حوار مع المهندس والخبير في التنمية ومؤلف كتاب “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة منظومة التهميش في تونس نموذجا” الصغيّر صالحي
المحرّر – طفت قضيّة الحرب على الريع خلال السنتين الأخيرتين، لتتحوّل إلى شعار برّاق يلخّص في جزء منه الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس منذ عقود. حرب ظلّت حتى الساعة الراهنة مقتصرة على النقاشات والأطروحات النظريّة دون أي بوادر حقيقية لانخراط السلطة السياسية فيها. لذلك سعت المفكرة القانونية من خلال هذا الحوار مع المهندس والخبير في التنمية ومؤلف كتاب “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة منظومة التهميش في تونس نموذجا”، إلى العودة إلى الجذور العميقة لتأسيس اقتصاد الريع في تونس وأوجه تكيّفه مع مختلف الأزمنة السياسية التي شهدتها البلاد قبل الاحتلال الفرنسي وبعده وصولا إلى حقبة ما بعد 14 جانفي 2011.في هذا الحوار، حاولنا استعراض آليات تأسيس منظومة الريع وميكانيزمات استمرارها وعلاقتها بالدولة ودورها في تعطيل تطوّر الاقتصاد التونسي وخلق الهوّة التنموية المناطقية التي كانت أحد أبرز أسباب اندلاع ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011.حوار يعرّي حجم الضرر الذي ألحقته منظومة الاقتصاد الريعي بالبلاد وكيف يمكن أن تتوارث أمّة ما تبعات خيارات سياسيةّ لسلطة طارئة تبحث عن مشروعية مفقودة او انخرطت في علاقة زبونية في سبيل تركيز أركان حكمها.
تنشأ المنظومة الريعية حين تتجّه الأنظمة الحاكمة، في غياب المشروعية الاجتماعية، إلى تأسيس علاقات زبونية مع فئات اجتماعية قائمة على تبادل المزايا والمصالح مقابل الولاء.
المفكرة القانونية: لنبدأ أولا بتعريف الريع في تونس، فالمفاهيم تتعدّد، الريع في الدول النفطية على سبيل المثال مغاير لطبيعة الريع في تونس. فما هي طبيعة المنظومة الريعية في تونس؟
الصغيّر الصالحي: بداية يجب أن نعي الفرق بين الدول الريعية والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الريعية. الدول الريعية هي التي تتحصل على مداخيل ضخمة دون بذل الجهد على غرار مداخيل تحويلات مواطنيها بالخارج، الإعانات والمساعدات، السياحة الدينية كالحج والعمرة والثورات الطبيعية. وهي تختلف عن المنظومات الريعية التي تشتغل داخل الدول؛ وما يجمع بينها هو كونهما يعملان بنفس الطريقة وهي أن تحصد دون أن تزرع.
أما المنظومة الريعية فتنشأ حين تتجّه الأنظمة الحاكمة، في غياب المشروعية الاجتماعية، إلى عقد تحالفات مع فئات ومجموعات اجتماعية وتؤسّس لعلاقة زبونية قائمة على تبادل المزايا والمصالح مقابل الولاء والدعم والمساندة؛ بعبارة أخرى هي عملية مقايضة للولاء بالامتيازات والتّي تنطبق على المثال التونسي.
المفكرة القانونية: لنعد بالحكاية إلى السطر الأوّل؛ ماهي جذور المنظومة الريعية في تونس؟
الصغيّر الصالحي: بدأ تشكّل المنظومة الريعيّة حين قدم الموحّدون من قبيلة “مصمودة” بالمغرب في القرن 12 واتخذوا من تونس عاصمة لهم سنة 1129. ولخلق القاعدة الاجتماعية التي يحتاجونها لتركيز حكمهم خصوصا وأنهم غرباء عن البلاد، تمّ استمالة الناس بتوظيف الجانب الديني لخلق حاشية من الموالين للمذهب الموحدّي. ومن ثم، تمدّدت هذه القاعدة في الإدارة والمجال السياسي. آنذاك ظهر مفهوم المخزن بتعبيراته الاجتماعية. حيث صنع الموحدّون حزاما من الوسطاء بينهم وبين المجتمع المحلّي، عبر تقديم الأولوية للأجانب من الشام والأندلس وتلمسان ومالطا، نظرا لعلاقتهم العدائية مع المجتمع الذي كان يناصبهم العداء. كان هؤلاء الوسطاء يعملون على تبرير السلطة وحمل خطابها في مقابل الانتفاع بالمناصب الدينية والإدارية والسياسية ثم توسع إلى المشاركة في الاقتصاد خصوصا في عهد المراديّين. ثم ظهر البعد العسكري للمخزن خلال الصراعات الداخليّة. لكن الهيكلة الحقيقية للجانب الاقتصادي لما يسمى بالمخزن، تعزّزت بشكل مفصلي مع يوسف صاحب الطابع الذي أنجز الكثير على مستوى ترسيخ الريع في تونس لعلّ أهمها خلق وظيفة “القايد لزّام” وهي تقوم على دمج الوظيفة السياسية كقايد مع الوظيفة الاقتصادية وهي لزّام. وكانوا يملكون صلاحيات كبيرة منها افتكاك الأموال وسجن المخالفين وارتكزت آنذاك على عدد من العائلات على غرار “نويرة، بالحاج، البكوش، بن عياد…”.
إلى جانب ذلك ظهرت مسألة التساكر. وهي أوراق يعطيها الباي إلى حاشيته ليقوموا هم ببيعها إلى التجار خاصة الأجانب منهم. هذه التساكر تعتبرا تراخيصا لتعاطي التجارة الخارجية خاصة في المنتجات الفلاحية والحرف والرخام. فعلى سبيل المثال كان يوسف صاحب الطابع يحتكر كل ما له علاقة بصناعة الشاشية والرخام. عند هذه المرحلة اكتملت بنية المنظومة الريعية بمختلف جوانبها الدينية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، ولم نستطع أن نخرج منها حتى اليوم. هذه المكونات تغيرت قليلا مع المماليك الذين سيطروا على العسكر وعلى الإدارة مثل مجلس الاعيان أو المجلس الكبير الذي كان يضم الجنرال حسين وخير الدين باشا.
من جانب آخر، كانت وظيفة الأمناء في كل القطاعات كالحديد والقماش والخبز، أحد ركائز الاقتصاد الريعي. حيث كانوا يتحكّمون في حجم السوق وتحديد الأسعار كما رفضوا دخول التقنيات الحديثة في مختلف الحرف والصناعات. ولعلّ من أبرز الأمثلة، أنّ أمين صناعة الشاشيّة توجّه سنة 1922 إلى المقيم العام الفرنسي بطلب لمنع استخدام الآلات الحديثة لصناعة هذا المنتوج، وهو ما استجاب له الفرنسيّون.
النمو الاقتصادي يجب أن يتم عبر تدمير البنى القديمة واستبدالها.
المفكرة القانونية: إذن لعبت المنظومة الريعية التي تشكلت ملامحها مبكرا في تونس في تعطيل تطوّر البلاد وتعصير وسائل الإنتاج؟
الصغيّر الصالحي: المنظومة الريعية والريعيون عموما يتموقعون دائما ضد تعصير وسائل الإنتاج وما يسمى اليوم اقتصاد المعرفة. وهو ما ينطلق منه الاقتصادي النمساوي جوزيف شامبتر صحاب نظريّة التدمير الخلاّق، حيث يعتبر هذا الأخير أنّ النمو الاقتصادي يجب أن يتم عبر تدمير البنى القديمة واستبدالها. القديم سيقاوم بطبيعة الحال لأن التغييرات مؤهلة لإحداث تحوّلات اجتماعية ستهزّ البنية التي ترتكز عليها المنظومة السياسية. وقد شهد التاريخ أمثلة على هذا، على غرار ما يُعرف بحركة “Luddism” في بريطانيا. ففي القرن الثامن عشر، لجأ العمال والحرفيّون في قطاع النسيج إلى مهاجمة المصانع التي بدأت تستعمل آلات الغزل الحديثة. هنا المنظومة السياسية لم تقف ضد التحديث، لأنّها رأت فيه تعزيزا للإنتاج وقدراتها التجاريّة، ولكن وقفت ضدّه البنى الاقتصادية القديمة.
أمّا في مثال آخر، وقفت كلّ من الإمبراطورية الهنغاريّة النمساوية والامبراطورية الروسية ضد مدّ سكك الحديد وتطوير شبكة النقل باستعمال محرّكات البخار حفاظا على البنية الإقطاعية للاقتصاد حينها. فكانت النتيجة أن أصبحوا فيما بعد تابعين؛ وظلّ اقتصادهم متخلّفا خلال تلك الحقبة مقارنة بالدول والأمم المجاورة.
بالعودة إلى تونس، وإضافة إلى ما أشرت إليه سابقا من دور أمناء السوق في تعطيل تحديث وسائل الإنتاج، قبل احتلال البلاد وخلاله، لفتت انتباهي جملة واردة في تقرير مموّل سنة 2012 عن البنك الأوروبي للإعمار والتنمية حول اقتصاد المعرفة في تونس. هذه العبارة مفادها أن بنى الاقتصاد التونسي لا تعترف ولا تهتّم بأهم مصدر لإنتاج الثروة وهو “العلم”.
وقد ظهر هذا المفهوم في ستينيات القرن المنصرم في أمريكا وأساسا عبر مقال تحت عنوان “إنتاج وتوزيع المعرفة في الولايات المتحدة الأمريكية” للاقتصادي الأمريكي فيرتز ماكلوب، ودراسة لبيتر دراكر الذي استخدم مصطلح “اقتصاد المعرفة” و”مجتمع المعرفة “Economy knowledge and Society knowledge“في الفصل الثاني عشر من كتابه “Discontinuity of Age The”. حينها تمّ اكتشاف أنه إضافة العوامل التقليدية للإنتاج على غرار رأس المال وقوة العمل، تندرج المعرفة كعامل جديد وأساسي من عوامل انتاج الثورة. وهي أيضا بضاعة تباع في الأسواق، وهي تعتمد على رأس المال والمهارات. وانجرّ عن هذا تراجع الأهمية الاستراتيجية لقوة العمل.
لم يعترف الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، إلى حد تاريخ وفاته، بالبحث العملي رغم حديثه الدائم عن أهمية العلم
لقد عرّف هذا التقرير المذكور سالفا، اقتصاد المعرفة كونه عملية إنتاج وتوزيع واستعمال المعرفة، وحدّد ثلاثة قطاعات أساسيّة اعتبرها الأكثر تأهيلا للاندماج ضمن اقتصاد المعرفة وهي الإعلامية، التكنولوجيا وصناعة الأدوية. المشكلة إن هذا العامل الجديد في الانتاج يزعج المجموعات النافذة في البلاد لأنّها لا تتحكّم في مساراته. من هنا كان عمليّة التضييق أساسا من خلال مؤسسات الدولة التي من المفترض أن تشرف أو تشمل أنشطتها مجال البحث العلمي، عبر الحدّ من نجاعتها ومردوديتها وضعف التنسيق فيما بينها وهو ما ذكره التقرير. وينبع هذا بالأساس من خيار سياسي، حيث لم يعترف الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، إلى حد تاريخ وفاته، بالبحث العملي رغم حديثه الدائم عن أهمية العلم. ولم يتمّ تشريع نص واضح بخصوص البحث العلمي سوى انطلاقا من بداية تسعينيات القرن الماضي في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، لكن دون الاقتراب من المسائل المعرفيّة التي قد تمس منظومة الريع ومجالات نشاطها.
منظومة الريع ظلّت في ملامحها الكبرى راكدة وعلى شاكلة واحدة منذ حمودة باشا باي حتى اليوم.
المفكرة القانونية: كيف تعاطت دولة ما بعد الاستقلال في تأسيس المنظومة الريعية؟ يذهب البعض إلى أنّها رسّخت مربعات نفوذها بعد فشل تجربة التعاضد في ستّينيّات القرن الماضي.
الصغيّر الصالحي: منظومة الريع مرّت بمراحل. حتى في حقبة التعاضد، ظلّت منظومة الريع موجودة. وأذكر لك على سبيل المثال اسما لا يذكره الكثيرون وهو عمر شاشية. كان شخصية مفصلية واليد اليمنى لأحمد بن صالح. حيث كان واليا على سوسة والقيروان ونابل. عُرف بفساده وتمتيعه لحاشيته في القيروان بامتيازات كبيرة. إذ بينما كانت الحكومة تنشأ المناطق الصناعية في ولاية سوسة، افتك العديد من الأراضي خصوصا في منطقة ولجة على البحر، وقام بمنحها في فترة التعاضد إلى أسماء معروفة من القيروان هم اليوم ودون ذكر أسماء المسيطرون على القطاع السياحي في تلك المدينة الساحلية وفي الحمامات.
حتّى الرئيس الراحل بورقيبة، سمح لعائلات على غرار بن يدّر باستيراد القهوة آخرين باستيراد الأرز، في إطار توزيع الامتيازات وشراء رضا أهالي جربة، وهو مثال آخر على الزبونية الريعية التي أشرنا إليها في البداية. كما لم يُقدم بن صالح خلال فترة التعاضد على المساس بأراضي كبار الملاّك. لاحقا، وسواء في مرحلة رئيس الحكومة هادي نويرة في السبعينيات، ومن تلوه، إضافة إلى حكم بن علي وحتى بعد 14 جانفي 2011، يمكن تلخيص ما حدث، بسلسلة من عمليّات تكييف المنظومة القانونية والسياسية والاقتصادية في كلّ حقبة وفقا لمصالح المتنفّذين. على سبيل المثال، ظلّ أمناء السوق كما هم، فقط تغيّر الاسم إلى الجامعات المهنية. إذن، فمنظومة الريع ظلّت في ملامحها الكبرى راكدة وعلى شاكلة واحدة منذ حمودة باشا باي حتى اليوم.
منظومة الريع لا تعمل خارج الأطر القانونية، بل ضمنها ومن هنا تستمدّ قوتها وحصانتها.
المفكرة القانونية: هل يمكن الحديث هنا عن تواطؤ الدولة مع منظومة الريع؟ وكيف تتمّ عملية التكييف التي أشرت إليها؟
الصغيّر الصالحي: لأن المنظومة السياسية غير قادرة على التأسيس لشرعية حقيقيّة وتحقيق حالة اندماج مجتمعية، فهي تعتمد على منظومة اقتصادية ريعية. بل يمكن القول أنّ الدولة تؤسس للريع عبر رسم سياسات تختار فيها فقراءها في الشرائح الاجتماعية وفي الجهات. فهي من ترسم السياسات الاقتصاديّة وتوزّع الامتيازات وتفتح المجال لبناء هذه العلاقات الزبونية. بل وتحمي منظومة الريع عبر آلية التشريع، إذ أنّ منظومة الريع لا تعمل خارج الأطر القانونية، بل ضمنها ومن هنا تستمدّ قوتها وحصانتها.
على مستوى آخر، تتمّ عملية المحافظة على استمرارية منظومة الريع من خلال المحافظة على المؤسسات القديمة وهياكل الإدارة. علينا أن ننتبه إلى نقطة مهمّة وهي أنّ هيكلة الحكومة ومؤسسات الدولة لم تتغيّر سواء في عهد بن علي أو خلال العشرية الأخيرة. هذه الهيكلة تعكس سياسات الدولة وطريقة معالجة القضايا التي تواجهها كلّ حكومة جديدة. مثلا لدينا في تونس عدة وزارات تُعنى بالشأن الاقتصادي، على غرار وزارة المالية، وزارة الفلاحة، وزارة الصناعة والنهوض بالاستثمار، وزارة الطاقة والمناجم، وزارة التجارة ووزارة الاتصالات. هذا التشظي يصعّب عمليّة الإصلاح خصوصا في ظلّ سوء التنسيق الذي أشار إليه التقرير المذكور سالفا وتاليا المحافظة على مصالح منظومة الريع.
الريع تأسّس بخيار سياسي والحرب ضدّه مرتبطة بوجود إرادة سياسية.
المفكرة القانونية: بعد 14 جانفي 2011، تذهب بعض القراءات لتؤكّد أنّ المنظومة الاقتصادية الريعيّة أصبحت أقوى من الدولة؟
الصغيّر الصالحي: بلى، بعد 14 جانفي، صارت السلطة السياسية في خدمة منظومة الريع لأنّ هذه الأخيرة قد تعاظم دورها بشكل كبير لأن الدولة ضعفت نتيجة ضعف مجلس نوّاب الشعب وضعف رؤساء الحكومات المتتالية. فلا معنى أن تتنافس الأحزاب خلال الانتخابات لتأتي برئيس حكومة ضعيف دون شرعية انتخابيّة أو تجربة سياسية ليكون في نهاية المطاف أداة طيّعة في يد الأحزاب. وصل الأمر لأنّ تُسنّ القوانين حسب الطلب وبالمقابل، بل وتمّ تشكيل كتل نيابية بعد الانتخابات ودون أن يضطر مؤسسوها لأخذ المسار من بدايته على غرار كتلة البحري الجلاصي أو كتلة تحيا تونس لرئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد. هذا الفساد السياسي هو ظاهرة مصاحبة لاقتصاد الريع؛ وأنا أؤمن بأنّ الواقع يُقرأ من زاوية شاملة تأخذ في الاعتبار المعطى السياسي، الاقتصادي والاجتماعي ولكن لا أحد يجمّع كل هذه المباحث على اختلافها، وتتمّ تجزئة القضية بتسليط الضوء أحاديّا على كلّ ملّف كما هو الحال في قضية اقتصاد الريع.
المفكرة القانونية: كيف ساهمت المنظومة الريعية في خلق الهوة التنموية المناطقية في تونس وتعزيز ظاهرة التهميش؟
الصغيّر الصالحي: جغرافيا الفقر والثروة هي في نهاية المطاف خيارات سياسية وهو ما تؤكّده خارطة المرفق العمومي من جامعات ومستشفيات وطرق سيّارة ومراكز التكوين المهني وحتى على مستوى الحضور الإداري. إذن الدولة تختار من خلال توظيف مختلف مواردها الإدارية منها والمالية والتشريعية التي تعطي تبريرات قانونية لخدمة جهات أو أفراد. مثلا، ووفق معايير صناديق السلطة المحلية في علاقة بتدخّل الدولة، فإنّ المناطق الريفيّة هي الأكثر تضرّرا في بلد ما يزال يعيش ثلث سكّانه خارج المناطق الحضرية. حيث تمثل مساهمة الدولة 1/15 من اجمالي التمويل العمومي في مختلف المجالات بين الوسط الحضري والريف. أي لا يحصل المواطن القاطن في ولاية في سيدي بوزيد-التي يعيش 25% فقط من سكانها ضمن المجال الحضري-سوى على 0.37% مما يحصل عليه مواطن في ولاية المنستير التي يعيش مجمل سكانها ضمن مناطق بلديّة. وكذلك ينطبق الأمر على الموارد الطبيعية، حيث يتم نقل الماء من الشمال الغربي إلى المناطق الساحلية وهذا يؤسس للتفاوت الجهوي الحادّ. وقد بدأ التأسيس الممنهج لهذا التفاوت الجهوي في سبعينيات القرن الماضي من بعد استكمال دراسة المدن والتنمية سنة 1973 والتّي أطرتها إدارة التهيئة الترابيّة. لأختم على مستوى هذه النقطة، سأستعير حرفيا في ماء جاء في الكتاب الأبيض الصادر عن وزارة التنمية الجهوية سنة 2011. إذ جاء فيه؛ “وقد أوكلت لهذه الجهات (أسميها مستعمرات داخلية) وظيفة توفير يد عاملة رخيصة للأنشطة الوضيعة”.
المفكرة القانونية: هل يمكن اختزال الأزمة الاقتصادية في تونس ومشاكل التنمية في المنظومة الريعية؟
الصغيّر الصالحي: هو عامل مهم جدا في الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد اليوم. فهناك دول اشتغلت منظوماتها الريعية على ادماج الأنشطة. بينما في المثال التونسي، فيغيب عن بنى المنظومة الريعية رسم سياسات واضحة إضافة إلى غياب الانسجام بينها. قد يعود الأمر إلى رغبة الدولة في التحكّم في تضخّم أنشطة المنظومة الريعية وتطوّر رؤوس الأموال. لكن تجب الإشارة هنا إلى معضلة كبيرة وهي دور النقابات. فالاتحاد العام التونسي للشغل ينتفع كثيرا من المؤسسات العمومية عبر المساعدات والتمويل والتوظيف. اليوم أصبحنا نتحدث عن ريع نقابي؛ ومن الأشياء الغريبة أن الدولة تقتطع من الأجور وتقدم الأموال للاتحاد. النقابات هي جزء من المنظومة الريعية والقضاء كذلك يعتبر جزء من الريّع. ففساد القضاء ظاهرة مصاحبة لتواصل منظومة الريع.
هناك أسطورة يجب توضيحها، المؤسسات العمومية لا تشتغل لصالح المجتمع بل لصالح الإدارة والمتنفذين في اقتصاد الريّع والنقابات
المفكرة القانونية: تعالت الأصوات المطالبة بخوض حرب حقيقية ضد المنظومة الريعية في تونس، لكن الرؤى تختلف حول هذه الدعوات، البعض يرى أن الحرب على الريع هي صراع بين برجوازية ناشئة وبرجوازية تقليدية، والبعض يرى أنها حصان طروادة لمزيد تقليم أظافر الدولة ودورها في الاقتصاد.
الصغيّر الصالحي: قبل كلّ شيء، منظومة الريع في تونس هي ما قبل رأسمالية، وتاليا نحن لا نتحدث عن بورجوازيات بالمفهوم المتداول والكلاسيكي، بل هي منظومة المتنفذين ضمن مناخ سياسي قائم على علاقة زبونية. هذا الصراع قائم بالفعل ولا يقتصر على تونس فحسب. وهذا امر طبيعي نظرا لتشكّل فئات اجتماعية جديدة راكمت الثروة أو صنعت شبكة جديدة من العلاقات أو ترى في نفسها الأحق بإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي وتصطدم حتما بالبنى التقليدية المهيمنة التي تضع أمامهم العوائق.
أمّا بالنسبة لقضية القطاع العام ودور الدولة ومؤسساتها العمومية. ويجب هنا التفريق جيّدا بين المؤسسات/الشركات العمومية والمرافق العمومية التي تقدّم الخدمات الأساسية للمواطنين. هناك أسطورة يجب توضيحها، المؤسسات العمومية لا تشتغل لصالح المجتمع بل لصالح الإدارة والمتنفذين في اقتصاد الريّع والنقابات من خلال الطلبيات والصفقات العمومية. فعلى سبيل المثال ما هو انعكاس شركة الوطنية للتبغ والوقيد على شخص يقطن في منطقة ريفية، أو ألا تنعكس خسائر شركة الخطوط التونسية على دافع الضرائب التونسي؟ الربط بين المؤسسات العمومية والصالح العام خاطئ جدا وأنا أزعم عكس هذا؛ النقابيون يستفيدون من المؤسسات العمومية التي حوّلوها إلى ريع نقابي.
المفكرة القانونية: أمام مناعة منظومة الريع وتمتعها بالغطاء السياسي، هل من أفق لنجاح الحرب على الريع في تونس؟
الصغيّر الصالحي: أزعم أنّ الأمر برمته مرتهن إلى الإرادة السياسية. الريع تأسّس بخيار سياسي والحرب ضدّه مرتبطة بوجود إرادة سياسية. فعملية تكييف المؤسسات الاقتصادية وطريقة اشتغالها لا يحب أن يزعج المنظومة السياسية لأنها قد تصنع حزاما اجتماعيا جديدا قد لا يتعارض بالضرورة واستمرارية المنظومة. كما أنّ الأمر مرتبط بتطوّر وعي النخب السياسية والحزبية وادراكها لخطورة استمرارية هيمنة المنظومة الريعية على القرار السياسي. فالمنظومة السياسية تبنى على المنظومة الاقتصادية وتكيّفها لضمان استمرارها. لذلك فإنّ الاقتصار على التغيير السطحي على المستوى السياسي فحسب لن يقدر على الذهاب بهذه الحرب إلى مقاصدها المأمولة.
وهنا، أنا لا أعلّق آمالا كبيرة على رئيس الجمهورية قيس سعيّد لإحداث تغيير حقيقي في بنية المنظومة الريعية. فعلاقاته محدودة إنسانيا. أمّا على الصعيد المعرفي، فتنحصر على مستوى الثقافة العربية الإسلامية وحقبة العصر العباسي إضافة إلى بعض المعرفة في الشأن الحقوقي، كما أنّه ينظر إلى الواقع عبر الثقب القانوني فحسب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.