“
المفكرة: كنت رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرّف في المال العامّ لمدّة 3 سنوات، وتشغل حاليا منصب نائب الرئيس فيها. فما هي دوافع عضويتك بهذه اللجنة؟ وأي أسباب دفعت بك لتبني مشروع مكافحة الفساد؟
العماري: أنا مهتمّ بالإصلاح الإداري والحوكمة ولذلك تواجدت في اللجنة من انطلاقها على الرغم من كونها لجنة خاصّة وليست تشريعية. العمل في هذه اللجنة متعب جدّا حيث أنّه لم يتمّ تثمين التقارير التي أصدرناها واشتغلنا عليها كثيرا.
فالنظام الداخلي للمجلس لا يمنح هذه اللجنة صلاحيات وأهمية كبرى. لذلك ظلّ دورها قاصرا رغم المجهود الكبير الذي بذل داخلها. لقد سجّلنا في لجنة الإصلاح الإداري جلسات تاريخية بحضور أكبر عدد نواب في لجنة خاصة أو تشريعية. حصل ذلك في ملفّ مشغّل الاتّصالات go malta بحيث فاق عدد الحضور للمرة الأولى 50 نائبا بحضور رئيس المجلس. وقد اشتغلت اللجنة بحرفية وعملت على ملفات كبرى وما تزال. لكن للأسف لا نعرف مآل تقاريرها ومصيرها. نحن اليوم نشعر بالمرارة، لكن عزاؤنا أنّ اللجنة أسّست لمفهوم جديد للرقابة البرلمانية. وآمل أن من سيأتي بعدنا سيواصل على نفس المنهاج ويطوّر العمل الرقابي أكثر ويضبطه بالنظام الداخلي كي يكون لدى اللجنة مزيد من الآليات. ولا ننسى مسألة قلة الإمكانيات المتوفرة. لقد سافرنا إلى دول أجنبية واطّلعنا على تجارب مقارنة ناجحة لأن فيها مرافقة للنوّاب من خبراء وهيئات معترف بها. في لندن مثلا، أكثر اللجان قوة في مجلس العموم البريطاني هي لجنة مراقبة التصرف في المال العام وتترأسها نائبة من المعارضة بتصويت من الجلسة العامة. أمر إيجابي لدينا اليوم في تونس وهو وجود محكمة المحاسبات والذي يمثّل إنجازا في حدّ ذاته وقد ساهمت اللجنة في تحقيقه. حيث أنني بصفتي رئيس لجنة الإصلاح الإداري في ذلك الحين، سافرت إلى هولندا للاطّلاع على تجربتها بغية تكوين فكرة عن ماهية محكمة المحاسبات وصياغة القانون التونسي الخاص بها. في السابق، كانت تقارير دائرة المحاسبات تترك في الرفوف، غير أننا اليوم استأنسنا بتقارير المحكمة في عملنا داخل اللجنة، في ظل غياب الخبراء والموارد البشرية الخاصّة بنا، وهي التي أعطتنا آليات العمل اللازمة عبر الاستماع إلى مجموعات العمل التي اشتغلت على تقارير محكمة المحاسبات.
المفكرة: كيف أثّرت التغيّرات التي طرأت على تركيبة الكتل داخل البرلمان والحزب نفسه على مقاربتك لموضوع مكافحة الفساد؟ وهل تغيّر خطابك في هذا الصّدد بتغير ملامح الكتلة والحزب من جهة وعضويتك داخل اللجنة من جهة ثانية؟
العماري: قد تكون مقاربتي وخطابي تغيّرا جزئيا باعتباري لم أعد المحدّد لسير عمل اللجنة. ذلك أن رؤساء اللجان البرلمانية مجبرون على تحديد منهجية العمل ووضع تمشي اللجان بأنفسهم لأنه لا تجد من يعمل سواه فيها. لكن المواقف لا تصاغ حسب المكان والمنصب بل هي ثابتة لا تتغيّر. وجودنا اليوم خارج التآلف الحكومي لن يغيّر شيئا بل على العكس. إن كان ثمّة أمر ظاهر للعيان اليوم فهو أن الجميع يتحدّثون عن الفساد ويكيلون الاتهامات لبعضهم البعض لكن الواقع يكشف خلاف ذلك. نحن من جعلنا من الفساد غولا وجعلناه يزداد حجما. يجب أن يكون التعامل مع هذا الملف عقلانيا وفيه من التبصّر الشيء الكثير لأنه يمكن لتصريح خاطئ أحيانا أن يضرّ بمؤسسة أو يعّمق أزمتها.
المفكرة: هل من الممكن القول إن النظام السياسي يساهم في انتشار الفساد أو يشجّع عليه؟ وعلى أي مستوى؟
العماري: لنتفق أوّلا أننا لسنا جاهزين بعد لهذا النظام السياسي. إنّه ليس ملائما للدولة التونسية. هو نظام يتطلب طبقة سياسية جاهزة ومتمرّسة ولديها خبرة كي تمارس عملها. عندما تشاهد التجارب المقارنة، تجد أنّ النائب يلتزم بحيّز ال3 دقائق المسموحة له للتدخّل، بينما نحن للأسف لدينا سياسية غير جاهزة لأن تكون الجلسات كلها في العلن وتدخل بيوت التونسيين عدة مرات في الأسبوع… وأنا أقول دائما إنّ تشتيت السلطة الذي حدث تمّ بشكل رهيب جدا بحيث لم يحدث تدرّج في تفكيك السلطة. أكبر سؤال كان يتساءله النواب سواء عندما كنّا في الائتلاف أو بعده هو من الذي يحكم اليوم في البلاد؟ ولم نكن نجد جوابا. عندما حدثت أزمة سياسية في وثيقة قرطاج 2، كنت على اتصال مباشر بوزراء وكتّاب دولة ومديرين عامين. كانوا يقولون جميعهم إنّ شللا تامّا حلّ بالإدارة، لأن الجميع يترقّبون ماذا سيصدر من قرارات. وهذا سببه النظام السياسي بالأساس. لأن البرلمان لديه دور مهمّ في اختيار السلطة التنفيذية لكنه بعد إرسائها لا يبقى لديه دور مهم حيث لا يعود يجد تفاعلا مع دوره الرقابي. هناك تعطيل، فمثلا لم يقع إلى اليوم تفعيل المجلس الأعلى للتصدي للفساد.
المفكرة: ما هي الجهات التي عارضتك إذن في الملفات التي اشتغلت عليها بخصوص مكافحة الفساد؟ ومقابلها أيّ جهات تحالفت معها أو دعمتك؟
العماري: هي المنظومة ككلّ تعدّ معرقلة، لا يمكنني تحديد جهات أو طرف بعينه لكن حتى اليوم ليست هناك تقبّل للعمل الرقابي من قبل السلطة التنفيذية. ليس هناك تثمين للعمل الرقابي ولا جدية في التعامل معه. كما أن نقص الخبرة الذي يجعل هذا النظام معطّلا لا يترك الأمور تسير بسلاسة. الحكومة تعمل تحت الضغط، وهناك ملفات تتجاوب معها وأخرى لا.
هناك مثلا مسألة التفاعل مع التوصيات المنبثقة عن لجنة الإصلاح الإداري في جميع المجالات. لقد اشتغلنا على توحيد منظومة الرقابة لأنها تعدّ مشكلة كبيرة اليوم. حيث أننا نجد أحيانا تقارير مختلفة للهيئات الرقابية عن نفس المؤسسة. نرجو أن يكون اليوم لمحكمة المحاسبات، بصيغتها وآليات عملها الجديدة، دور كبير في التحكم والتقليص من إشكاليات الفساد وسوء التصرّف. الفساد أنواع كثيرة أخطرها الإفلات من العقاب. كما يجب على القانون على الجميع، فليس من المعقول أن يفلت من العقاب من لديه ماكينة كبيرة من وسائل إعلام وفايسبوك أو لوبي يحميه. كلّ هذا يجب أن ينتهي.
المفكرة: هل يمكن أن تمثّل الحصانة شكلا من أشكال الإفلات من العقاب وإن مؤقّتا؟ هناك مثلا قضية النائب عن كتلتكم سفيان طوبال ولم نسمع عن استتباعات تلك القضية سوى ما تردّد في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من سخرية؟
العماري: أوّلا، أنا عضو في لجنة الحصانة ولم يصلنا أيّ ملف يتعلّق برفع الحصانة عن سفيان طوبال. لقد تمّت دعوته إلى القضاء فامتثل للدعوة ورفع الحصانة عن نفسه في دائرة سيدي بوزيد ولديه حكم بعدم سماع الدعوى. لدى الناس عنها فهم خاطئ للحصانة، وحتى الفضاء يتخذ إجراءات خاطئة أحيانا حيث يجب عليه أن يمرّر الملف إلى وزارة العدل ووزير العدل يراسل بدوره رئيس مجلس النواب بملف كامل الشروط، في حين أنّ الواقع يكشف أن في بعض الحالات يقوم رئيس دائرة في محكمة بتوجيه طلب رفع حصانة مباشر إلى البرلمان وهو إجراء خاطئ. كما أنّ ملفات النواب الّذين تمسّكوا بالحصانة تعدّ على أصابع اليد. لكن، ها أنت ترين الصورة التي أصبحت لدى المواطن عن السياسة والسياسيين وكرهه لهم بسبب تهديم المؤسسات.
المفكرة: في خضم كلّ ما ذكرته آنفا، من هم اللاعبون وموازين القوى التي يمكن أن تلعب دورا في المضيّ قدما من أجل مكافحة الفساد؟
العماري: هناك السلطة التنفيذية بدرجة أولى والسلطة القضائية ولدينا أيضا الهيئة الدستورية لمكافحة الفساد التي أرجو أن نتوفّق في انتخاب أعضائها، ثم هناك أيضا الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتي على الرّغم من أنها وقتية إلاّ أنها تلعب دورا هامّا. صحيح أنّ هناك بعض الأشياء التي… (يتردّد) بحكم أنها وقتية. فأنا أشعر أحيانا أنّ هيئة مكافحة الفساد تريد أن تعمل أكثر ممّا تسمح لها به صلاحياتها. وهي تشتكي كثيرا من قلة الآليات والصلاحيات بما يجعلها تظهر بمظهر مبالغ فيه. ذلك على غرار المبالغة في التصريحات الإعلامية التي تجعل أنّ (يتوقّف)… أقصد أنه عندما تكونين (الهيئة) في طور دراسة الشبهات، يجب تذكّر أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته. وقد شهدنا في حالات عديدة حديثا عن ملفات كبرى دون أن نجد لاحقا أي شيء على أرض الواقع. فالأجدر إذن أن نشتغل بهدوء…
المفكرة: وماذا عن القضاء؟ كيف تقيّم أداءه على مستوى مكافحة الفساد؟
العماري: لقد شهد القضاء رجّة بعد 2011 وعرف إقالات بعضها عشوائية، ممّا جعله هو نفسه يدخل مرحلة شك. عندما تقوم بإقالة 80 قاضيا وتمارس عليهم الضغط السياسي، هذا يجعل من الصّعب أن يعيد القضاء ترتيب أوراقه ويسير مجدّدا على السكة. هذا يتطلّب وقتا.
المفكرة: يتمّ الحديث من حين إلى آخر عن أنّ الحكومة الحالية تملك ملفات تدين خصومها ولكنها لا تحرّكها إلا عند الحاجة، أي ما سمّي بتحريك القضاء، فهل تم اعتماد ذلك فيما سمّي بحرب حكومة الشاهد على الفساد؟
العماري: طبعا، هو نوع من الضغط السياسي… لكن، لا يمكنني أن أخوض في أمر لا أملك إثباتات بخصوصه. يقال الكثير بهذا الشأن. سمعنا حتى عن أنّ بعض المقربين من الحكومة يستغلّون هذا الشيء. ولا يجب أن ننسى ملف كاتب الدولة للطاقة والمناجم هاشم حميدي الذي راح في إطار تصفية حسابات أو مصالح مادية، وهو ملفّ لا نعرف إلى الآن مآله.
المفكرة: ولكن، أين دور الرقابة البرلمانية أمام هذا كلّه؟ لماذا لا تسجل هذه الأمور في أرشيف مداولات المجلس؟
العماري: ليس لدينا آليات رقابة فقط السؤال الشفاهي أو الكتابي. ونحن في الديمقراطية اليوم مازلنا كمن يعلّم الطفل الحبو. لقد رفعنا السقف عاليا على السياسيين باعتماد النظام شبه البرلماني لكن في الحقيقة ما الذي أعددناه له؟
المفكرة: هل كانت الحرب على الفساد فعلية برأيك؟ وهل نجحت؟
العماري: أنظري، بالنسبة لي أرى أنها لم تنجح لأن الحرب لا تتمّ بتلك الطريقة وبإيقاف عدد محدود من الأشخاص. كان من الممكن أن تنتهج تونس طريقا آخر وتنجح فيه. وهنا أحمّل المسؤولية لعديد الأطراف لأنه كان من الممكن أن تحدث مصالحة كاملة في تونس وننطلق بعدها بعدّاد من الصفر. كان يجب أن تحدث مصالحة شاملة كما في جنوب إفريقيا ورواندا وعديد التجارب المقارنة الأخرى وينطلق العدّاد من الصفر ويطبّق القانون على الجميع. وكان ممكنا أن نجد بالطبع آلية لهذه المصالحة.
المفكرة: كان هناك قانون المصالحة الّذي صوّت لصالحه عندما كنت نائبا عن نداء تونس، والذي اعتبرته منظمات عددية خرقا لمبدأ القطع مع الفساد وضربا للعدالة الانتقالية؟
العماري: قانون المصالحة تمّ تحميله أكثر من وسعه في إطار تجاذبات سياسية… أرأيت أين الإشكال؟
المفكرة: لكن أليس هو شأنا سياسيا بطبعه؟
العماري: لا، ليس سياسيا، هم فقط يريدون تسجيل نقاطا ضدّ خصومهم فيقولون إنّ القانون يهدف إلى المصالحة مع الفاسدين. لكن القانون جاء لمن في الحقيقة؟ جاء لأن الإدارة في وقت ما صار كلّ من فيها يخشى أن يجتهد. لقد تمّ ضرب الإدارة كلّيا، في حين أنّ الإدارة هي التي (وقفت لتونس) في 2011 لأنها حينذاك كانت قوية وفيها كفاءات. لكن ما حدث لاحقا أنّ الجميع بدأ يقول “أخطى راسي وأضرب”. المفروض أن يكون هناك محاسبة ومصالحة نبدأ بعدها في تطبيق القانون بطريقة عادلة ومتساوية للجميع. لكننا للأسف انتهجنا العدالة الانتقائية لا الانتقالية، وحدنا عن مسار المصالحة الشاملة.
المفكرة: هناك من يقول إنّ فترة التوافق ساهمت في أن تظلّ ملفات فساد عديدة دون متابعة أو محاسبة، ما رأيك؟ وهل تعتقد أنّنا سنمضي في سياسة التوافق بعد الانتخابات القادمة؟
العماري: للأسف النظام السياسي والانتخابي الذي وضع لا يجعل الرؤية السياسية واضحة. بل على العكس، المشهد السياسي الحالي ونحن على أبواب انتخابات سيوصلنا إلى نتائج وخيمة جدّا، حيث سيكون هناك فسيفساء في مجلس نواب الشعب بما لا يسمح بتشكيل حكومة. وهذا هو التخوّف الأكبر، في ظل ضرب الأحزاب والتشتت، سنجد أنفسنا أمام أزمة وفراغ.
المفكرة: ما هو تقييمك لأداء المجتمع المدني في التصدّي لفساد؟
العماري: نتمنّى أن ينزع المجتمع المدني جبّة السياسية. أغلب فعاليات المجتمع المدني البارزة نراها ونعرف ميولاتها السياسية ونتمنّى أن تكتفي بدورها وتمثّل مجتمعا مدنيا على أسس سليمة ولا تكون مسيّسة لصالح طرف على حساب آخر بل أن تكون على نفس المسافة من الجميع. لقد حدث لي موقف مع أحد أعضاء (جمعية) أنا يقظ. كنت أمثّل تونس في الخارج رفقة مجموعة من الإدارة التونسية وكان هناك ممثّل عن أنا يقظ. كنّا نشارك في مؤتمر عالمي كبير في فيينا، وقد آلمتني طريقة خطاب ممثّل أنا يقظ وحديثه عن تونس، حيث لم يتحدّث إلاّ عن الأمور السلبية وقدّم صورة سيّئة عن تونس.
المفكرة: ألا تخشى أن يضرب تنقيح المرسوم المنظم للجمعيات حرية التنظم؟
العماري: لا، لا أرى ذلك. يجب تنقيحه في اتجاه أن لا يسمح للجمعية بالتحول إلى حزب وممارسة العمل السياسي. لو فعلنا ذلك سابقا لكنّا وفّرنا على أنفسنا جدل قانون تعديل الانتخابات الأخير. جميعنا نذكر جمعية تونس الخيرية ماذا كانت تفعل بتونس. كانت تخدم أجندات بعينها. هناك في منطقتي جمعيات تواظب قيادات من حركة النهضة على حضور أنشطتها. عندما يتمّ النظر من زاوية مصلحة فردية فقط ويوظف الإعلام أو الجمعيات للمصلحة الشخصية أو الحزبية سيأتي وقت ينقلب فيه السحر على الساحر. في المجال التشريعي لا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الوقت الحالي فقط بل أن نكون شموليين لأننا لسنا نشرّع لأنفسنا بل لدولة وأجيال قادمة بأسرها.
- نشر هذا المقال في العدد | 15 | سبتمبر 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
نكره الفساد الذي يكبر فينا
“