درس خالد فهمي الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة قبل أن ينال الدكتوراه في التاريخ من جامعة أوكسفورد وهو مختصّ في تاريخ الشّرق الأوسط وتاريخ مصر في القرن التاسع عشر. عمل في جامعات برنستون ثم نيويورك ثم كولومبيا ثم هارفارد وهو الآن أستاذ في جامعة تافتس ببوسطن. في هذا الحوار الشيق مع المفكرة القانونية يتحدث الدكتور فهمي عن مقاربته لكتابة التاريخ الاجتماعي في مصر وعن اشتباكه مع “الحداثة” وعن هزيمة 1976 والثورة وأشياء أخرى.
المفكرة القانونيّة: في كتابيْك الملهمين “كل رجال الباشا. محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة” الذي يبحث في التاريخ الاجتماعي لجيش محمد علي، ثم “السعي للعدالة. الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة” الذي يدرس تطور المؤسستين الطبية والقانونية في مصر في العقود الوسيطة من القرن 19، أنت تشتبك مع المنهجية المهيمنة لكتابة التاريخ من وجهة نظر رجال السلطة والنخب السياسية وتتبنى كتابة “التاريخ من أسفل” من منظور عامة الناس (جنود، فقراء، عبيد سود، نساء …). أين تكمن أهمية هذه المقاربة اليوم في منطقتنا العربية في رأيك؟ وكيف تفسّر هامشيتها مقارنة بما هو عليه الحال في الهند مثلا باعتبار ما أنتجته مدرسة “دراسات التابع”(Subaltern Studies)؟
خالد فهمي: هذا سؤال مهمّ ومحوري. أعتقد أنّ ثمة هيمنة في منطقتنا العربية للعديد من الخطابات السائدة. هناك بالخصوص الخطاب القومي، والخطاب الإسلاموي، وكلاهما يُبرز النخب ورجال الدولة أو رجال الفكر. فالسّرديات الشائعة هي عن تعاقب الدول والحكّام. في مصر مثلا، يُدرّس التاريخ الفرعوني، ثمّ التاريخ الإسلامي، ثمّ التاريخ الحديث، حيث يتمّ التركيز على تسلسل الحاكمين، مع إشارات قليلة وهامشيّة إلى أحوال المجتمع وفئاته. فالسرديّة ترتكز على تطوّر الحكومة والدولة المركزية ورجال السلطة. السرديّة الإسلامويّة تتقاطع أيضا في النظر إلى التحقيب مع السرديّة القوميّة. أعتقد أنّ ذلك له آثار وخيمة لم تدرس بالشكل الكافي، ومن أهمها الإحساس بالغربة وعدم الألفة والاستبعاد، ليس فقط من جانب النساء أو المهمّشين من الأقليات الدينية أو العرقيّة، ولكن حتى من الذكور المسلمين، الذين لا يجدون أنفسهم في هذه السرديّة الفوقيّة. النتيجة الحتميّة حسب رأيي هي إحساس المواطن أنّ هذا التاريخ ليس تاريخه، بما لذلك من تبعات وخيمة على شعور الناس بالانتماء والارتباط. النتيجة الأخرى، في مصر مثلا، هي إحساس الناس بأنّ التاريخ مزيّف، وأنه خاضع لأهواء الحاكم. هذا الشعور تعزّز بعد انقلاب السيسي في 2013، حين رأى الناس بأعينهم كيف أنّ الأحداث التي شاهدوها بأنفسهم، يجري طمس ملامحها وإعادة كتابتها بشكل مضلّل. من هنا جاء اهتمامي بمحاولة كتابة تاريخية مختلفة، تحاول أن تلتمس مكانا للأفراد العاديّين، ما أسميهم الأنفار. أنا لا أحبّذ مصطلح “التابع” في ما أكتبه. المقارنة مع الهند مهمّة، ويمكن أن نضيف لها تركيا وإسرائيل ودولا أخرى شهدت محاولات دؤوبة في آخر جيل أو جيلين من المؤرخين لهدم السرديات القومية السائدة. من ذلك السير النقدية لأتاتورك وبن غوريون وبقيّة القادة الصهاينة، وكذلك لغاندي ونهرو وحزب المؤتمر، وحتى للأفكار المهيمنة في المدرسة الماركسية والمدرسة القومية في الهند. لكننا لا نجد ما يعادل هذا الاتجاه النقدي في منطقتنا، وأعتقد أنّ ذلك انعكاس لأزمة المشروع العربي وأزمة الدولة القومية بعد الاستقلال. طبعا، المؤرخون الجدد الإسرائيليون، أو مدرسة التابع في الهند، أو المؤرخون الأتراك الذين حاولوا إعادة كتابة التاريخ العثماني أو تاريخ المذابح الأرمنية، هم في النهاية من المهمشين، ولم ينجحوا في الهيمنة على مناهج الدراسة. ولكنّهم على الأقلّ موجودون. أمّا في منطقتنا، فإن الاتجاه النقدي في التاريخ غائب. والسبب حسب رأيي هو أنّ المشروع القومي عندنا انهزم، لذلك نحن لا نملك ترف المراجعة. وذلك على عكس المشروع القومي الصهيوني أو الهندي أو التركي، وجميعها نجح بدرجات مختلفة بغضّ النظر عن التحفظات المشروعة حولها، مما يسمح بطرح أسئلة أخرى. محاولتي كتابة تاريخ نقدي لمحمد علي أو عبد الناصر، تواجه بمقاومة ضروس. فعبد الناصر فشل، والمشروع القومي المصري بعد محمد علي حصلت له انتكاسات عديدة، بما يجعل تلقّي العودة النقدية لهذه التجارب صعبا. لذلك أعتقد أنّ عدم وجود مدرسة نقدية عربية تنتقد السرديات المهيمنة، يعود بالأساس إلى أزمة الدولة القومية بعد الاستقلال.
ولكن لو استطعْنا أن نكتب تاريخا يجد القارئ أو القارئة نفسه/ا فيه، سيكون لذلك تبعات مهمة، ليس فقط في فهم التاريخ، ولكن أيضا في فهم الواقع، أو فهم السياسة اليوم. أنا أحاول مثلا أن أشتبك نقديّا مع ظاهرة مؤلمة، تتمثّل في حملات هدم المقابر التاريخية في القاهرة. وقد كان لي الحظّ من حوالي 20 سنة، أن أعمل في دائرة من المتخصصين في منطقة محدودة من الجبانة، وهي قرافة السيوطي. حاولت أن أكتب تاريخا، ليس من وجهة نظر معمارية ولا حول العظماء الذين دفنوا هناك، وإنما تاريخًا اجتماعيّا. وقد كان غرضي أن أقول أنّ القرافة ليست “مدينة الأموات”، كما تسمى بطريقة مشينة. فحاولت كتابة تاريخ يجد القارئ نفسه فيه، حول من كان يتردد على المدافن، ليس فقط في المواسم، ولكن أيضا لتلقّي العلم والتقوى، حيث كانت هناك تكايا ومدارس تاريخية في القرافة. للأسف لم يتسنّ لي كتابة هذا البحث، ولكن لو استطعت ذلك، ربما كان ذلك يساعد الناس الآن على الاشتباك نقديا مع المحاولات الدؤوبة لهدم القرافة، عبر امتلاكها رمزيا، وعدم الاكتفاء بأن تكون القرافة مستودعًا لمعاني هوياتية، وهو الخطاب النقدي السائد، الذي يبقى خطابًا نخبويّا. فالناس مستبعدون ليس فقط من المدينة، ولكن أيضا من السرديات حولها. لذلك أنا آمل أن تساهم كتابة التاريخ التي تحاول إيجاد علاقة بين الناس والسرديات في التأثير على إحساس الناس بانتمائهم للمكان وليس فقط للزمان. وقد لمست ذلك في ثورة 2011. فعلى قدر ما كنت أقف مشدوها أمام طاقة الشباب وآرائهم وأفكارهم المبتكرة، على قدر ما كنت أخشى عليهم من عدم إدراكهم لتاريخهم وعدم تملّكهم لسرديّة تاريخية يجدون أنفسهم فيها. فهُم أبناء اللحظة، وهو ما ساهم حسب رأيي في غياب رؤية للمستقبل. فكتابة التاريخ من أسفل، هو بالدرجة الأولى اشتباكٌ سياسي. وأنا أفهم الاستقبال الجيّد لكتابي الأول، وبالأخصّ إعادة اكتشافه بعد الثورة، بأنّ الناس مشتاقة لطريقة في كتابة التاريخ تحترمهم وتدمجهم في سرديتها.
المفكرة: كلا كتاباك يبحثان في تشكل الدولة الحديثة في مصر ويعتمدان على مقاربة فوكلدية تعتبر الجسد وحدة أساسية تحليلية لدراسة تجليات ممارسة السلطة ومقاومتها من قبل الأهالي. هل لك أن تفسّر لقرائنا أكثر منهجيتك كما التحديات التي تطرحها على مستوى البحث الأرشيفي؟ وهل يمكن تعميمها على بلدان أخرى في المنطقة؟
فهمي: سأحاول طرح أمثلة يمكن من خلالها للقارئ أن يتلمس طريقة تفكيري وكيف تبلورت. عندما كنت أكتب عن تاريخ جيش محمد علي، كانت أعزّ صديقة لي، ريم سعد، وهي مختصّة في الأنثروبولوجيا، تدرس في أطروحتها رؤية الفلاحين المصريين لتاريخ مصر الحديث، بناء على بحث ميداني في قرى محافظة الفيوم. وقد تحدثتْ مع الفلاحين عن خبرتهم في الهجرة وفي الحروب. فكنت أستمع إليها وأقول لنفسي ماذا لو تسنّت لي الفرصة أن أستجوب جنودًا في جيش محمد علي؟ أي أسئلة يمكن أن أطرحها عليهم، كي أفهم رؤاهم لعالمهم؟ طبعا، أنا مؤرخ محكوم بمادّتي، ولكن كانت هذه نقطة البداية. كنت قد أمضيت أكثر من عام في دار الوثائق القومية، وتراكم لديّ كمّ كبير من الوثائق. هذه الوثائق لم يكتبْها الجنود أنفسهم بما أنّهم كانوا أميّين، فلم يكتبوا مذكرات أو رسائل يمكن أن نفهم من خلالها ما كان يجول بخاطرهم، كما الجنود في الحرب الأهلية الأمريكية أو الحرب العالميّة الأولى أو الثانية. الوثائق المتوفّرة هي خطاب السلطة. فلا يظهر العساكر في السجلات إلا كمُذنبين في محاكمات عسكريّة، غالبا بسبب فرارهم من الجيش. فكنت أسأل نفسي عمّاذا يمكن أن يقول الجندي عن تجربته؟ حسب رأيي، هو لن يكرّر السرديّة الرسميّة حول محمد علي، وإنّما في أغلب الظن سيروي كيف كان يرعى الغنم في قريته، ثم جاءتْ كتيبة التجنيد وخطفته من أسرته وحقلِه، ثمّ سيق به إلى معسكر التدريب… إلخ. كنت أحاول تلمّس تجربة الجندي تحديدا في المعركة. بالمناسبة، بناء الكتاب يقوم أيضا على سرديّة الجندي كما أتخيّلها. التي وضعتها داخل قوسين، قوس أوّل حول محمد علي ونظرته وطموحاته، وقوس أخير حول علاقة محمد علي ببريطانيا. ولكن، أكثر فصل مكّنني من تلمّس تجربة الجندي بشكل يومي، هو الفصل الخامس، حول حياة الجنود في المعسكرات، وهو الذي تبلورت فيه فكرة اتخاذ الجسد كوحدة للتحليل، والذي بنيت عليه بعد ذلك كتابي الثاني. منهجيا، مكّنني ذلك من محاولة كتابة تاريخ التلامس بين تجربة الجندي وإرادة الحاكم. في السلطة، التي لها أغراضها وسرديّاتها، تتقاطع مع الفرد حين تحاول أن تقبض على جسده، خلال عملية التجنيد. لذلك حاولت أن أفهم عبر الفصل المخصصّ للتجنيد، منطق الدولة في الاستحواذ على جسد الفلاحين، ومنطق الفلاحين في مقاومة هذا التجنيد سواء بالفرار أو تشويه الأجساد أو الثورات الفردية أو المحلية. من هنا بدأت التفكير في كيف يمكن أن نتخذ من هذه الممارسات (التجنيد، التطعيم، الكشف الطبي المستمر، الخ)، أدواتٍ لفهم السرديات الطبية والعلمية والبوليسية، من جهة، ولكن أيضا سردية الجنود، عبر الإشارات الموجودة لبعض أفعال المقاومة التي لجؤوا إليها، في غياب كتابات مباشرة منهم. من هنا أهمية اتخاذ الجسد كوحدة للتحليل. فأنا لست معنيّا بكتابة تاريخ الفكر أو تاريخ أفعال النخب، ولكنّي معني أساسا بتتبّع ممارسات الفلاحين. لذلك حاولت الاقتراب من أجسادهم على قدر الإمكان، عبر دراسة عمليات التجنيد والتطعيم. بل كنت قد كتبت فصلا قبل أن أضطرّ لاستبعاده، حول السلخانات، وطريقة ذبح الماشية، في رأيي هذه هي بداية القصّة. كتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي تبدأ من أسفل لا من أعلى.
أمّا بخصوص حظوظ تعميم هذه التجربة في المنطقة العربية، فلست متأكّدا من ذلك. تجربتي في دار الوثائق كانت تجربة فريدة، وأنا كنت محظوظا في العثور على هذه السلسلة الهامّة من الوثائق. أنا أعرف من طلّابي أنّ الأرشيف التونسي غنيّ أيضا. ولكن التحدّي الأهمّ هو الابتعاد عن إغراء المصادر المتعلّقة بالسلطة، التي تكون متاحة وسهلة. في كلّ مصدر هناك الطريق السهل، وهناك محاولات للالتفاف عليه، للوصول إلى أصوات أخرى، وممارسات أخرى. أنا دائما ما أحذر طلابي من الوقوع في هذا الشَّرَك. وهذا لم يكن صدفة، ولكنه نتيجة لمحاولات سياسيّة دؤوبة لفهرسة وترجمة وحدات أرشيفية بعينها، وإهمال وحدات أخرى لا تهمّ أجنداتهم. استغرق الأمر لديّ عقودا كي أفهم هذه السياسة الكامنة وراء الأرشفة في دار الوثائق.
المفكرة: في مصر كما في تونس، يكاد تاريخنا المهيمن يقتصر على تتبّع مسارات شخصية “الحاكم المُصلح” الذي أخرج شعبه المتخلّف من ظلمات القرون الوسطى الإسلامية إلى نور التحديث الأوروبي: “محمد علي مؤسس الدولة الحديثة” في مصر، “المصلح أحمد باي” وبورقيبة “محرر المرأة” في تونس… نقد مفهوم الحداثة يشكل محورا أساسيا في أعمالك. هل لك أن تفسر لنا ذلك؟ وهل يمكن برأيك استئناسا بالمدرسة الديكولونيالية اعتبار دخول بونابرت إلى مصر، مثل “استكشاف أمريكا”، شهادة ميلاد لعلاقات استعمارية جديدة للهيمنة والتراتبية الهرمية وفق معايير عنصرية، دينية، وجمالية…. أسست لكولونيالية السلطة كما عرفها Anibal Quijano ؟
فهمي: ثنائيّة التناحر بين التراث والحداثة مهيمنة على خطابنا القومي والتاريخي والسياسي والفني. هناك محمد علي كأيقونة، وحملة بونابارت كأيقونة أخرى. وكثيرا ما يقع المزج بينهما. أتذكر أنّ في المئوية الثانية لحملة بونابرت، عقدت الكثير من الندوات والأنشطة لدراسة هذه الثنائيّة. على سبيل المثال، كثيرا ما يتمّ التركيز على المطبعة التي أتى بها نابليون بوصفها أوّل مطبعة حديثة دخلت مصر، وذلك للتأكيد على أهميّة الصدام والالتقاء مع الغرب وأفكار الثورة الفرنسيّة تحديدا، وتأثير ذلك على الحياة الثقافية والسياسيّة المصريّة. العمل الأيقوني في هذا المجال هو كتاب لويس عوض “تاريخ الفكر المصري الحديث”، الذي نشر في جزئيْن سنة 1969، والذي يعكس هذه الفلسفة ويعبّر عنها خير تعبير. هناك عالمان، واحد متوسّط إسلامي عثماني، وهناك الفكر الحداثي الذي أتى به الفرنسيون. في السبعينات وأوائل الثمانينات حصلت محاولات لزعزعة هذه الثنائيّة، أهمّها مؤرخو مدرسة التاريخ الاجتماعي في جامعة عين شمس، لمحاولة إعادة قراءة وكتابة تاريخ مصر في هذه الفترة. ثمّ جاء كتاب بيتر غران (Peter Gran)، الأصول الإسلامية للرأسمالية (Islamic roots of capitalism: Egypt, 1760-1840)، لمحاولة الاشتباك النقدي مع هذه السردية التي تجعل من الحملة الفرنسيّة بداية الحداثة في مصر. بيتر غران حاول قلب هذه المعادلة، حيث أبرز علامات لحداثة محلّية سابقة للحملة الفرنسيّة، بل أنّها أجهضت من طرفها. أنا لديّ أسئلة كثيرة حول هذه الدراسة، وأعتقد أنّها جانبت الصواب في منهجيتها، ولكنّ الأهمّ هو الفلسفة المبنية عليها. هذا الاتجاه أكملته نيللي حنّا في كتابات أرقى وأعقد من كتاب بيتر غران، ولكن السؤال حسب رأيي هو، هل يجب علينا أن نسعى إلى الحداثة أم أن ننقدها؟ من هنا مدخلي المختلف. فإجابتي هي أنّ علينا أن نفكّك هذا المصطلح، ليس بالإحالة على الأفكار التي تنتج ممارسات، ولكن على الممارسات التي تنتج فكرا. في مثال المطبعة، الكلام عن دور المطبعة في التنوير وزعزعة الأفكار القديمة هو سجالي، ينبغي أن ننأى بأنفسنا عنه. تحديدا، ما هي الأعمال الفكرية التي قامت هذه المطبعة بطباعتها؟ هي طبعتْ منشورات عسكريّة تحذّر الأهالي من ممارسات معيّنة. الجزء الأكبر من المنشورات يتعلّق بحماية جيش الاحتلال الفرنسي من الأوبئة والثورات. فعن أيّ تنوير نتحدث؟ هذا يحيلنا إلى أطروحة إدوارد سعيد في الاستشراق حول امتزاج السلطة بالمعرفة، الذي فكّكه فوكو أيضا. فالمنتج الموسوعي الضخم الذي قامت به الحملة الفرنسية حول مصر هو خير تعبير على هذا التشابك بين السلطة والمعرفة، ليس فقط بالنظر إلى كلّ العلماء الذين أتوا ضمن الحملة، ولكن أيضا لأنّ إنتاج هذه المعرفة لم يكن ممكنا لولا وجود جيش احتلال. فكلّ الإشكالية حول الحداثة ضدّ التراث يجب تفكيكها في هذا المعنى. أيّ حداثة وأي تراث؟ كتابي الثاني، السعي إلى العدالة، هو محاولة للاشتباك مع لويس عوض ومع هذه الثنائيّة. فأنا أبدأ بالمشهد حول لوحة فنيّة لعمليّة تشريح جثّة في إطار درس طبّي، تعبّر عن انتصار فكر التنوير على خزعبلات الفكر الديني، وهو خطاب سجالي لأحد رموز التنوير الفرنسي في مصر كلوت بك (الطبيب أنطوان كلوت، عيّنه محمد علي لتأسيس إدارة طبيّة للجيش). هذا الخطاب ردّده كلّ من أرّخ للحملة الفرنسية، وهو يربط بينها وبين الفكر التنويري والإصلاحي، ويرى المقاومة نابعة من فكر قروسطي متخلّف، حيث نحتاج إلى حاكم مستنير ومستشارين أوروبيين للقضاء على هذا التخلف. لهذا الخطاب تبعات خطيرة على واقعنا الحالي، فهو خطاب كلّ الحكومات، حيث أنّ سبب التخلف هو الشعب. أنا كنت أحاول تفكيك هذا الخطاب من خلال تحليل هذه اللوحة، من أجل كتابة تاريخ مغاير لعلاقة المرضى بالطبّ، معاكس لما رسّخه كلوت بك في موضوع التطعيم والتشريح والمستشفيات.
المفكّرة: أبحاثك تتشابك كذلك مع المدرسة النقدية الليبرالية للشريعة التي يمثلها عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد والتي كما كتبت هي في جوهرها تصوّر فقهيّ للشريعة مرتبط بالتّقليد الخطابي للفقهاء؟ كيف ذلك بالضبط وكيف تفسر هيمنة هذه المقاربة النقدية للشريعة في منطقتنا؟
فهمي: أعتقد أنّ الوضع في تونس لا يختلف كثيرا عن الوضع في مصر. الاشتباك العلماني مع السردية الإسلامية يقول: نحن لا نختلف على النصّ، ولكن على عمل الفقه، وهو عمل إنساني مفتوح للنقد والاشتباك والرفض، وهو ليس مقدّسا. لذلك يجب أن نعيد فتح باب الاجتهاد كي نشتبك مع النصّ المقدس بشكل مبتكر يواكب متطلبات العصر. أنا أفهم هذا الاشتباك. ولكن أختلف معه من وجهة نظري كمؤرخ. فأنا عملت على سجلات المحاكم الشرعيّة، وهي مصدر غنيّ جدا في مصر وتونس وغيرها من دول المنطقة، لفهم تاريخنا الاجتماعي. ولكن هناك أيضا اتجاه يرى في هذه الوثائق مصدرا هامّا جدّا لكتابة تاريخ القضاء وتاريخ القانون، يمكّننا من أن نفهم مثلا ليس فقط مسائل كنفاذ النساء للقضاء أو دور الأقليات، ولكن أيضا كيفيّة ممارسة الشريعة. الصورة التي تتضح لنا من هذا البحث مختلفة شيئا ما عن دراسة الشريعة من خلال كتب الفقهاء. هناك مثال بالغ الأهمّية، وهو “الحدود”. هناك من يقول أنّها لم تعد مواكبة للعصر، وعقوبات لاإنسانيّة، في حين يردّ الإسلاميون بالتذكير بالمحاذير الفقهيّة المقترنة بالحدود. مدخلي مختلف، ليس كيف نظّر الفقهاء للحدود، ولكن كيف طبّقت، من خلال دراسة سجلات المحكمة الشرعية. هناك دراسة رائدة لزميلي الهولندي رودولف بيترز، قام فيها بمسح عيّنة لقضايا القتل التي حدثت في عام واحد من القرن 18 في مصر، حسب سجلات إحدى المحاكم الشرعية. النتيجة التي وصل إليها هي أنّ قضايا القتل التي انتهت إلى إصدار حكم بالقصاص لا تتعدى 2%، في حين تعذّر إصدار حكم بالقصاص في بقيّة القضايا إما لعدم توفّر القرائن أو لقبول أهل الضحيّة الديّة أو مسامحتهم القاتل. هذه النسبة مهمّة جدّا حسب رأيي، لأنّ قضايا القتل خطيرة مجتمعيا، ومع ذلك لا توجد لها عمليا عقوبة رادعة. هذا يعني خللا في منظومة العدالة، حتّم على المجتمعات الإسلامية أن تجد بديلا وحلّا لهذه الإشكالية. فكان البديل هو مبدأ التعزير، أي السلطة التقديرية الممنوحة للحاكم، الذي يسنّ قوانين وعقوبات ليست مبنيّة على الفقه للتعامل مع ظواهر معيّنة. فبعد أن يحكم القاضي الشرعي بإسقاط الدعوى، لا تنتهي القضيّة هنا، فهناك مجال قضائي آخر، لم يأت من الغرب، ونتج ليس على الفقه الإسلامي وإنما على “السياسة الشرعيّة”. جزء كبير من الممارسة القضائية الإسلامية لم يكن مبنيا على الفقه، وإنما على السياسة الشرعية. من هنا اشتباكي مع طلال أسد، الذي يتمسّك في كتابه Formations of the secular بثلاثة نصوص فقط تنتمي لأواخر القرن 19، وهي نصوص فقهيّة أو سجالية. ما أقوله في كتابي “السعي إلى العدالة”، هو أنّ تاريخ الشريعة لا يمكن اختزاله في الفقه. فالشريعة ليست فقط الفقه، وإن كان أسمى ما أعطت الثقافة الإسلاميّة من فكر، وإنما هي أيضا سياسة وممارسة اجتماعية. هذا هو بالضبط اشتباكي مع الفكر الإسلاموي وكذلك الفكر الليبرالي، مع مفكرين مثل طلال أسد أو حتى وائل حلاق، جميعهم يحصرون التاريخ في جانبه الفكري والفقهي، ويهملون تاريخ الممارسات.
المفكّرة: ما هي انعكاسات هذه المقاربة للشريعة في الاشتباك السياسي مع الداعين إلى ضرورة تطبيق الشريعة في مجتمعاتنا ؟
فهمي: الفكرة هي ضرورة الاهتمام بتاريخ المجتمعات، بتاريخ البشر. إذ أنّ اختزال التاريخ الإسلامي في 30 أو 40 سنة، وهي فترة تواجد الرسول والخلفاء الراشدين، لا يقلّ أثره عن مقولة “إغلاق باب الاجتهاد”. نحن لسنا أول من اشتبك مع هذه الأسئلة، يوجد قبلنا نحن 13 قرنًا من الممارسة الإسلامية الخلاقة والمبدعة مع هذه الأسئلة. فكيف يمكن أن نهمل هذا التراث المبني على ممارسات المجتمعات الإسلاميّة، في تبايناتها واختلافاتها؟ اختزال الشريعة في الفقه، واختزال التاريخ في الفكر، هو أكثر ما يجب أن نشتبك معه نقديّا.
المفكّرة: أنت سجلت 12 حلقة ممتعة جدا مع جريدة الموقف المصري حول “هزيمة يونيو المستمرة” ما هو الخيط الرابط بين أعمالك السابقة وحرب 67 وهزيمة عبد الناصر؟ ماذا تحكي لنا هزيمة 67 اليوم عن هزيمة ثوراتنا العربية وعن مآلات التيارات القومية؟
فهمي: محمد علي وعبد الناصر هما أهمّ شخصيتين في تاريخ مصر الحديث. أنا أعمل حاليا على نشر ترجمة عربيّة لكتاب سيرة لمحمد علي، كتبته في 2006، مباشرة بعد الانتهاء من كتاب رجالات الباشا. كان ذلك نابعا من إدراكي أنّ التعامل مع شخصيّة هامّة مثل محمد علي، يمرّ عبر كتابة تاريخ مؤسسة ما ولتكن الجيش في مرحلة أولى. عبد الناصر حسب رأيي شخص أصعب في التعامل عنه، وذلك بالنظر لقربه الزمني لنا، وأيضا لأنّنا نعلم عنه الكثير. جزء كبير من تجربتي في التعامل مع محمد علي، كان محاولتي أن أنسى ما تعلّمته عنه (unlearn)، وهذا أصعب بكثير عند الاشتغال على عبد الناصر. إقبالي على دراسة هزيمة 1967، هي محاولة للشروع في كتابة سيرة نقديّة لعبد الناصر، مثلما كانت دراسة الجيش تمهيدا لكتابة سيرة محمد علي. في كتابي “كل رجال الباشا”، كانت معركة قونية، وهي أكبر انتصارات ابراهيم باشا في الأناضول، حجر الزاوية، ومفتاح فهم الصورة البراقة عن هذا الجيش وما تخفيه من حقائق. هزيمة يونيو تلعب دورا مماثلا، سواء بالنسبة لعبد الناصر كشخص، أو مصر كمجتمع. فمع أنّ تجربة الكتابة عن الهزيمة قاسية، أنا أعتقد أنّ فهم النظام الناصري، وفهم مصر القرن العشرين، من خلال هذه الهزيمة، أجدى وأدقّ بكثير من التركيز على حربي 1956 و1973. حسب رأيي، أحلى ما في شخصيّة عبد الناصر ظهر في هذه الهزيمة، وكذلك فشله الذريع في إعطاء المصريين دورًا في إدارة أمور دولتهم. انتصاراته النفسية وهزائمه الأخلاقيّة تتبدى في 1967.
أعتقد أنّنا، ليس فقط في مصر وإنما في المنطقة، مازلنا نعيش هزيمة 1967. ولهذا سميّنا السلسلة “الهزيمة المستمرّة”. نحن تاريخيا مهزومون، ونلئك جراحنا بطرق مختلفة، كما تحاول نخبنا العسكرية والسياسية التغاضي على ذلك ورسم صورة مغايرة. الكلام عن الهزيمة ليس محاولة لجلد الذات. انتقاد الحكّام ليس جلدا للذات، كما فعلت مع محمد علي حول لحظة انتصاره. مهمّة المؤرخ هي أن يسأل أسئلة صعبة، ليس فقط سياسيّا ولكن أيضا نفسيّا. لذلك حاولت أن أطرح السؤال حول طبيعة الهزيمة، والمتسبب فيها. وقد خلصت إلى نتيجة مفادها أنّ المتسبب في الهزيمة ليس شخصا بعينه، وإنّما هي هزيمة هيكليّة. هي هزيمة هيكليّة ليس فقط بمعنى اللعب على إسم حسنين هيكل، ولكن بمعنى أنّها لم تكن فقط هزيمة عسكريّة، وإنما هزيمة نظام وفلسفة ورؤية للعالم. فنحن لا زلنا مهزومين، ليس فقط أمام إسرائيل، التي أعتبرها العدوّ الأكبر لكينونتنا كشعوب ولمشروعنا العربي. فالأخطر من مسائل الصلح والتطبيع، هو عدم طرح الأسئلة وعدم الاشتباك النقدي مع طبيعة الهزيمة وأثرها في حياتنا. ما زالت الدراسة لم تكتب بعد، خصوصا وأنّ التحدي هو ليس فقط الاشتباك مع السرديّات السائدة في مصر، ولكن أيضا مع السرديّة الإسرائيليّة، للمزج بين النقدين في كتاب واحد. في مصر لا توجد سرديّة واحدة، وإنما تفسيرات أعتبرها “تقنية”، تحاول أن تفسّر لحظات بعينها. من بينها تفسير تمكّن سلاح الجوّ الإسرائيلي من تدمير الجزء الأكبر من الطائرات المصريّة صباح 5 يونيو وهي رابضة في قواعدها، بوجود عبد الحكيم عامر في مهمّة في سيناء بالطائرة وإصداره أمر عدم إطلاق النار خوفا على طائرته. أو التفسير القائل بأنّ الطيارين المصريين كانوا، في الليلة الفاصلة بين 4 و5 يونيو، ساهرين في حفلة. أمّا تفسير حسنين هيكل، وهو شائع في العالم العربي، فهو يربط الهزيمة بمؤامرة أعمق حتى من اسرائيل ومن حلفائها، ضدّ عبد الناصر الذي يظهر في صورة البطل الإغريقي المحكوم بالهزيمة. هذا التفسير التآمري هو حسب رأيي علامة من علامات الهزيمة. فهو لا يتطرق لتفاصيل المعارك، وما عاشه الجنود. فهم الهزيمة يجب أن يبدأ من هذه التفاصيل، ولكن من دون أن ينتهي هناك، وإنما بتوسيع الزاوية تدريجيا حتى نشتبك مع طبيعة النظام السياسي الناصري والأسباب الهيكلية للهزيمة. التفسير العسكري مهمّ، ولكن يجب أن يفضي بنا إلى مستوى أعلى من التحليل، لفهم نظام الحكم، وتحديدا علاقة قيادة الجيش بمؤسسات الدولة المدنيّة. هي نفس المعضلة التي ما زلنا نعيشها في بلداننا إلى الآن، وهي أنّ النظام المتسبّب في الهزيمة لم يسقط. بهذا المعنى بالذات، نحن ما زلنا مهزومين. بل أنّ علامة هزيمتنا، هو أيضا تواصل حجب أرشيف الوثائق والمصادر التي تمكّن المؤرخ من معرفة ما حدث.
المفكرة: كنا منهزمين، ورغم ذلك قمنا بمحاولة في 2011 ومنينا بهزيمة جديدة. ماذا تبقّى حسب رأيك من الحراك الثوري في المنطقة وخصوصا في مصر، ونحن نمر بالذكرى العاشرة لمجزرة رابعة المرعبة ومُقترفوها مازالوا في السلطة؟
فهمي: الثورة انهزمت، والثوّار انهزموا ونكّل بهم وهناك من فقد الأمل. ولكنّ تحليل الثورات لا يجب أن يقتصر على الأفراد والحركات والمؤسسات. فرغم أنّ الثورات المضادّة نجحت نجاحا ساحقا، إلا أنّ الحراك الثوري ما زال موجودا بمعنى ما، لأنّ الأسباب التي أدّت إلى اندلاع هذه الثورات مازالت قائمة، بل تجذّرت وتعمّقت أكثر. أتذكّر عندما اندلعت الثورات، دعيت إلى لقاء في البي بي سي، يحاول ترجمة الحركات العربية إلى خبرات أوروبيّة، عبر مقارنتها بين ما سموه الربيع العربي، وبين ربيع الشعوب في 1848، وحركات 1968، ثمّ الحركات التي مهدت إلى سقوط جدار برلين في 1989. إجابتي كانت أنّ الثورات العربيّة لا يجب أن تقرأ وفق نموذج أوروبي، ولكن إذا لزمت المقارنة، فالأقرب هو ربيع الشعوب 1848، الذي انتهى إلى انتصار القوى المحافظة وقمع كلّ الثورات. مع ذلك، الأفكار الليبرالية والاجتماعيّة هي التي ترسّبت وترسّخت وأعطت ثمارها بعد نصف قرن أو يزيد. برأيي، ما يُصعّب المهمّة لدينا هو وجود إسرائيل ووجود النفط. ولكن الحراك الفكري ما زال موجودا، وما أتلمّسه في مصر تحديدا في الشهور القليلة المنصرمة، هو ظهور جيل جديد لم يفقد الأمل، يبني على الهزيمة، ويحاول التعلّم منها. النظام في مصر لم يسقط، ولكنّه أضعف بكثير مما كان عليه قبل سنوات. إمكانيّة العمل لا زالت موجودة، بتكلفة باهظة، ولكن قراءتي التاريخية تقول أنّنا في بداية الحراك الثوري ولسنا في نهايته.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.