“
المفكرة: وفق مقاربتك الشخصية ومن داخل كتلتك البرلمانية، كيف تقاربون موضوع الفساد من خلال الخطاب والإجراءات؟ وماهي برأيك أولويات محاربة الفساد؟
بن فرج: كي أكون أمينا معك، لم يتم حتى الآن تحديد مقاربة خاصّة بالكتلة أو الحزب في علاقة بمكافحة الفساد، باعتبار أن حزبنا حديث النشأة حيث تأسّس منذ 4 أو 5 أشهر.
بالنسبة إليّ شخصيّا، أعتبر أن هناك منظومتين في تونس، وسائر الدول التي تضعف فيها السلطة الوطنية أو السلطة المركزية أو تكون في حالة الانتقال الديمقراطي، وهما منظومة الدولة ومنظومة موازية هي منظومة الفساد. وهذه الأخيرة تتحرّك دون قيود أو ضوابط وبإجراءات سهلة وسلسة. يكفي اتّصال هاتفي كي تحلّ مشكلة ما. هذه المنظومة قوية حيث استفادت من غياب السلطة المركزية في تونس والتي كان الفساد يتمركز عندها في عهد بن علي. عندما حدث الانتقال الديمقراطي، استفاد الفساد نفسه من الديمقراطية وأصبحت مراكز القوى التابعة له ممتدّة ومتاحة للجميع.
المفكرة: لو نتحدث عنك تحديدا، ما هي الإجراءات التي أمكن لك أن تتخذها كنائب في مجال محاربة الفساد؟
بن فرج: أهمّ شيء هو التشريع. لأنّنا عندما نتحدّث عن منظومة إزاء أخرى، فإنه يجب علينا تفكيك منظومة الفساد بما يحدّ منها ويقزّمها ويكسر شوكتها ويجعل منظومة الدولة أكثر أريحية وقدرة على محاربة الفساد. المنظومة التشريعية في تونس هي بصدد التطوّر. لدينا في السنتين الأخيرتين 5 أو 6 قوانين تعتبر في طليعة الاجراءات التي يمكن اتخاذها لمحاربة الفساد على غرار قانون “من أين لك هذا؟” وقانون القطب القضائي المالي وقانون التصريح بالمكاسب والهيئة المستقلة لمكافحة الفساد. وعلى مستوى الإدارة أيضا. حيث بالنسبة لي، لا يوجد عنصر يمكنه مكافحة الفساد قدر التكنولوجيا وعلى رأسها رقمنة الإدارة.
المفكرة: برأيك، في أي قطاع، ينتشر الفساد بشكل أكبر؟ العامّ أم الخاصّ؟
بن فرج: هو موجود في الإثنين. والفساد في القطاع العامّ يستفيد منه القطاع الخاص من خلال التدفقات المالية الكبرى. وهو موجود في القطاع الخاصّ أيضا لأنه يكون مدعاة لاستجلاب منافع. لكن القطاع العامّ لظروفه المادية والمعنوية عرضة أكثر للإفساد، لأنه من غير المعقول أن لا تمكّن موظفا من الموارد البشرية والمادية للعمل ولا توفّر له دخلا محترما ثمّ تمكّنه من إدارة صفقات كبيرة وتطلب منه أن يكون أمينا.
المفكرة: في فترة ما كان هناك حديث عن “حرب على الفساد” في تونس، هل الحكومة ماضية في ذلك حسب رأيك أم أنّ ذلك “سحابة صيف عابرة” كما وصفها البعض؟
بن فرج: كلّ ما نشاهده في الحياة السياسية في تونس منذ إيقاف شفيق جراية إلى الآن هو في قلب الحرب على الفساد. فهذه الأخيرة برأيي، مرّت بمرحلتين: مرحلة الهجوم واتخاذ القرار (إيقاف جراية والبارونات الذين معه) ثمّ مرحلة الدفاع لأن المنظومة الفاسدة استجمعت قواها من إعلاميين وقضاء وسياسيين ونوّاب وقامت بهجوم معاكس. فأجبرت الحكومة بالتالي على خوض حرب دفاعية، الأمر الّذي ظنّه الناس تراجعا. لكنه ليس كذلك لأن الهجمة كانت قوية ومتعددة الأدوات والأساليب ووصلت إلى مستويات عليا في الدولة، فمن الطبيعي أن تدافع الحكومة عن مواقعها في انتظار أن تعود وتتحصل على التفويض الشعبي كي تواصل حربها على الفساد.
المفكرة: ما رأيك فيمن يقول أن سبب التراجع يعود إلى كون الحرب نفسها كانت انتقائية؟
بن فرج: انتقائية، حسنا … يجب علينا أن نكون براغماتيين. يعني، هل من المنطقي أن نمتنع عن محاربة الفاسدين حتى نتمكّن من وضع الجميع في السّجن؟ من الطبيعي أن نبدأ بالواحد تلو الآخر. ثم المفروض أنّ الانتقائية تنتقي الضعيف لكنّه (يوسف الشاهد) انتقى أكثر الفاسدين قوّة. وأؤكّد لك أن الموقوفين البالغ عددهم 23 صاحب أعمال الذين تمّت إحالتهم على القطب القضائي لمكافحة الفساد، تقارب مجموع المخالفات والحجوزات والمصادرات المتعلّقة بهم 6500 مليار ممّا يعني تقريبا ربع ميزانية تونس. لكن للأسف الشديد، المنظومة الفاسدة لديها إعلامها ونشاطاتها وناسها.أقصد بمنظومة الفساد جميع الذين ليس لهم مصلحة في محاربة الفساد.
المفكرة: لكنّ الإيقافات التي تمّت، رافقتها انتهاكات حيث وضع عدد من أصحاب الأعمال تحت الإقامة الجبرية كما أنّ بعضهم تمّ “اختطافه” بطريقة غير قانونية وفق ذويهم ومحاميهم؟ عدا عن أن حالة الطوارئ التي تمّ الاستناد إليها في بعض الحالات تعدّ غير دستورية؟
بن فرج: في الأمور الاستثنائية يجب أن نتخذ إجراءات استثنائية. ليس من المعقول أن نتبقى نتفرج على من يستغلّون الثغرات القانونية ويعتدون على دولة بأكملها ونتحدّث عن حقوق الإنسان، مع احترامنا لحقوق الإنسان. مع العلم أن جميع الإيقافات تم استئنافها أمام القضاء العدلي ومن بين 23 حالة هناك 22 شخصا تقدّموا إلى القضاء الذي حكم لصالح الحكومة بقانونية الإجراءات. صحيح أن الإيقافات تمّت استنادا إلى قانون الطوارئ الذي هو ليس موجها فقط لأصحاب الأعمال بل للجيش أيضا ويتم تطبيقه على الجميع. هل أن صاحب الأعمال الفاسد يتمتع بالحصانة؟ من بين أصحاب الأعمال الثلاثة والعشرين يقبع الآن 11 منهم في السجن فيما يحاكم 10 في حالة سراح.
المفكرة: لو نعود إلى دورك الرقابي كنائب، ما هو أكثر ملفّ اشتغلت عليه وهل آتى أكله؟
بن فرج: لم نصل إلى شيء. الملفّات التي اشتغلت عليها عديدة وبعضها تمّ حلّه وحُدّدت بشأنها تسوية علمت بها لاحقا، وذلك على غرار موضوع عقاري عملت على حلّه. لكن أكثر ملف اهتممت به هو ملفّ المحطة الكهربائية ببوشمة التي تم إنجازها على خلاف الصيغ القانونية وهذا باعتراف الوزراء المتعاقبين على القطاع وأصررت على فتح تحقيق مالي وإداري، وهو ما تمّ. لكن حتى الآن، ليس هناك نتائج. وقد مرّ الملف إلى هيئة مكافحة الفساد وفتح تحقيق في شأنه ثم أحيل على القطب القضائي لمكافحة الفساد الذي استمع إليّ كشاهد. وهو في القطب القضائي منذ سنتين. التأخير يعود إلى أسباب عدة، أوّلها أن القضاء غير مؤهّل تقنيا لفهم هذه الملفات المعقّدة، حيث ينقصه الخبرة والتكوين والتفرغ. ثمّ الّذي يحدث بعد تكوين قاضي مثلا هو أن يتمّ نقلته إلى درجة أعلى أو منطقة أخرى. وهناك أيضا مسألة البطء إذ تتراكم القضايا على الجهاز القضائي فيتسبب ذلك في تمديد في الآجال. هناك أيضا ملفّ البنك المركزي في علاقة بتبييض الأموال بين شركتين تونسية وليبية، وقد كنت فيه مبلّغا لهيئة مكافحة الفساد.
المفكرة: هناك من يرى أن الفساد صار “شرّا لا بدّ منه”، ومكوّنا رئيسيا من المنافسة السياسية. كيف تفسّر هذا القول؟ وكيف يمكن مجابهة ذلك إذن؟
بن فرج: الفساد صار جزءا من الحياة السياسية ومكوّنا من مكوّناتها… يعني الفاسدون لديهم نوّاب ووزراء وإداريون وضباط وأمنيون… الحلّ هو مسألة حياة أو موت، فإمّا أن نحيا في إطار الشفافية أو أن تنهار الدولة. ليس هناك حلّ سوى محاربة الفساد إلى الأخير.
المفكرة: ما هي الجهات الأكثر مقاومة لمشروعك في محاربة الفساد؟ وما هي التحالفات التي تنسجها في محاولة نيل دعم أكبر للمضيّ قدما في ملفّاتك؟
بن فرج: لا توجد جهات بعينها يمكن تحدديها بوضوح، لكن هناك أشخاص بعينهم وهم عادة لا يكونون معارضين بشكل مباشر بل بطرق غير مباشرة على غرار الاتهام بكشف أسرار الدولة والتشكيك في المصداقية أو التهوين من قوة الملفّ. الأشخاص المستفيدون من الفساد لا يعجبهم ما أفعله.
المفكرة: تحدّثت قبل قليل عن القضاء، فكيف تقيّمه عموما؟ وهل يعدّ إصلاحه أحد عناصر الأجندة السياسية لحزبكم؟
ليس بالإمكان فعل شيء دون قضاء، فالأمر الأخير بيده. وقبل إصلاح القضاء لا بدّ من إصلاح المنظومة ككلّ. وهي ظروف عمل القضاة وآليات الحسم في القضايا والأرشيف والتجهيزات والأبنية، ثم الظروف المادية للقاضي. من غير المعقول أن ينظر القاضي في قضايا تفوق الأرقام فيها آلاف المليارات ثمّ يخرج ليركب الحافلة. الحمد لله أنّ الحكومة قامت السنة الماضية بالترفيع في أجورهم بنحو ألف دينار. ثمّ هناك أمر آخر، من يحاسب القاضي؟ حتى الآن مازال هذا الموضوع “تابوها”، فعندما يخطئ القاضي عمدا أو يتلقى رشوة أو غيره تمرّ محاسبته عبر مسالك معقّدة دون أن تؤدّي إلى شيء أحيانا.
المفكرة: في تونس، مقارنة ببلدان عربية أخرى، هناك مساحة وافية من الحرية تسمح للرأي العام والإعلام والجمعيات بتناول مكافحة الفساد، فهل هذا كاف برأيك للمضي قدما بفضح المتورّطين في الفساد؟
بن فرج: هذا غير كاف. تناول موضوع مكافحة الفساد يبقى مناسباتيا ويخطو على وقع الأحداث ولا يوجد مأسسة ولا منهجية ولا عمل على مستوى قطاعي. بالنسبة لي هيئة مكافحة الفساد هي أفضل ما هناك، ويعدّ عملها ممتازا جدّا بالنسبة لقصر عمرها.
- نشر هذا المقال في العدد | 15 | سبتمبر 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
نكره الفساد الذي يكبر فينا
“