“
المفكرة: بصفتك عضوا في لجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد منذ أيام المجلس التأسيسي حتى اليوم، ما هي الأسباب والخلفيات التي جعلتك تعمل على هذا الموضوع؟
الرحوي: منظومة الفساد هي أحد الأسباب التي فجّرت ثورة الحرية والكرامة. وهي منظومة متماسكة وممأسسة في بلادنا وتتطلب مجهودا كبيرا جدا لتفكيكها. ولذلك انخرطت في هذا لاقتناعي أنّه من الضروري مقاومة الفساد من أجل بناء دولة عصرية تترسّخ فيها نزاهة المعاملات وشفافيتها. وأعتقد أيضا سياسيا أن الفساد والاستبداد متلازمان، فبقدر مكافحتك للفساد بقدر مكافحتك لعودة الاستبداد. على الرغم من أن صورة الاستبداد القديمة لم تعد موجودة اليوم، إذ لدينا حرية التعبير والتنقل والتنظّم، إلاّ أن استعادة منظومة الاستبداد من خلال منظومة الفساد تبقى ممكنة. ونحن نعلم جميعا أنّ كل الأنظمة الاستبدادية في العالم ترافقها وتتعايش معها منظومة فساد كبيرة ومنتشرة ومتفشّية.
المفكرة: من خلال كل ما سبق، ما هي مقاربتك لملف مكافحة الفساد؟ وما هي الإجراءات العملية التي قمت بها؟
الرحوي: مقاربتي هي التشهير وإبراز ملفات الفساد للعموم وإحراج من لهم صلة بهذه الملفات وخاصة في السلطة السياسية. مثلا: ملفّ رفع التجميد عن أموال مروان مبروك، وملفّ السكن الاجتماعي الّذي كان فيه تفضيل وقائمة لباعثين عقاريين متمتّعين بامتيازات دون غيرهم. وقد تمّ مراجعة الأمر على ضوء ما استهدفناه بعملنا. ويتجلّى عملي في هذا المجال في الأسئلة الشفهية والكتابية التي قدّمتها إلى الوزارات والمداخلات في الجلسات العامة ولجنة المالية التي أترأسها.
المفكرة: ماذا عن تصريحاتك سابقا بأن الحكومة الحالية تتعاطى مع الفساد ولا تحاربه؟ هل ترى أنّ هناك حربا على الفساد حدثت في تونس؟
الرحوي: لم توجد حرب على الفساد بأتمّ معنى الكلمة. هناك بعض الأفعال المتناثرة والتي تأتي إما لإبراز صورة سياسية أو للتعاطي مع ملفات يفرضها الواقع أو الإعلام وتعقيد الملف وحجمه. نحن نعتبر أن الحرب على الفساد تتطلب تحديد سياسة لمكافحة الفساد، وطبعا عندما نتحدّث عن سياسة يجب أن تكون متعدّدة الأبعاد أي فيها البعد التشريعي والبعد المؤسساتي والبعد التربوي التثقيفي، وكذلك البعد المباشر المتعلّق بالوقاية من الفساد ومقاومته لأنه من الضروري وجود آليات وقاية وتحديده في المجالات المختلفة، عدا عن مكافحته والتصدّي له. وأظنّ أن هذه السياسة ما تزال غائبة إلى حد بعيد في تونس بفعل غياب الإرادة السياسية، حيث أن أغلب الأحزاب الحاكمة لديها صلة بشكل أو بآخر، بصفة مباشرة أو غير مباشرة بمنظومة الفساد. يعني أن تعاطيهم مع منظومة الفساد يمنعهم من أن يكونوا في حرب ضروس ومفتوحة ضدّ الفساد ولذلك تجدهم يتعاطون مع ملفات ويغطّون على أخرى.
المفكرة: ما تقييمك لدور الإعلام والمجتمع المدني في هذا المضمار؟
الرحوي: في الحقيقة، الإعلام لا يقوم بدوره كما يجب، فهو بشكل عام غير منخرط في العملية بشكل واسع وبشكل إرادي لأن الإعلام نفسه متشتت ومنحاز أحيانا فضلا عن أن له ارتباطات تعوقه. أنت تعرفين أن الإعلام اليوم يتمتعّ بتمويلات خاصّة كبيرة وهذا يؤثر على مدى استقلاليته . لكن أعتقد أن الإعلام لعب دوره إلى حدّ ما في فترة الترويكا، من حيث التشهير بكل الظواهر التي لديها صلة بموضوع الفساد والسياسات المتّبعة عموما. ومع تولي يوسف الشاهد رئاسة الوزراء، تم توظيف الإعلام، وبخاصة العمومي، لصالح مشروعه السياسي ولصالحه الشخصي، وبخاصة في المعركة التي خاضها ضد الباجي قائد السبسي (الرئيس الراحل) وابنه. أما بالنسبة إلى المجتمع المدني فأظن أن دوره الأساسي يقوم على التشهير والكشف عن الفساد.
المفكرة: ما هي الملفات التي ترى أنه يجب إعطاؤها الأولوية؟
الرحوي: علاقة الفساد بالأحزاب، التمويل وتضارب المصالح، وشفافية المعاملات ونزاهتها، وأيضا السياسات العمومية وبخاصة القوانين التي يتم انتاجها على المقاس.
هناك مثلا قانون التشجيع على الاستثمار الذي هو في الواقع قانون يمكّن بعض المستثمرين من نيل منافع وامتيازات. عندما تجد فصولا في قانون يفسد المؤسسات الاقتصادية والصناعية الوطنية لصالح المؤسسات الأجنبية فهذا فساد. الّذي تمّ سنّه في علاقة بتحيين رخص استغلال رخام تالة هو قانون يقوم بتحيين وضعية استيلاء على أملاك الدولة. وهناك أيضا العديد من القوانين التي تتعلّق برسم سياسات تخدم مصالح أطراف بعينها وليست في صالح إنتاج اقتصادي وطني ينتفع منه الجميع ويمكّنهم من المنافسة النزيهة.
المفكرة: ما هو تقييمك للهيئات الرقابية ومحكمة المحاسبات والقضاء بشكل عام؟
الرحوي: بخصوص هيئة مكافحة الفساد، أعتقد أن أداءها مهمّ، فهي وضعت العديد من التصورات والتمشّيات التي كان لديها مردودها في مكافحة الفساد، وفي مسألة الهيئات الجهوية، والانتدابات بالخبراء الذين مكّنوا بالفعل من التقصي في قضايا الفساد. كما أنّ حضور رئيس الهيئة الذي عقد عدة اتفاقيات مع وزارات ومنظمات وبروزه أحيانا في دور المحذّر من الفساد مهمّ لأنه يحدّ من تفشي الظاهرة.
أعتبر أن محكمة المحاسبات بصدد القيام بعمل جيد. وكذلك بقية الهيئات الرقابية الموجودة، لكنّ المتابعة فيما بعد ليست في الموعد. وهنا أتحدّث عن المتابعة من طرف الحكومة والجهات القضائية التي من الضروري أن تتعهّد بالملفات وتأخذها على محمل الجدّ بغية الوصول إلى نتائج.
أما بخصوص القضاء، فأظن أن إصلاحه من أهم الأجندات التي يجب طرحها لأن القضاء هو عماد بناء الدولة العصرية والجمهورية الديمقراطية واحترام القانون والمساواة أمام القانون. وأعتقد أن نتيجة إصلاح القضاء ستمكن من تساوي الجميع أمام القانون والخروج على منطق الإفلات من العقاب. ومن أهم العناوين في هذا المضمار، علاقة النيابة العمومية بالقضاء والحكومة والتي تبقى إلى الآن غير واضحة.
- نشر هذا المقال في العدد | 15 | سبتمبر 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
نكره الفساد الذي يكبر فينا
“