ملف الأراضي الدولية.
مُحَاوِرنا الذي نشر عشرات المقالات العلمية باللغتين الفرنسية والإنجليزية، في مجلات علمية محكمة في عدد من الدول الغربية والعربية حول السيّاسات الفلاحية والاقتصادية والاجتماعية في تونس، يؤكّد أنّ لا بديل أمام تونس الآن سوى إعلان “حالة الطوارئ الفلاحية” والانطلاق في إصلاح زراعي شامل.
المفكرة القانونية: ننطلق من السياق الفلاحي الآني في تونس الذي يدور فيه الجدل حول مستقبل الأراضي الفلاحية الدولية، فهل باتت هذه التّركة التي تعود إلى الاستعمار أزمة مؤبّدة أم رقعة أرقام فقط؟
عبد الله بن سعد: أريد أوّلاً العودة إلى التاريخ للحديث بشأن تشكّل الأراضي الدولية وحجمها الحقيقي لأنّ عديد الأرقام المُتداولة خاطئة، إذ أن أحد الخبراء “الجهابذة” تَحدَّثَ عن تصرف الدولة في مليون هكتار من دون فائدة، وهو رقم خاطئ تماما.
استحوَذَ المستعمر الفرنسي منذ دخوله إلى تونس سنة 1881 على حوالي 715 ألف هكتار من جملة 7 فاصل 5 مليون هكتار من الأراضي الصّالحة للزراعة في القطر قبل سنة 1956 وُزِّعَت على 4500 مستعمر. واستحوذ 350 إيطالي وغيرهم من الجنسيات على 70 ألف هكتار، لتبلغ بذلك جملة الأراضي المستحوذ عليها حوالي 785 ألف هكتارا ما يمثّل حوالي 10% من مجمل الأراضي الفلاحية في ذلك الوقت.
هذه النسبة الضعيفة لا يَجب أن تُخفي مسألة مهمّة وهي أنّ الأراضي التي افتكَّهَا المستعمر هي من أخصب الأراضي الفلاحية وتوجد أغلبيتها في المناطق الرطبة وشبه الرطبة. وبعد 20 مارس 1956 مرّت عملية “تونسة” الأراضي الفلاحية بأربع مراحل:
أوّلاً: البيع الطوعي للأراضي من طرف المستعمرين بعد إمضاء ما سمّي باتفاقية “الاستقلال الداخلي” وقد بلغت المساحة التي فوّتوا فيها بالبيع إلى الدولة التونسية حوالي 127 ألف هكتار، ولكبار الملاكين في تونس حوالي 000 40 هكتار بين سنوات 1956 و1960.
ثانيا: افتكاك الأراضي المُهمَلَة تطبيقا لقانون 7 ماي 1959 المتعلق ب ـ”حجز العقارات الفلاحية المُهمَلَة أو الناقصة استغلالا”، ولم يقع التطبيق إلاّ على نسبة ضئيلة من أراضي المستعمرين لا تفوق 75 ألف هكتار بعد رفض الحكومة الفرنسيّة ذلك الإجراء، وإمضائها بروتوكولين لتقنين تحويل أراضي المستعمرين إلى الدولة التونسية بفرض تعويضات لهم.
ثالثا: شراء أراضي المستعمرين، إذ سارعت الحكومة الفرنسية -وحتّى تحميهم من قانون الحجز لسنة 1959- إلى إجبار الحكومة التونسية على إمضاء بروتوكولين سنتي 1960 و1963 لنقل ملكية “الأراضي الفلاحية للفرنسيين” إلى الدولة التونسية، وبمقتضاه، اشترَت الدولة التونسية من 1960 إلى 1964 حوالي 150 ألف هكتار بمبلغ يساوي مليون و500 ألف دينار (10 آلاف د للهكتار الواحد، بينما كان معدّل ثمن الهكتار الواحد السقوي في شمال تونس في ذلك الوقت لا يتجاوز ألف دينار فقط) كـغَرامة جزافيّة دفعتها الحكومة التونسية للحكومة الفرنسية التي ستُعوّض بها المستعمرين الفرنسيين لإعانتهم على إعادة استقرارهم في مناطقهم الأصلية في فرنسا.
وقد اقترضت الدولة التونسية هذا المبلغ من الدولة الفرنسية، أي أنّ تونس وللمُفارقة حَصلَت على قرض من فرنسا لشراء أراضيها من الفرنسيين المغتصبين لها.
رابعا وأخيرا: “تَونسة” ما تبقّى من الأراضي بإصدار قانون 12 ماي 1964 وسُمّي بقانون “الجلاء الزراعي”، حيث مَكَّنَ تطبيقه من استرجاع حوالي 300 ألف هكتار رغم أن فصله الأول الذي يوحي بتوجه “وطني” يُخفي وراءه فصلا سادسا “عميلا” بتنصيصه على التعويض المادي لمالكي هذه الأراضي.
من خلال ما سَبقَ فإنّ الأراضي الدولية مثّلت بعد خروج الاستعمار مساحة تُساوِي حوالي 828 ألف هكتار (حوالي 745 ألف هكتار “متونسة” وحوالي 83 ألف هك من أراضي الأحباس) ، وقد وقع التفويت في حوالي 40% منها لحاشية النظام ، وعدد من المشاركين في حرب بنزرت، وعبر البيع لكبار الملاكين في العام 1970 من طرف النظام البورقيبي. وبالتالي لم يتبقّ من مساحة هذه الأراضي الدولية سوى 497 ألف هكتار استنادا إلى أرقام وزارة الفلاحة سنة 2020 .
المفكرة: بعد هذا الجرد التفصيلي الدقيق والوضع الحالي للأراضي الدولية في تونس “المتصحّر في مجمله” ما العمل؟
بن سعد: الجواب سهل: الفقراء والعاطلون عن العمل أوْلىَ بالأراضي الدولية من “رأس المال المافيوزي”. فبعد فشل الاستشارة الوطنية حول الأراضي الدولية في جوان 2015 لابد من إعادة هيكلة ديوان الأراضي الدولية وتغيير اسمه ليصبح “ديوان الأراضي الدوليّة والإصلاح الزراعي” حتى نستصلح الأراضي الدوليّة ونَستغلها، وحتى تشمل الفلاحين الصغار عبر التقليل من تشتّت الملكيّة وحجم القطع الصغيرة بتشجيع الفلاحين على تجميع قِطعهم.
وإذا طَبَّقنَا فعليا قانون 1959 المتعلق بحجز العقارات الفلاحية المهملة أو الناقصة استغلالاً فإننا سنتمكّن من الرفع من المساحات المستغلة بصفة فعلية للفلاحين والوصول بهم إلى ما يُعرَف بـ”المساحة الفلاحية الدنيا المجدية اقتصاديا” أي 50 هكتارا للفلاح الذي يعتمد على الفلاحة المطرية لأنه ليس من المعقول في دولة تستورد 60 بالمائة من حاجياتها من الغذاء الأساسي أن تبقى مساحات شاسعة من دون استغلال، لمجرد أن الإقطاعي صاحب تلك الأرض لا يعنيه الإنتاج فيها.
الحلّ الآخر هو تسويغ الأراضي الدولية للفلاحين المُفقّرين والمُعطّلين عن العمل وليس بيعها تحت أي ذريعة. وذلك بتكوين تعاضدّيات للإنتاج الفلاحي، مثلما ينصّ عليه قانون 12 ماي 1984، من الفلاحين المفقرين الذين يملكون مستغلّات صغيرة جدّا (أقلّ من 20 هك) وتكون قريبة من الأراضي الدولية المعنية بالكراء. وهكذا نكون قد ساهمنا في تقليص نسبة المساحات الصّغرى والاقتراب من المساحة الدنيا المُحدّدة ب ـ50 هكتارا للفلاحة البعلية.
المفكرة: كيف يمكن التوفيق بين تجميع الفلاحين الصغار الذي تطرحونه في كل دراساتكم وتحقيق المراد من آلية التصرف في الأراضي الدولية؟
بن سعد: كي نكون عمليين فإنّنا سننطلق من الأرقام التي كانت متداولة قبل 14 جانفي حول شركات الإحياء والمساحات المستغلّة، وهي 240 شركة تستغلّ 250 ألف هكتار (ربعها سقوي وثلاثة أرباعها بعلية) أي بمعدّل 1042 هك للشركة الواحدة، وهو ما يساوي مائة مرّة متوسط المستغلات الفلاحية في تونس (حوالي 10 هك فقط للمستغلّة الواحدة).
نقترح أن يقع تخصيص ثلاثة أرباع المساحة (أي كامل الأراضي البعلية) للفلاحين المفقّرين الذين يملكون أراضي قريبة من تلك الأراضي الدولية ليقع تجميع القطع مع بعضها البعض. أي 187 ألف هكتار يقع تقسيمها على مستغلات تمسح الواحدة 120 هكتار فقط، لتصبح لدينا 1558 قطعة وليس 240 كما هو الحال الآن.
وبعمليّة حسابية بسيطة، وإذا ذهبنا في تكوين التعاضديات الفلاحية بـ4 فلاحين لكل تعاضديّة يساهمون فيها بقطعة إجمالية تمسح 20 هكتار سيصبح كلّ فلاح من هؤلاء وكأنّه يتصرّف في 50 هكتار (20 هكتار ملك خاص و30 هكتار أراضي دولية) ، عندها يصبح عدد المنتفعين يساوي 6233 فلاحا بالتمام والكمال وليس 240 رأسمالي ليس له أي علاقة بالفلاحة كما هو الحال سابقا.
أمّا الربع السقوي المتبقّي، أي 62 ألف هكتار فيقع توزيعه على الفلاحين الشبان (الذين يبلغ عددهم حاليا 5900 شخص يستغلّون 30 ألف هك وهو ما يعطي معدّلا ب 5 ـهكتارات لكل واحد منهم باعتبار وأنّها مستغلات تعتمد الفلاحة السقوية) والمعطّلين عن العمل في شكل مقاسم فلاحيّة. وبعملية حسابية يكون عدد الفلاحين الشبان والمعطّلين عن العمل المنتفعين بمقاسم فلاحية يساوي 12400 من دون احتساب الـ 5900 الحاليين.
في المحصلة نكون قد مكّنا 18633، بين فلاحين كادحين وفلاحين شبان وعاطلين عن العمل، عوضا عن 240 رأسمالي “مافيوزي” كانوا ولازالوا يمثّلون عبئا على الدولة.
المفكرة: كيف تنظرون في هذا الإطار إلى النية في مراجعة الإطار القانوني المتعلق بالأراضي الدولية لفائدة الشركات الأهلية والتوجّه نحو إعداد نص يفرد الشباب بأولوية التصرف في هذه الأراضي الفلاحية الدولية؟
بن سعد: الشركات الأهلية هي مؤسسات صغيرة جدّا أو صغيرة الحجم، واستثماراتها ضعيفة جدا (بين 10 و50 ألف دينار) وخلق مواطن الشغل فيها ضعيف أيضا، لذلك لا يُمكن أن تُمثّل ركيزة رئيسية في المنوال التنموي لخلق التنمية الاقتصادية المنشودة في تونس.
لذلك أعتقد أن الحلّ لا يكمن في إصدار نص جديد لـ “إعطاء الأولوية للشركات الأهلية للحصول على الأراضي الدولية المُسترجعة” (حوالي 70 ألف هكتار) وإنما في تنقيح المنشور المُمضَى من قبل وزيري الفلاحة وأملاك الدولة يوم 16 جويلية 2018 والمُتعلّق بـإجراءات كراء عقارات دولية فلاحية لفائدة العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا وغيرهم، والذي بقي مجهولا من الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي. وهذا المنشور أيضا سيمُكن تلك الشركات الأهلية من الحصول على الأراضي الدولية المُسترجعة من دون تمييز مع الشباب المُعطل عن العمل من أصحاب الشهادات العليا أو من الذين ليس لهم شهادات، وذلك تطبيقا للفصل 23 من دستور سنة 2022 حيث نقرأ: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون دون تمييز”.
المفكرة القانونية: مَرّت تونس، المعروفة تاريخيا بأنها مطمورة روما ولها تجارب فلاحية رائدة، بأزمنة زراعية مختلفة من التعاضد إلى الاتجاه الليبرالي وصولا إلى البحث عن “الخلاص الأهلي” السائد الآن خصوصا بعد نجاح تجربة جمنة وتنسيقية فلاحة أولاد جاب الله في المهدية، فهل نحن بصدد البحث عن أوعية تنظيمية فلاحية جديدة؟
بن سعد: عاشَت تونس منذ الاستقلال على منوالين تنمويين اثنين: تجربة التعاضد من سنة 1963 إلى سنة 1969 والمنوال الليبرالي الذي بدأ سنة 1970 ولا زال مُتواصلا وخلالهما كانت الأراضي الدولية هي محور العمليّة التنموية.
تجربة التعاضد وقع إفشالها، وفيها تم استغلال الأراضي الدولية في شكل تعاضديات إنتاج. ففي سنة 1968 بلغَ عدد التعاضديات 348 تعاضدية تمسح حوالي 379 ألف هكتار، وكان النظام يَهدف من خلال ذلك إلى اعتماد تلك التعاضديات كضيعات مِثالية (مكننة عالية وإنتاجية مرتفعة بحكم التقنيات التي أدخلها المستعمرون عليها) وتشعّ على محيطها من أجل تعصير الفلاحة التونسية والرفع من الإنتاج والإنتاجية. لكنّ تلك التجربة فشلت بسبب التطبيق المعكوس لتكوين التعاضديات، حيث وقع البدء بتطبيق التجربة على الفلاحين الفقراء والتغافل عن الملاكين الكبار، لتفشل بذلك أكبر فرصة للقيام بإصلاح زراعي.
أمّا في فترة اللَّبرلَة الاقتصادية، فقد تَمّ التفويت في جزء من الأراضي الدّولية لحاشية النظام واستغلال بقية الأراضي من طرف ديوان الأراضي الدولية، ووَقعَ إصدار مجلة الاستثمارات الفلاحية سنة 1982 لتبدأ بذلك أولى الشركات الفلاحية تظهر للوجود برأس مال مشترك تونسي/أجنبي، ثم أعطَى قانون بعث شركات الإحياء والتنمية الفلاحية امتيازات جديدة للمستثمرين استغلَّهَا نظام بن علي ليُوزِّعَ الأراضي الدولية على حاشيته والعائلات المافيوزية المحيطة به. هكذا وَقعَ إطلاق يد المُستثمرين الخواص الذين لا يُفكّرون إلاّ في الرّبح الأقصى على حساب دَور الدّولة، فبعد تفكيك كلّ دواوين المناطق السقوية، وعددها 10 موزعة على كل مناطق البلاد، بداية من سنة 1986، تنفيذا لبرنامج الإصلاح الهيكلي، ارتكَز المنوال التنموي الفلاحي على الملاّكين الكبار والمجامع الصناعية/الغذائية الكُبرى. وهكذا أصبحت تونس تُصدر المُحليّات والمُفتَّحَات وتستورد الغذاء الأساسي بعد أن كان العكس هو السائد.
لذلك أعتقد أن تجربة جمنة (التي أسميتها شخصيا كومونة جمنة) التي ارتكَزَت على التسيير الشعبي مع تجربة “تنسيقية صغار الفلاحين بأولاد جاب الله” وغيرها من التجارب الأخرى التي لم تنجح بما فيه الكفاية تندرج ضمن إطار “الاقتصاد الاجتماعي والتضامني” الذي يجب الإسراع بإصدار النصوص الترتيبية له لدفع مثل هذه التجارب الرائدة.
لكن هذه “الأوعية” التنظيمية الجديدة كما ذكرت أنت في سؤالك لن تُحقّق الإقلاع الاقتصادي المنشود بحكم أنها -وكما ذكرته آنفا- هي مؤسسات صُغرى يُمكن أن تُقلّص من بطالة الشباب لكنّها لا يُمكن أن تخلق الثروة.
المفكرة القانونية “لُغم” هَيكلي فلاحي آخر يتعلّق بالأراضي الاشتراكية المقدرة حسب إحصائيات رسمية بـ3 مليون هكتار وصعوبات التّصرّف فيها مع تشتت الملكيات، فإلى أي مَدى يُمكن للتجديد التشريعي أن ينهي هذه الأزمة العقارية والفلاحية؟
بن سعد: أنا أنجزت أطروحة الدكتورا حول الأراضي الاشتراكية، وقُدتُ فريق البحث الوحيد الذي اشتغل على الأراضي الاشتراكية من 2003 إلى 2013، والإحصاء المُقدَّم رسميا خاطئ تماما. فمساحة الـ3 ملايين هكتار من الأراضي الاشتراكية تعود إلى سنة 1956، حيث كانت هذه المساحة مُقسّمة تقريبا بالنصف بين الأراضي الفلاحية بمساحة كانت تُساوي 1،550 مليون هكتار والأراضي الرعوية (مراعي اشتراكية) بمساحة تساوي 1،450 مليون هكتار.
لكن مع الأسف الشديد وقع حرث مئات الآلاف من الأراضي الرعوية بطريقة غير قانونيّة، لتُصبح مساحة الأراضي الرعوية حاليّا لا تفوق 1,227 مليون هكتار أي أنّه وقع قضم حوالي 222 ألف هكتار للأراضي الرعوية وإضافتها إلى الأراضي الفلاحية.
وبذلك فإنّ الأراضي الاشتراكية الفلاحية القابلة للتصفية، والتي أصبحت مساحتها حوالي 1,772 مليون هكتار وقعت تصفيتها إلى حدود سنة 2015 حسب تقرير وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية ولم يتبقّ منها إلاّ 343 ألف هكتار من دون تصفية بسبب الخصومات العقارية المعقدة والمتشعبة أو بسبب هجرة أصحاب الحق إلى الخارج.
ورغم أنّه وقع تنقيح القانون عدد 28 المُؤرّخ في 4 جوان 1964 المُتعلّق بضبط النظام الأساسي للأراضي الإشتراكية بإصدار القانون عدد 69 المُؤرّخ في 10 أوت 2016، وبعد مرور أكثر من 8 سنوات فإنّه لم يُسجّل أي تقدّم في تصفية المساحة المُتبقيّة من الأراضي الاشتراكية والتي بقيت خارج الدورة الاقتصادية.
المفكرة: هل يصحّ القول أننا أمام ضرورة “جلاء زراعي” جديد في تونس يُعيد للمسألة الزراعية مكانتها كأحد أوجه السيادة الغذائية، خصوصا أن الحروب القادمة وفق كل التقارير هي حروب غذاء؟
بن سعد: في السّتينات كانت الفلاحة منظومة مُجتمعية متكاملة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلاّ أنّ الفترة المفصلية التي ساهمت في تهميش الفلاحة تزامنت مع تركيز برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الذي أملاه صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في جوان 1986-1987.
قِطاع الفلاحة والصيد البحري الذي كان من المفترض أن يكون ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني لا يُساهم اليوم إلاّ بحوالي 8% من الناتج المحلي الخام (كانت النسبة تفوق 17 % قبل 1987) ويساهم بنسبة 9% من قيمة الصادرات (كانت النسبة تفوق 19 % قبل 1987) كما لم يعد يوفّر إلاّ 16 % من فرص العمل حاليّا مقابل 35 % في السبعينات.
أمّا كميا، فإنّ مساحة الأراضي الفلاحية المزروعة في تراجع مُستمر، حيث قُدّرت المساحة المزروعة بـحوالي 3.647 مليون هكتار خلال الموسم الفلاحي 2014/ 2015 مُقابل 4.136 مليون هكتار خلال الموسم الفلاحي 2013/ 2014 وفق آخر إحصائية منشورة لوزارة الفلاحة في مارس 2016.
لذلك نؤكد أنّه إن لم يحصل “إصلاح زراعي” حقيقي وليس “جلاء زراعي” فلن يتحقّق “الاكتفاء الغذائي الذاتي” الذي يُمكن أن يُحقّق الأمن الغذائي. فالحروب القادمة هي حروب مائية، وبالتالي حروب حول الغذاء لارتباطه بتوفر مياه الري بسبب احتداد التغيّرات المناخيّة التي نَتجَ عنها شحّ كبير في المياه وارتفاع كبير في درجات الحرارة، وهو ما بدأ تأثيره يظهر في أغلب بلدان جنوب المتوسط وإفريقيا والشرق الأوسط وبلدان آسيا الوسطى.
وفي بلدان المغرب العربي الثلاثة، تونس والجزائر وليبيا، إثر انعقاد قمة في تونس في 22 أفريل 2024 على مستوى رؤساء البلدان الثلاثة وقَعَ إمضاء اتفاقية بين وزراء الفلاحة يوم 24 أفريل في الجزائر لإنشاء آلية للتشاور حول إدارة المياه الجوفية المشتركة بالصحراء الشمالية أين توجد مائدة مائية عميقة تسمى “مائدة القاري المتوسط” ويتوفر فيها مخزون مهم من المياه يقدر بـ 60 ألف مليار متر مكعب لكن حصة كل دولة غير متوازنة مع نسبة المخزون الموجود في كل منها باعتبار أن اتفاقية توزيع الحصص قديمة جدا . وهذا يدل أنّ بلدان المنطقة تعي أهميّة معالجة المسألة المائية بينها قبل استفحال الأمر.
المفكرة القانونية: تحدثت في دراسة علمية بعنوان ” المطلوب منوال تنمية أم اختيارات اقتصادية جديدة لتونس الغد: القطاع الفلاحي نموذجا” -نُشرت على 6 أجزاء بصحيفة الشعب- عن ضرورة إيجاد “منوال تنموي فلاحي” بديل يقطع مع المنوال القديم الذي أثبتت فشله، فما هي أهم عناوين هذا المنوال الذي تتحدث عنه؟
بن سعد: لقد تخلَّت الدولة عن دورها التعديلي والرقابي بعد أن عمدت إلى حلّ كلّ دواوين المناطق السقوية (عددها 11 ديوان). وكانت الدواوين تُرافق الفلاحين قبل عمليّة الإنتاج (تقديم المُخرجات الفلاحية بأسعار معقولة) وأثناءها (الإرشاد الفلاحي) وبعدها (المُساعدة على تسويق المنتوج) ليجد بذلك الفلاحون المُفَقّرون أنفسهم وجها لوجه مع آليات السوق دون أي دعم أو مٌرافقة.
كما قامت الدولة بخوصصة كلّ تعاضديّات ومؤسّسات وشركات ودواوين الإنتاج والخدمات (المُركّب السكّري التونسي، الشركة التونسية للآليّة، الشركة التونسية للدواجن، شركة تربية الماشية بطبرقة، الشركة التونسية للمخابز الصناعية، شركة محطات المياه المعدنيّة، إلخ) إضافة إلى إعادة هيكلة دواوين التنمية بإلغاء بعض أنشطتها وإسنادها للخواص مثل ديوان الأراضي الدوليّة وديوان الحبوب وديوان تربية الماشية وتوفير المرعى وديوان الزيت وغيرها[1] [2] (هي مؤسسات عمومية).
أما الأمران الآخران فهما وضع تشريعات فلاحية تَخدم الأقلية من فلاحين ومستثمرين أمام أغلبية من الفلاحين وانخرام قوى الإنتاج؛ أي قوة العمل وملكية وسائل الإنتاج لصالح طبقة الإقطاع والبرجوازية الكمبرادورية، لنجد بذلك أنفسنا أمام هيكلة طبقية للأراضي الفلاحية جَعلَت 3% من الملاكين الكبار يستحوذون على 34% من الأراضي، بينما لا تملك الأغلبية الساحقة من الفلاحين، أي 97%، منهم إلاّ 66% من الأراضي (75% منهم يملكون مستغلات تمسح 10 هكتار أو أقل).
من يُريد التأكّد من ذلك عليه إتباع الطريق السيارة بين تونس و باجة (شمال غرب تونس) وإلقاء النظر بعد تجاوز منطقة المرناقية ليُشاهد كيف تحوّلت الأراضي التي كانت تُنتج الغذاء الأساسي، أي الحبوب، إلى حقول مترامية الأطراف لأشجار العنب المُعدة للتصدير.
عند اشتغالي على هذا الموضوع الذي يُسمّى في الاقتصاد الزراعي بـ”الاستحواذ العشوائي” على الأراضي الفلاحية وجدت أن كبار الملاكين (طبقة الإقطاع) والمجامع الفلاحية الصناعية الكبرى (طبقة البرجوازية الكمبرادورية) استحوَذُوا من سنة 2016 إلى سنة 2022 على حوالي 200 ألف هكتار من أخصب الأراضي في الشمال الغربي وقاموا بتحويل وجهة إنتاجها من الغذاء الأساسي إلى إنتاج الغلال المعدة للتصدير وهذا “كارثي”.
لقد اقترحت لذلك تركيز “منوال تنموي بديل” مثلما حصل في المغرب سنة 2008 بمخطط أسماه “مُخطّط المغرب الأخضر” وطالبت السلطات التونسية إبان حكومة يوسف الشاهد بتسميته “مخطط تونس الخضراء” واقترحت ذلك رسميا على وزير الفلاحة السابق سمير الطيب (بطلب منه) سنة 2017 من دون نتيجة، وسأضع هذا المخطط بالتفصيل في كتاب ينشر قريبا.
سبب مأساة الفلاحين هي السياسات الاقتصادية التي أفرزت “اقتصادًا ريعيّا” يُسيطر عليه كبار الملاكين والبرجوازية الكمبرادورية، ولا مكان فيه لصغار المُنتجين (فلاحين أو صناعيين أو حرفيين). وحريّ بنا التأكيد على أنّ “الرأسماليّة الريعيّة” هي طبقة رأسماليّة غير مُنتجة اقتصاديا، أي أنّ أرباحها لا تتأتّى من إنتاج السّلَع والبضائع عبر التركيز على “الاقتصاد الإنتاجي” وإنّما عبر امتلاك مصادر “الرّيع” مثل العقارات الفلاحيّة (الأراضي) والحضريّة (البناءَات والأراضي المخصصة للنشاط الاقتصادي الغير فلاحي) وكذلك امتلاك الأسهم والسندات والمضاربة في كل نشاط اقتصادي مربح.
3% من الملاكين الكبار يستحوذون على 34% من الأراضي، بينما لا تملك الأغلبية الساحقة من الفلاحين، أي 97%، منهم إلاّ 66% من الأراضي، و75% من هؤلاء يملكون مستغلات تمسح 10 هكتار أو أقل.
وكان من الطبيعي أن تؤدّي هذه السياسات إلى حصول أزمة اقتصادية واجتماعية حادّة، وهنا نشير إلى تكديس ثمرة النموّ بما فيه الفلاحي في قبضة “دستة” من الأقوياء وتفاقم الفجوة والاختلال الغير مسبوق في التّنمية قطاعياً وجهويّا، وارتفاع معدّلات الفقر والبطالة والتهميش لشرائح كبيرة من التونسيين، بمن فيهم الفلاّحون المُفَقّرُون.
المفكرة القانونية: أصبح الفائض الزراعي في تونس أو السمكي من حبوب أو قَوارِص أو تُمور أو كروم أو أسماك وأخيرا الزيتون يشكل ما يشبه “الصّدَاع” للفلاح والدولة أمام أمراء الأسواق وضعف التخزين والمنافسة خارجيا، فما هي أبرز أوجه الحلول المستعجلة ومتوسطة المد
بن سعد: هذا يَجرّنا للحديث عمن يتحكّم في مسالك توزيع المنتجات الفلاحية سواء خلال فترة وفرتها أو نقصها، فمن سنة إلى أخرى تكتوي جماهير شعبنا الكادحة بنيران الارتفاع جنوني للأسعار نتيجة سيطرة عصابات المافيا على النشاط التجاري للخضر والغلال ومسالك التوزيع وفشل “قرع طبول الحرب” ضد “السماسرة والفاسدين الذين يتلاعبون بقوت الشعب” مثلما هو سائد في الخطاب الرسمي.
لذلك نؤكّد أنّ الآليّة الوحيدة للتصدّي لارتفاع أسعار المواد الفلاحيّة هي “التجميع الفلاحي”، وهي معتمدة في كل البلدان الصناعية، وبخاصة فرنسا والولايات المتحدة. كما بدأ تطبيقها في المغرب كأداة ناجعة لوضع حدّ لحصول السماسرة على النسبة الكبرى من القيمة المضافة للمواد الفلاحية (خضر ، غلال ، لحوم …).
ومن أهم مكونات هذه الآلية ما يعرف بـ”الفلاحة التعاقدية” التي يقع اللجوء إليها لقطع دابر السماسرة من مسالك توزيع المواد الفلاحية وترتكز على 4 إجراءات أساسية:
أولا: تجميع الفلاحين في شكل تعاضديات خدماتية (على مستوى كلّ عمادة) تقوم بإمضاء عقود بيع لأسواق الجملة مباشرة دون أي وساطة. مع ضرورة إعادة هيكلتها لوضع حدّ لتدخّلات عصابات “الحمّارة”[1] (وكلاء البيع) وكذلك إمضاء عقود مع المساحات الكبرى لبيعها المنتوجات الفلاحية، وبذلك يقع القضاء نهائيّا على الوسطاء والسماسرة (الذين يشترون الصّابة على رؤوس أشجارها، الوسطاء خارج سوق الجملة، أصحاب المخازن العشوائيّة، وسطاء سوق الجملة).
ثانيا: إمضاء عقود بَيع مع معامل الصناعات الغذائية لتحويل كمّيات الخضر والغلال الزائدة عن الحاجة (طماطم، فلفل، قوارص، إجّاص، مشمش إلخ).
ثالثا: استعمال تقنية “منظومة المعلومات الجغرافية” لتحديد مواقع كل مخازن التبريد القانونية، وبخاصة تحديد المخازن العشوائية التي تُعد بالمئات ويستعملها المضاربون بعيدا عن رقابة الدولة.
رابعا: رَبط كل مخازن التبريد التابعة لوزارة التجارة بكاميرات مراقبة رقمية مع إيصالها إلى “غرفة التحكّم” في الوزارة وتجهيز الشاحنات التي تَنقل المواد الفلاحية بنظام تحديد المواقع لمُراقبة حَركَتها من مخازن التبريد وإليها.
المفكرة: ماهي الآليات الحمائية الممكن اعتمادها لصالح الفلاح لتحقيق التوازن بين الديمومة الانتاجية والاستثمار الداخلي والخارجي؟
بن سعد: عندما نطّلع على السياسات الزراعيّة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية نجد أنها ترتكز على سياسيات حمائيّة للفلاحين لديهم، مقابل فرض توصياتهم المُتمثّلة في رفع الدعم عن الفلاحين في البلدان الفقيرة عبر استخدام المنظمات الأممية التي يتحكمون في قراراتها.
قَامت الكتلة الأوروبية بتركيز ما يُسمّى “السياسة الزراعية المشتركة” لتأمين إنتاج حوالي 10 ملايين مزرعة فلاحية مُوزَّعَة على كامل دول الاتحاد بميزانية ناهزت 386,6 مليار أورو مُقابل تقييد الواردات من البلدان الأُخرى عبر فرض الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة وتحديد حصص الاستيراد. لذلك أنا لا أرى حلاًّ غير تجسيد الشعارات المرفوعة والمتكررة من أعلى هرم السلطة مثل “السيادة الوطنية” و”التحرّر الوطني” عبر مُراجعة الاتفاقية المُشتركة مع الاتّحاد الأوروبي الممضاة سنة 2015 لإلغاء كل مظاهر الهَيْمَنة والتعامل معه الندّ للندّ دون وصاية أو تدخّل في الشأن الداخلي.
من ناحية أُخرى على الدولة التونسية إعادة النظر في سياسة دعم القطاع الفلاحي رغم شُحّها، والتي يستفيد منها حاليا المُصنّعون للمواد الغذائية، وبخاصة منهم أصحاب معامل الحليب، وتوجيهها إلى المُنتجين مباشرة. فضلا عن إعادة سياسة الدعم التي كانت سائدة قبل تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي لدعم قطاع الأعلاف والمشاتل والبذور حفاظا على ديمومة القطاع الفلاحي.
على تونس مراجعة الاتفاقية المشتركة مع الاتحاد الأوروبي الممضاة سنة 2015
المفكرة: يُعد الملف البحثي الزراعي واستخدام التكنولوجيات من أوكد مجالات التجديد في تونس في الأسوار الأكاديمية وخارجها للوصول إلى ما بات يعرف بالفلاحة الذكية، فكيف تقيّمون واقع الحال في تونس؟
بن سعد: الميزانية المُخصصة للبحث العلمي في تونس لا تتجاوز 0,13% من الناتج الداخلي الخام، بينما تُحدّد منظمة الأمم المُتّحدة للتربية والثقافة والعلوم، اليونسكو، النسبة الدنيا بـ 2 %.
وباطلاَعنا على قانون المالية لسنة 2025 المنشور بالرائد الرسمي بتاريخ 10 ديسمبر 2024، نجد أنّ ميزانية البحث العلمي تساوي 204,787 مليون دينار فقط، أي ما يُمثّل 8,9% من ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي و0,34% فقط من ميزانية الدولة.
وقد أكّد وزير التعليم العالي والبحث العلمي عند مناقشة الميزانية أمام مجلس النواب بأنّه سيقع تخصيص 88,7 مليون دينار لتمويل هياكل البحث ومشاريع البحث العلمي وتثمين البحث، أي أنّ أقلّ من نصف الميزانية (43%) ستُخصّص فعليا للبحث العلمي والباقي للبنية التحتية والتجهيزات. علما وأنّ هذه الميزانية الضعيفة جدّا المُخصّصة للبحث العلمي في تونس لا يذهب منها للقطاع الفلاحي إلاّ نسبة 14% فقط، فهل بمثل هذه المبالغ والنِّسَب يمكن أن نصل إلى مُستوى “الفلاحة الذكيّة” الذي بلغته عدة دول.
سأُنهي جوابي بقصّة حقيقية (من المُضحكات المُبكيات كما يُقال) عشتها شخصيّا سنة 2020 عند اشتغالي بمخبر الاقتصاد الريفي بالمعهد الوطني للبحوث الزراعية في تونس الذي تُعتبر نتائج بحوثه ذات فائدة أُفقيّة لكلّ الاختصاصات الفلاحية الأُخرى. فحين طلبنا ميزانية من وزارة التعليم العالي (التي تُموّل أنشطة البحث لكل مخابر البحث في مختلف الوزارات) تحصّلنا على 40 ألف دينار فقط سنة 2020، وعند تقسيم المبلغ على عدد الأساتذة الباحثين في المخبر كان نصيب كلّ فرد 2500 دينار فقط في السنة. هذا المبلغ لا يُغطّي أصلا تكلفة القيام بمهمّة إلى الخارج للاطلاع على تجارب الباحثين في البلدان الأُخرى وربط علاقات علمية معهم. هذا المثال يغني عن كل تعليق حول مستقبل فلاحتنا.
[1] هم وكلاء البيع أو الوسطاء في حلقة البيع بين الفلاح والتاجر بعد دفع الإثنين لمعاليم ضريبية مستوجبة على العملية، ومن المفترض أن يكون دورهم تسهيل عمليات البيع والشراء في أسواق الجملة وضمان حقوق البائعين والمشترين وإدارات أسواق الجملة لكنهم يتحولون في غالب الأحيان إلى مضاربين ومُحتكرين ومتحكّمين في كل أسعار البيع والشراء وبورصتها، أما في تعريف الفصل 10 من قانون 86 لسنة 1994 المتعلق بمسالك توزيع منتوجات الفلاحة والصيد البحري فإن وكيل البيع هو التاجر الذي يقوم ببيع المنتوجات الفلاحية والبحرية داخل أسواق الجملة لحساب موكله . يقوم بالشراء من هذه السوق تجار التفصيل وكذلك المشترون بالجملة الآخرون الذين يثبتون الصفة.