“
يحتل موضوع مكافحة الفساد، بين الفترة والأخرى، حيزاً مركزياً في الخطاب السياسي العام.
يتمحور خطاب مكافحة الفساد حول معايير قانونية وخطط إجرائية، يؤثر غيابها أو عدم الالتزام بها من هذا المنطلق، في عرقلة مسيرة بناء الدولة والانتقال الديمقراطي، وفي تعويم الانتماءات الطائفية والفئوية على حساب مفهوم المواطنة والعدالة. بيد أن هذه الخطط والآليات وعلى أهميتها، غالباً ما تتميز بطابع تقني يصطدم بأرض الواقع فتخلق عندها هوة بين الخطاب المعياري من جهة والخصوصية السياسية التي تميز البلد من جهة أخرى.
إذاً، في ظل خطاب سياسي عام يضع موضوع مكافحة الفساد في صلب اهتماماته، لا بد من طرح العديد من الأسئلة ليس حول الجوانب المعيارية لمكافحة الفساد، إنما حول حظوظ نجاح محاولات مكافحة الفساد والحد منه في ضوء النظام السياسي القائم.
لذلك، تطلق “المفكرة” سلسلة نقاشات معمقة مع سياسيين واختصاصيين وصحافيين متابعين لموضوع الفساد، من أجل وضع خطاب الفساد في إطاره السياسي، وتفكيك علاقات السلطة التي تتحكم به والمصالح المختلفة التي تدفع به إلى الأمام في لحظة معينة، أو لغض النظر عنه في لحظة أخرى.
أجرت “المفكرة” المقابلة الأولى مع رئيس المركز اللبناني للدراسات سامي عطالله. وتعتزم إجراء عدد من المقابلات في الأسابيع القادمة.
المفكرة: ما هو السياق السياسي العام الذي يؤطر حالياً خطاب مكافحة الفساد؟ وكيف تفسر اهتمام الأحزاب السياسية المتزايد في مكافحة الفساد، ما هي الأهداف والدوافع؟
عطالله: لا بد من القول بأن الفساد، والخطاب الداعي لمكافحته، ليسا بالشيء الجديد. في الحقيقة، الفساد مستشرٍ منذ أقله فترة ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، كي لا نتحدث عن مرحلة الحرب نفسها.
أما عن أسباب تبني الأحزاب والنخب السياسية الحاكمة لهذا الخطاب، فيعود ذلك لأسباب عدة. أولاً، هنالك محاولة منها لتبرير الفشل الكبير التي وصلت إليه الدولة اللبنانية وبخاصة فيما يتصل بسوء الخدمات العامة على اختلافها. فقد أظهرت الدراسات الترابط المباشر بين مستوى الفساد وجودة البنى التحتية. فكلما كان الفساد كبيراً، كلما ساءت جودة البنى التحتية. والعكس صحيح. ثانياً، تبذل هذه الأحزاب مجهوداً كبيراً لتظهر للمجتمع بأنها ليست متورطة بملفات الفساد. فتنشئ عمداً مسافة بينها من جهة، وبين من هو مسؤول عن الفساد من جهة أخرى. وهذه الاستراتيجية يتبناها جميع الأطراف. كأن الفساد جاء من عالم آخر، ولا أحد مسؤول عنه أو مشارك فيه.
استطراداً، يتبين لنا من خلال التجربة اللبنانية بأن أفضل سبل عدم مكافحة الفساد، هو الادّعاء بمكافحته. ففي حين يتفاخر السياسيون من بعض الأحزاب، بأنهم رأس الحربة في مكافحة الفساد وإن بحوزتهم ملفات وأسماء المتورطين فيها، نراهم يقولون في الوقت عينه بأنهم يعتكفون عن فضح هذه الأسماء. وهذا يشكل مثلا صارخا حول عدم جدية هؤلاء في المضي قدماً باتجاه المحاسبة، إذ غالباً ما تبقى هذه الشعارات غير مقرونة بإجراءات فعلية وحقيقية.
المفكرة: ما هي الخطوات المتخذة حالياً، وإلى من يتوجه خطاب مكافحة الفساد (المواطن، المجتمع الدولي، الشركات الأجنبية)؟
عطالله: لخطاب مكافحة الفساد في لبنان بعدان أساسيان: بعد يتوجه إلى القاعدة الانتخابية المحتملة، وآخر يتوجه إلى الأحزاب وقوى النظام في علاقتها فيما بينها.
البعد الأول، ظرفي وهو ما يرافق عادة مرحلة الحملات الانتخابية أو الحكومات الأولى للعهد. لقد نجح أركان النظام في تأمين فترة سماح جديدة لهم خلال الانتخابات النيابية الأخيرة من خلال إقناع الناس بجديتهم وعزمهم على فتح ملفات الفساد في لبنان. وبالتالي يتحول خطاب مكافحة الفساد إلى عملية لإعادة إنتاج سلطتهم وتأمين استمراريتهم في الحكم.
البعد الثاني، وهو بعد آني لاعبوه أركان النظام أنفسهم ويصار من خلاله إلى التهديد بفتح الملفات. يبدو إن هذه المحاولات تهدف للضغط من أجل القيام ربما بتسويات من نوع آخر. علينا مراقبتها للتأكد من ذلك.
أما الشق المتعلق بالاستثمارات الخارجية، أعتقد بأن الشركات الكبرى على دراية تامة بواقع الحال في لبنان، وهي ليست بحاجة إلى من يقنعها بضرورة الاستثمار في لبنان، من عدمه. وهنا، لا بد من الاشارة إلى مسؤولية المجتمع الدولي تجاه الفساد ومحاربته في لبنان. المجتمع الدولي وضع شروطاً على الحكومة اللبنانية منها مكافحة الفساد والحدّ من الهدر من أجل المباشرة بتنفيذ بنود مؤتمر “سيدر” وتسريح الأموال للمشاريع الكبرى. لكنه في الممارسة بإمكانه أن يغض النظر عن الفساد أو يتغاضى عن وجوب معالجة جذوره. منذ عقود، نال لبنان العديد من الهبات والقروض لإعادة الإعمار. الآن سننال قروضا، وليس هبات. هذا الأمر وفي ظل الوضع الحالي، يمكن أن يزيد ويفاقم من الدين العام. ففي حال لم تحسن إدارة المشاريع، ستهدر الأموال ونجد أنفسها في مديونية أكبر من دون منتوج يساهم في سد العجز المالي. وهذا الأمر يضع مسؤولية كبيرة على الجهات الممولة.
المفكرة: ما هي أنواع الفساد في لبنان؟ ما هي القطاعات الأكثر فساداً؟ وهل هي نفسها التي تندرج على أجندة الأحزاب السياسية، وكيف تفسر ذلك؟
عطالله: في الواقع هنالك، بشكل عام، ثلاثة أنواع فساد في لبنان.
أولاً، “الفساد الإداري” وهو الأقل أهمية في هرمية الفساد. الفساد الإداري هذا، عبارة عن تمرير معاملات ودفع رشوة على مستوى الإدارة أو غض النظر عن الرخص مثلاً.
ثانياً، الفساد السياسي وهو عبارة عن التمسك بمفاصل الدولة ومواردها خدمة لمصالح شخصية، أكانت اقتصادية-ربحية أو سياسية-انتخابية. مثلاً، تستغل النخب السياسية موقعها في السلطة من أجل الحصول على عقود مع الدولة، والتي من دون هذا النفوذ لا يمكنها الحصول عليها، أو تحصل عليها بتسعيرة أكبر بكثير من التي يعتبرونها “تسعيرة خاصة بهم”. وهي أيضاً تستخدم من عينته في الإدارة من أجل تمرير خدمات لهم، قانوناً أو خلافاً لقانون.
ثالثاً، الفساد المشرع. تقنياً لا يندرج هذا النوع في تعريف الفساد. مثلاً، في فترة ما بعد الحرب ومن أجل تمويل عملية إعادة الاعمار، تمّ اللجوء إلى رفع الفوائد على سندات الخزينة، والتي أمنت أرباحاً طائلة للقطاع الخاص وخصوصاً المصارف. ما حدث فعلياً، هو نقل الثروات من الفقراء، الذي يدفعون الضرائب على أنواعها، إلى الأثرياء. لكن العملية كانت بظاهرها قانونية. مثل آخر يتمثل بالاعفاءات عن الضريبة. على سبيل المثال، شركة طيران الشرق الأوسط والجامعات الخاصة في لبنان معفاة تماماً من الضرائب. مؤخراً، علمنا بأن مجلس الوزراء حاول اعفاء بعض الشركات الخاصة من دفع الغرامات على الضرائب. وبالتالي هو يشرع عملية التهرب الضريبي، في حال أقر بند “تسوية الغرامات”. تقنياً هذا ليس فساداً، لكنه “سرقة” للمال العام بطرق مقوننة.
المفكرة: هل من إمكانية جدية يسمح بها النظام السياسي اللبناني (من موازين قوى، ولاعبين…) من أجل المضي قدماً في ملفات الفساد والمحاسبة؟
عطالله: النظام السياسي اللبناني لا مجال فيه للمحاسبة. لقد علمتنا التجربة بأن النظام اللبناني يقوم على تناقضين، لا متوسط لها: إما التوافق، إما التعطيل. التوافق يأتي بالتسويات، ويظهر مثلاً من خلال حكومة الوفاق الوطني، وهي بالحقيقة ليست وطنية، لا بل هي عبارة عن تواطؤ مصالح بين مكوناتها. أما التعطيل، فهو النتيجة المباشرة لعدم التوافق. وبالتالي يصار إلى شلل مطلق في الحياة السياسية وتعطيل تام لمؤسسات الدولة. فشرط المحاسبة والمساءلة هو وجود معارضة وموالاة، وهذا ما لا يسمح بقيامه أصلاً في ظل هذه التركيبة السياسية. تفضل النخب الحاكمة التوافق أو التعطيل، على أن تنقسم بين موالاة تحكم، ومعارضة تعارض.
الفساد يصبح مكوناً أساسياً من تركيبة النظام القائم على أساس توزيع الموارد على الأحزاب الحاكمة، التي تتفق بدورها على توزيع الحصص فيما بينها. وهذا ما يعرف بنظام المحاصصة. والحصة هنا تعني توظيف أشخاص في الإدارة العامة أو نيل عقود ومشاريع من الحكومة اللبنانية. من هنا محاولات الأحزاب المستمرة لكي تتمثل في جميع مؤسسات الدولة، من وزارات وإدارات. وهذا ما شهده لبنان مؤخراً من خلال خطة الكهرباء إذ اقرت بشكل يهمش دور المؤسسات الرقابية، وخصوصاً دائرة المناقصات، وأتى الحل نتيجة للتسويات بين النخب السياسية الحاكمة. هذه التسويات، من شأنها تأمين نفوذ هؤلاء في مراحل الخطة المختلفة، من مناقصات أو تنفيذ.
المفكرة: هل يتناول الخطاب حصراً القطاع العام، ويتجنب القطاع الخاص؟ وما هي مفاعيل هذا التوجه على مؤسسات الدولة، أو الخطاب الداعي إلى الشراكة بين العام والخاص؟
عطالله: يعرف الفساد بشكل عام بأنه سوء استعمال السلطة من أجل منافع شخصية. الفساد في لبنان ليس قائما على القطاع العام بشكل منعزل عن الممارسة السياسية والعلاقة مع القطاع الخاص.
الفساد الأكبر موجود في العلاقة التي تربط العام والخاص. في الواقع، لقد أجرى البروفيسور اسحق ديوان (أستاذ زائر في العلاقات الدولية والسياسيات العامة في جامعة كولومبيا، الولايات المتحدة) والبروفيسور جمال حيدر (أستاذ مساعد في الاقتصاد، في الجامعة الأميركية بالقاهرة) وهم زميلين باحثين في المركز اللبانين للدراسات، دراسة تبين بأن هنالك العديد من الشركات الخاصة مصنفة على أن لديها صلات وثيقة مع السياسيين، وهي تأخذ مشاريع من القطاع العام. وهذه آلية اشتغال الفساد. فلا نعرف كيف يتم التكليف، ولا نعرف من يراقب حسن سير العمل من عدمه. النتائج السلبية لهذه الممارسة وصّفت في لبنان بمقولة “هدر المال العام”. في الواقع هذه كلمة ملطفة. فعلياً أنها سرقة للأموال العامة وليس هدراً.
أنا لست ضد الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص. لكن، أنا مع تنظيم هذه الشراكة على أساس هيئات قضائية مستقلة وهيئات رقابة، يكون لها القدرة على النظر في العقود أو المخالفات، ومع عدم تدخل السياسيين واستعمال نفوذهم من أجل تلزيم هذه الجهة أو تلك. الجميع يعرف بأن العديد من الشركات الخاصة مثلاً تتقاضى مبالغ طائلة مقابل خدماتها أكثر بكثير من الكلفة الحقيقة للخدمة. من حاسب؟
في الواقع، أجرينا في المركز دراسات عدة دراسات أعطتنا مدخلاً جديداً لفهم تركيبة المجتمع اللبناني. في لبنان مقاربة كسولة للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تقول بأن الطائفية هي علة العلل ومحور الحياة العامة. بيد أنه من الخطأ مقاربة المجتمع اللبناني حصراً من خلال الطائفية: هنالك معايير أخرى منها الطبقية، أو الجندرة الخ. نكتشف بدراساتنا بأن أهم من موضوع الطائفية في لبنان هي مسألة “الوصول إلى الخدمات”. ويظهر بأن الشبكات غير الرسمية التي تؤمن الخدمات للمواطنين متكونة من مختلف الطوائف. في الحقيقة الشرخ الأساسي في لبنان ليس طائفياً بقدر ما هو بين “من لديه ومن ليس لديه”. أي من يملك الثروات ومن لا يملكها، ومن لديه وصول إلى شبكات الزبائنية ومن لا وصول له إليها. لا بد من الإشارة، إلى أن هذه الشبكات، خصوصاً في زمن الانتخابات، تؤمن بعضا من المدخول إلى بعض اللبنانيين، لكنها تساهم في إفقارهم على المدى البعيد.
المفكرة: هل مكافحة الفساد موضوع تقني صرف، أم سياسي؟ كيف نوفق بين الإثنين؟ هل يجوز (أو يمكن) المناصرة من أجل خلق أطر ومؤسسات لمكافحة الفساد من دون إعادة النظرة بالتركيبة السياسية؟
عطالله: في الإجمال، يسوّق خطاب مكافحة الفساد من قبل المؤسسات الدولية والمجتمع المدني على أنه موضوع تقني يتعلق بقوانين الحوكمة وشفافية البيروقراطية والإدارة. لكن الشفافية وحدها غير كافية من أجل المحاسبة. في الحقيقة، هنالك حيز كبير من الشفافية في لبنان. وهذا ما تشهد عليه تقارير التفتيش المركزي وديوان المحاسبة والتي غالباً ما تكون شفافة في تسليط الضوء على التجاوزات. لكننا في المقابل نفتقر إلى القوى التي تمضي قدماً في المحاسبة. من هنا، فإن المعلومات أساسية لكن لا جدوى لها من دون محاسبة.
يظهر حالياً في الإعلام بأن هذا خطاب مكافحة الفساد مرتبط بمؤتمر “سيدر”. طبعاً هنالك محاولة من الأحزاب الحاكمة لتبيض صورة النظام من خلال إظهار نيتهم في محاربة الفساد. لكن المكونات الحقيقة التي تتضمنها هذه الخطوات، بعيدة كل البعد عن الطابع السياسي للفساد، وهي تأتي بطابع تقني مفروغ من أبعاده السياسية المرتبطة بالنظام، وكيفية اشتغاله. مثلاً، بدل أن نضع القضاء في المقدمة كحجر أساس في عملية الإصلاح ومن ضمنها مكافحة الفساد، نقدم خطوات تقنية من نوع مثلاً تحسين إجراءات التقاضي، ولا ندخل في عمق الموضوع، أي كيفية كف يد السياسيين عن القضاء وتأمين حصانة للقاضي.
المفكرة: في ظل وجود العديد من القوانين (قانون حماية كاشفي الفساد) والهيئات (هيئة مكافحة الفساد) التي من شأنها الحد من الفساد، وهل من نتيجة من دون قضاء مستقل؟
عطالله: كل الأدوات والمؤسسات الكفيلة بمكافحة الفساد معطلة أو مقيدة حالياً في لبنان. الأجهزة الرقابية المختلفة وبالرغم من أنها تمتلك الصلاحيات، لكنها إما تفتقر للموارد إما تتبع لمؤسسات أعلى منها تشلّ عملها وتعطلها. مجلس النواب دروه الرقابي خجول جداً، ولا نراه يحاسب نظراً لأن جميع القوى السياسية النيابية متمثلة في الحكومة. الإعلام أيضاً مسيس جداً وتابع للزعماء. أخيراً، النقابات مشلولة تماماً ولا تقوم بالدور المطلوب منها. لقد عمد النظام إلى ضرب جميع المقومات الأساسية بحيث لم يبق شيء من أجل المحاسبة. الجميع مساهم في تفريع مقومات المؤسسات المكافحة للفساد في لبنان وذلك بالرغم من وجود العديد من القوانين (قانون الوصول إلى المعلومات، قانون شفافية النفط والغاز)، وكلها قوانين لا يؤمل في تفعيلها في ظلّ عدم استقلالية القضاء. طبعاً، كل المحاولات أكانت عن حسن أو سوء نية لا تصلح من دون قضاء مستقل. يبقى الخطاب إما عبارة عن عرض مسرحي، وإما عبارة عن ورقة ضغط بين اللاعبين الأساسيين يستعملونها ضد بعضهم البعض. في ظل هكذا نظام، الناس لا يستطعون الذهاب الى القضاء. السؤال الأهم، والجواب عليه ليس بديهيا: “من سيدفع في اتجاه قضاء مستقل، في حين أن جميع الأحزاب مستفيدة من الوضع الحالي؟ كيف نتفق على معايير القضاء المستقل؟” للنتقل إلى العملي. هل يمكن محاكمة أحد المسؤولين عن الفساد حالياً في لبنان؟ في حال الادعاء على أحدهم أو وضعه تحت الشبهة، يتحول الموضوع إلى سياسي وطائفي. تظهر هنا سياسة الخطوط الحمر. يصبح الهجوم على الموظف أو السياسي، هجوما على الزعيم، وبالتالي على الطائفة. وهنا تنتهي القضية. الأسوأ من ذلك، لم نعد نتيقن من أحكام القضاء ومدى صحتها.
المفكرة: في لبنان، مقارنة ببلدان عربية أخرى، مساحة وافية من الحرية تسمح للرأي العام والإعلام والجمعيات من تناول موضوع الفساد وتسمية الجهات المتورطة في هذه الملفات، فهل هذا كاف من أجل المضي قدماً بفضح المتورطين في الفساد، وما هي المحاذير أو العوائق التي تحول دون ذلك؟
عطالله: مساحة الحرية هذه مهمة جداً لكنها غير كافية. ما نلاحظه في لبنان، بأن النظام قادر على تحويل هذه الحرية لمصلحته. وهو فعلياً يعمل على ذلك من خلال مسارين متوازيين. المسار الأول، يقوم على فكرة بأنه لا يجوز أن يطرح أي موضوع من دون تقديم مستندات، وطبعاً هذه خطوة في باطنها نوع من الترهيب. طبعاً أنا ضد التشهير بالناس، ولكن لا مانع من التداول بالموضوعات في العلن أيضاً. ليس للسياسيين الحق في أن يقولوا ما هو مسموح أم لا. لا بل القضاء هو الجهة الوحيدة الكفيلة في ذلك.
المسار الثاني، وهو الأهم في لبنان ربما، حين يتحول تداول مكافحة الفساد إلى مادة إعلامية. وبالتالي، يصبح موضوع الفساد مادة خصبة على المحطات التلفزيونية، المملوكة من أركان النظام. يتحول حينها موضوع مكافحة الفساد إلى نوع من “العرض”، وتنتهي القضية بلحظتها.
المفكرة: هل من بنى مجتمعية قادرة أو تقوم حالياً بمواكبة خطاب الفساد؟ ومن هي؟ وما هو دور المجتمع في المساهمة في فتح أطر موازية تساهم في تعزيز الخطوات الرسمية ورصدها ومراقبتها؟
عطالله: لا. القوى المجتمعية المختلفة والراغبة في التغيير ليس باستطاعتها خلق هوة في الجدار الحالي. بالرغم من أهمية الخطوة التي اتخذها المجتمع المدني لخوض الانتخابات على لوائح موحدة، إلا أن هذه الحالة المميزة لم تحقق النتائج المرجوة. الفشل هنا لا يتحمله المجتمع المدني وحده الذي قدم البديل الذي لطالما اعتقدنا بأن هذا ما يطالب به المجتمع اللبناني. السبب لفهم هذا العجز هو خوف المواطن من أي تغيير محتمل …المواطن بشكل عام يناصر ويدعم كل الحملات من أجل محاربة الفساد وهو يريد التغيير، لكنه ليس على استعداد للتخلي أو خسارة الخدمات التي تؤمنها النخب السياسات الحاكمة (تعليم، صحة…). وبالتالي، هو يتمسك حتى الآن بهذه “المكاسب”، وليس على استعداد للمغامرة بها. وهذا ما ينطبق على جميع الطبقات الاجتماعية، الغنية، الميسورة أو الفقيرة.
المفكرة: هل تثق بأن الملفات المختلفة ستصل إلى خواتيمها؟ وما أثر ذلك على النظام والمجتمع؟
عطالله: ليس الموضوع مسألة توقعات. لا نعرف ماذا سيجري. نسأل كثيراً ما إذا الحكومة اللبنانية قادرة على تنفيذ الإصلاحات تجاوباً مع مطالب مؤتمر “سيدر”. بطبيعة الحال، يمكن أن يكون الجواب إيجابيا ويصار إلى تبني وتطبيق عدد من الإصلاحات في قطاعات ما. المسألة ليست الإصلاح بقدر ما هي مسألة مصلحة مجتمع. هنالك خوف، في الحقيقة، أن تأتي هذه الإصلاحات على حساب الشرائح الكبيرة من المجتمع، كأن تصيبه اقتصادياً أو بيئياً مثلاً. فيمكن لبعض الخطوات التي تصنف في خانة الإصلاح، أن تكون مضرة بالبيئة أو للصحة (كالمحارق على سبيل المثال). نسأل في هذا السياق، هل أركان النظام راغبون في الإصلاح، هل هم مستعدون للتنازل عن مصالحهم، أو حتى التخلي عن بعضها؟
“