من الواضح أنّ نصر الدين السهيلي، مخرجا وممثلا ومؤسّسا لـ”جمعية 1864″ ولـ”الجامعة الشعبية محمد علي الحامي”، صنيعة جوهر تونسي نبيل خفيّ. في السينما التي صنعها نتلمّس صورتنا وما يفيض فيها من قسوة ومن ذكاء قلوب؛ من الطيبة ومن مفارقات تدبّر العيش في هذا البلد الصعب. من أفق إنساني مفرط في إنسانيته نطلّ جماليّا مع نصر الدين السهيلي على ما يجعل من التونسيين تونسيين. صنَعَ الحدث مؤخرا بعودته ممثّلا إلى الشاشة في مسلسل ” الجبل الأحمر”، الذي أنتجته التلفزة الوطنية وأخرجه ربيع التكالي. المفكّرة القانونية التقته كي تسائله عن صورة الهامشي والهامش في الدراما، وعن صناعة الصورة ورهاناتها السياسيّة أساسا.
المفكرة القانونية: تُجسّد في مسلسل “الجبل الأحمر” شخصيّة “لِيمَا”، بطلٌ من القاع ومن الهامش يضجّ بالحياة وبقيم تبدو كما لو أنّها تنتمي إلى عالم آخر، وفي نفس الوقت هو أليفٌ حتّى أنّ هناك ما يشبه الإجماع وموجة حبّ عفوية غامرة لشخص نصر الدين السهيلي والشخصيّة التي يؤدّيها.
نصر الدين السهيلي: تنتمي شخصية “لِيمَا” ديمغرافيا إلى السّواد الأعظم. أغلب المناطق السكنية في تونس العاصمة وداخل الولايات الفقيرة أو الغنية تُشبه لمنطقة ديبوزفيل أين قُمنا بالتصوير أو الجبل الأحمر[1]، مكان وقوع الأحداث المُتخيّلة الروائية. الوضعية الاقتصادية لهذه الأسر قريبة جدّا من العائلات الريفية أو البدوية. يَتشابه “ليما “مع الغالبية الساحقة من التونسيين في مستوى وعيه وتقييمه لما يحدث حوله. منظومة القيم والمبادئ التي يتبنّاها ويُدافع عنها تتراوح بين قيم الشهامة والرجولة بالمعنى الشعبي وبين “التديّن أو البعد الايماني” والعُرف في علاقة بالعيْب أو ما يليق وما لا يليق. وثمة شيء آخر مهمّ: “ليما” شخصيّة تقودها العواطف، فمثلما شاهدنا يمكنه أن يرتكب كوارث أو جرائم ويسقط في العنف مثلما نرى اليوم في الشارع التونسي.
تونس البعيدة عن الكاميرات والبعيدة عن الضوء تشبه ما يحدث في مسلسل الجبل الأحمر إلا أنّها أكثر قتامة.
المفكرة: كيف وبأيّ معنى تونس أكثر قتامة من المسلسل؟
السهيلي: لأن مسلسل “الجبل الأحمر” لم يعالج قضايا انتحار الأطفال، كما لم يعالج مصائر عشرات آلاف المراهقين الذين يُغادرون مقاعد الدراسة ليُلقَى بهم في سوق الإتجار بالبشر. فتيات يتحوّلن إلى مُعينات منزليات وأطفال ومراهقون يتحوّلون إلى متسوّلين وباعة متجوّلين ولصوص وكلهنّ وكلهم يتحوّلن ويتحوّلون إلى فرائس لمُشتهي الأطفال، إلى بضاعة جنسية وما خفي كان أعظم فثمّة عشرات القضايا الأخرى الخافية.
المهمّش أو الهامشي مثل “ليما” في ظروف أخرى أشدّ قسوة على التونسيين، أي في زمن الاستعمار حين كان المستعمر أجنبيا قبل أن نتحول إلى وضعيّة “الاستعمار الداخلي” كما سمّاها الصغير الصالحي، كانت تُتاح له الفرصة أن يكون محمد علي الحامي أو شاعرا تاريخيا ثائرا مثل عبد الرحمان الكافي أو بن سديرة أو الكرارطي الفارس بلقاسم القناوي. في الظروف الحالية في دولتنا الوطنية المستقلة يتمّ تحريم وتجريم صور هؤلاء ومعالجة ربع قضاياهم. يعني حتى طريقة التناول المُخفّفة صارت تثير خناجر الرقابة فتجد تلفزة عمومية تقوم بالاعتداء على عمل مجموعة من المبدعين والتقنيين لتقتطع لقطات أو مشاهد، ويجد هذا موافقة وترحيبا من بعض من ينسبون أنفسهم إلى ما يُسمّى بالصفوة. تواطأت الإدارة والنخبة على هذه الفئة الواسعة العدد لتهميشها داخل الدراما بعد تهميشها في الواقع. ثمّة حرمان مُضاعف: ينضاف إلى الحرمان من الأمل والخبز والبيت والأرض حرمانها من التواجد ولو رمزيا في عمل روائي مُتخيّل.
ما تمّت صنصرته من مشاهد عبث، لأنها مشاهد من المستحيل أن تُزعج المتفرج، هذا أولا. ثانيا لأوّل مرة في تاريخ التلفزة الوطنية يتمّ بثّ عمل من إنتاجها خارج أوقات الذروة بعد نشرة الأخبار والنشرة الجوية. ثالثا، لا يتمّ البثّ بعد العصر في اليوم الموالي كما جرت العادة ولأول مرة رغم عروض المنصّات الخاصة لشراء العمل إلا أنّ الادارة رفضت ذلك وامتنعت عن تمريره على يوتيوب. هذا دون العودة إلى كل محاولات تعطيل إنجاز العمل حتى آخر لحظة حيث أنّنا لم نتمكن من بدء الاستعدادات والتحضيرات إلا في منتصف الشهر الأول من 2023 رغم أن الإدارة كما بقيّة سكان العالم يعلمون أن رمضان في الشهر الثالث. هُمّشت شخصيات بالمسلسل كما همُّش في تاريخ تونس بلقاسم القناوي وعبد الرحمان الكافي ومختار العياري والطاهر حدّاد والدغباجي، أولئك الذين صنعوا التاريخ الحقيقي للثورة التونسية الحقيقية، وتمّ وأدهم واستولى على التاريخ بعض البورجوازيين وبعض من يعرفون من أين تُؤكل الكتف.
المفكرة: تملك رؤية خاصة لتاريخ تونس المعاصر. ولعلّك تتبع نبضا عاشقا يشدّك إلى أبطال معيّنين في هذا التاريخ: علي بن غذاهم، فأنت أسّست “جمعية 1864” سنة 2014 في محاولة لاستعادة رمزية ثورة باي الشعب. كما أسّست “الجامعة الشعبية محمد علي الحامي”، مُستلهما من روحيّة بطلك العظيم. كيف تفهم الثورة؟
السهيلي: في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات كان التونسيّون في أغلبيتهم الساحقة شعبا لا يملك نفسه وخاصة والأهم أنهم أميّون في أغلبهم. ورغم ذلك فقد قاموا بمعجزة /ثورة: في عشرين عاما صار المعلم تونسيا والطبيب تونسيا في الستينات والسبعينات والمحامي تونسيا والإدارة تونسية وخُلقت حركة ثقافية كبيرة وخُلقت أسطورة الصنائعيين التونسيين وتميّزهم، ونسبة التمدرس صارت من أفضل ما يوجد ليس في إفريقيا والعالم العربي بل في العالم الثالث. يعني من شعب أمّي يعاني من الأوبئة إلى شعب يصنع الأطباء والشعراء: هذه معجزة ليست أقلّ من معجزة اليابان وألمانيا بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية. هذه في تقديري الثورة الحقيقية التي أضاعتها الفئة المُتنفذة.
الثورة الحقيقية بالنسبة لي هي التي تَحملنا إلى الانعتاق من الرجعية والبؤس. الحراك الذي يحملنا إلى عكس هذا من الحيف يمكن أن نسمّيه ثورة.
إذا أردت يمكن تشبيه تونس بكائن أقدامه سليمتان لكنّه يصرّ على استخدام قدم واحدة. يعني تاريخيا تونس منذ قرون طويلة تستخدم مجدافا واحدا. ما يُسمّى تونس الأعماق -وأنا لا أحبّذ هذه العبارات- لم تشارك فعليا وعمليا في تقرير مصيرنا كشعب ولم تشارك في إدارة الشأن العام. يعني تونس مثلا حاليا هي مطمورة بعض الأسر بعد أن كانت مطمورة روما. عندما ترى جودة الحياة في الولايات المحرومة والنازحين منها على أطراف المدن الكبرى يعني العاصمة وغيرها، تقول أنه نفس الحال ولم يتبدّل منذ قرون. الفرق الوحيد هو غياب علي بن غذاهم وفرج بن دحر وزعماء تلك المرحلة. أشكال النضال تتطوّر وتستمرّ. لم يعد الزمن زمن بارود ولا مقاومة مسلّحة، بل بالعكس زمن الفكر والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والثورات الرقمية المتتالية. بناء عليه تهيأ لنا أنّ فكرة “الجامعة الشعبية محمد علي الحامي” (2014) في إطار”جمعية 1864″ يمكن أن تملأ مكان علي بن غذاهم ومكان الطاهر الحداد وأبي القاسم الشابي وأنها ستكون شرارة لثورة ثقافية وإبداعية. هذه الفكرة وللأسف الشديد لم تستمرّ رغم نجاحها الجزئي. طبعا الخطأ كان فينا ربّما لقلّة الخبرة وخاصة قلّة الإمكانيات ولم يكن المشكل في أهالينا في الأحياء الشعبية أو المدن البعيدة عن العاصمة. الجيّد أنّها ألهمت ناشطين اجتماعيين آخرين ليواصلوا التجربة بنجاح. يجب أن نعترف أنّ المشروع أكبر ممّا نستطيعه.
ناضل علي بن غذاهم بالسلاح، وخياره كان صحيحا لأنّ ذلك كان من متطلّبات واقعه، ومرحلة محمد علي الحامي كانت مختلفة وعبقريته جَعلتهُ ينتبه إلى ضرورة تكوين التعاونيات الأهلية ثم يستدرك مع رفيق دربه مختار العياري لتنظيم العمال التونسيين في نقابات غير النقابات الفرنسية. في الجامعة الشعبية تخيّلنا أنّه بإمكاننا تسليح أهالينا بالمعرفة وتمكينهم من أدوات التعبير عن أنفسهم وربط الصلة بالنخبة التي كانت سجينة جدران فصل بينها وبين هذه الجماهير.
نظّمنا عشرات الأنشطة والبرامج من ضمنها فكرة “الميعاد” المُستلهمة من لقاءات علي بن غذاهم ببقيّة زعماء القبائل للتحضير للثورة. في ميعاد الجامعة الشعبية الأسبوعي كانت تتمّ دعوة أهمّ الجامعيين والأدباء والفنّانين للقاء مع المُعطلين عن العمل والطلبة وربّات البيوت للنقاش حول إشكالية يختارها أهالي المنطقة: مثلا النساء اخترن موضوع المساواة بين المرأة والرجل، كما اختار الأهالي موضوع استلهام الدستور من الشريعة. من بين الوجوه التي كانت موجودة وفاعلة آنذاك قيس سعيد. أنجزنا أيضا الميعاد المُتنقّل، وقد أجهد الروائي الراحل كمال الزغباني نفسه فيه وكان ينظّم لقاءات في المقاهي والأنهج والشوارع سمّيناها “قف فلسفة “، وهي لقاءات عفوية لتبسيط ما قد يبدو عصيّا على الفهم من مصطلحات أو إشكاليات فلسفية.
المفكرة: ثمّة إجماع على أنّ أداءَك لدور “ليمَا” كان أداءً عاليًا وبارعًا. وهناك الكثير من السّحر والإدهاش و”الحُلول” بالمعنى الصوفي لممثّل يملك أسرار صنعته في الدّور. إضافاتك للدور واضحة. نسأل عن كيفيّة بنائك للدور؟
السهيلي: فيما يتعلّق بالإضافة، كلّ ممثّل مُطالب بأن يَصقل بطريقته الأفكار والعواطف والأحاسيس الموجودة في النصّ وفق رؤية المخرج، يعني الإضافة داخل سياق العمل والمنهج الذي اختاره المخرج. كل ما قُمتَ به للاستعداد لأداء شخصية “ليمَا” معروف لدى أهل المهنة ولا يوجد أيّ شيء خاص. لا يوجد سرّ. رغم المدة القصيرة التي أتيحَت لنا قبل بداية التصوير إلا أنني استعنت بأكبر تقنية في فنّ الممثّل، ألا وهي أخذ الأمور بجدّية، فقد شرعت في التمارين الرياضية وتمارين الصوت والتنفّس ثم التعمّق في تفاصيل “ليمَا” والمحيطين به والتواصل مع فريق الكتابة والمخرج ربيع التكالي ثمّ استنجدت بخيالي لأرسم صورة له في ذهني وفحصته لدى المحلل النفسي الكبير، الذي هو قلبي. تخيّلت كلّ ماضيه في جميع حالاته السعيدة والتعيسة وكتبت جذاذات حوله حتى أنّني كتبت، متقمّصا إيّاه، أغنية بسيطة مثله غنّيت منها مقطعا قصيرا في المسلسل: “اللّيمَا اللّيما، سَهرتنا حُلوهْ جميلهْ، اللّيما يا لَولادْ على راسُو البلادْ، وصْنَعلو سعْدْ الحدّادْ سيفْ عنترْ بن شدّادْ”. لحن شرقي غنّيته بإيقاع المِزود التونسي.
ركّزت خاصة على اللحظات البسيطة لليومي والمعتاد التي لا توجد بها أحاسيس كبيرة أو فيّاضة: مثلا “ليمَا” في اللحظة العادية لشراء خبز. كما اعتنيت بالقاموس الذي يستعمله واللّهجة التي هي لهجة أحياء المهمشين التي صُنعت في العقود الماضية. صنعنا لهجة أخرى ليست لهجة جدودهم الريفيين ولا لهجة العاصمة التي وُلدوا فيها ويقطنون بها. هذا فيما يتعلّق بالعمل التحضيري ثم بدأت المرحلة الثانية وهي الاشتغال على الشخصية من الداخل وكيف أصل إليها. حاولتُ أن أذهب إلى “ليما” وليس العكس. اشتغلت على تفاصيل تركيبته النفسية والذهنية وكيف تكون متناغمة مع حركاته وإيماءاته، من لحظات سكونه حتّى المشاهد القُصوويّة سواء في الحركة أو الانفعالات. ثمّة جزء من التمارين قمت به وحدي وجزء آخر كان مع بقيّة الممثلين والمخرج ربيع التكالي. على كل حال هناك من يرى أن الأداء كان جيّدا وكنت ناجحا في أداء الدور. إن اللعب أمام الكاميرا لا يتحمّل اللعب. التمثيل فنّ صعب وجدّي وله علاقة بجميع العلوم الصحيحة والإنسانية. وبلغة التجارة التمثيل عماد إحدى أهم ّ الصناعات الثقيلة: السينما والدراما التلفزية. يعني حياة الممثّل ليست مساحة للّهو ولذا إذا ما تحلّى بالجدّية اللازمة ينجح. ولكن ألاحظ أنّ هناك تتفيها واغتيالا لمهنة الممثّل في تونس.
المفكرة: ماذا يحدث خلف صناعة الصّورة وما قد يبدو وجاهة اجتماعية: ضوء، شهرة، مال؟
السهيلي: عندما نطّلع على طريقة استعداد كبار الممثّلين في العالم لأداء أدوارهم أو نطّلع على رحلة الجهد والعمل المكثّف أثناء مرحلة تكوينهم وهم مراهقون وشباب ومن خلال تصريحاتهم وبعض الكتب التي تناولت حياتهم نرى مدى جدّيتهم، في مهنتهم وفنّهم الذي هو التمثيل. تراهم في أرذل العمر ولا يزالون بنفس الحماس ونفس العطاء والأهم ما نلاحظه ونفهمه أنّ أداء الدور أمام الكاميرا ليس هو العمل الذي يقومون به بل هو نتيجة العمل اليومي الذي قاموا به لسنوات طويلة وعقود. حين نلتفت إلى حالنا في تونس نرى استسهالا لعملية الكاستينغ: يأتون بأناس وجودهم في الميدان يشبه إلى حدّ كبير حوادث المرور اللا متوقّعة. أحدهُمْ يقطع الطريق فتضربه سيارة مجنونة. أحدهم يلتقط أحدهم من سهرة أو من موقع تواصل اجتماعي ليجد نفسه في مسلسل. أصبح الأمر قاعدة ممّا أساء إلى الفنّان الممثّل وإلى القطاع. أصبحنا نتعامل مع سوق الدراما كما نتعامل مع الأسواق العشوائية. نترك المحلات النظيفة التي يوجد بها أفضل الصنائعيين ونلتجئ إلى هذه العشوائيات لأنها قد تبدو لنا أرخص وننسى أنّها ستكلفنا ثمنا باهظا في ذائقتنا وحواسّنا.
المفكرة: لنعد إلى موضوع الدراما في علاقة بالهامش والهامشي ومقاربتك للأمر مُخرجًا وممثّلاً؟
السهيلي: ثمّة أشياء مُفكّرٌ فيها وثمّة أشياء أخرى لا أتحكّم فيها تقودني من الداخل نحو هذا العالم الذي نسميّه بالهامشي، لأنني لا أحب هذه الكلمة. أهمّ ما يجلبني إلى هؤلاء الناس هو قدرتهم الكبيرة على العيش في مجموعات. طريقة عيشهم هي الأقلّ فردانية والأقلّ أنانيّة والأقلّ انتباها للمادة. يعني في طريقة التواصل فيما بينهم الهرمية تكاد تكون منعدمة. العلاقة بينهم أفقية. ولكن الذين لا يعرفونهم وعندهم أحكام مسبقة عنهم أقول أنّ هؤلاء الناس سبقوهم بخطوات في العلاقة بين الرجل والمرأة. أسوق مثالا عن مكان تحوّل إلى أسطورة حتى أنّ كبار الروائيين التونسيين وعدد من الجامعيين لم يزوروه ولكن يدّعون كذبا أنهم زاروه وينسبون لأنفسهم قصصا حدثت فيه ، ألا وهي أرخص حانة “حانة الطاوسْ”.
“حانة الطّاوس” هي حانة مختلطة بين الجنسين. لم أرَ في أرقى الأماكن التبجيل للمرأة والمودّة التي تحظى بها هناك. لا توجد ظاهرة التحرّش بالنساء في “حانة الطاوس”. ولا يمكن شراء أجساد بشرية بالمال. ثمة تقليد في “حانة الطاوس” معروف وهو ما يطلق عليه هناك قبل أن يغلق أبوابه بـ”القاسْميهْ”، وهي عبارة مشتقّة من الاقتسام والمقاسمة. في الجلسات الجماعية يشرب الجميع دون تفرقة بين من يدفع دينارا أو خمسين دينارا وبين من لا يملك فلسا. من يدخل “حانة الطاوس” يشرب. يأتون بطعامهم وفواكههم في الأواني البلاستيكية. يطوفون بها على جميع الطاولات. وما يتبقّى من المائدة يذهب إلى أفقرهم أو إلى المشردين. مارس ناس “حانة الطاوس” الأفقية والتشاركية والاقتصاد التضامني وحقوق النساء بكل عفويّة. يأكلون ويسكرون ويُحبّون بعيدا عن مشاكل العالم المتخلفّ الذي نحيا فيه. تجاوزوا المفاهيم المتخلفّة من جنْس مُشرّع وبرلمان وانتخابات وسلطة تنفيذية. لا أعرف إن أجبتُك لماذا لا أحبّ كلمة هامش وهامشيين. من هو على هامش التاريخ ومن هو على طريق الإنسانية حقّا؟
على كل حال سأمزح معك نصف مزحة. تطمح دول مثل الدنمارك أو الدول الاسكندنافية عمومًا أن تصل كدول ومؤسّسات وشعوب إلى المستوى الراقي لطرق التنظّم في “حانة الطاوس”.
المفكرة: في أفلامك يحضر أبطال لا أحد يرغب أن يراهم. يتحرّكون في عالم مفرط القسوة ولكنّهم يكشفون عن قدرة خارقة على اجتراح معاني العيش في بلد صعب وابتكار قيم إنسانية مكنونة في جوهر تونسي ما؟
السهيلي: في الأفلام التي أنجزتها، شخصيات فيلم “بوتليس” مختلفة عن شخصيات فيلم “الشاق واق”، وهما مختلفان عن شخصيات فيلم “مرّْ وصبرْ”، ثم جاء فيلم “لَقشه من الدنيا” مختلفا عنهم كلهم، رغم انتمائهم لنفس الفئة. أحسّ أنّني لم أُظهر ما يجب أن أُظهره. كما أشعر بالكثير من التقصير. وفي هذه اللحظة أقول أنّ الأعمال التي قُدّمت عنهم أقلّ قيمة من المطروح عليّ وعلى غيري. ما أسباب هذا الإحساس؟
لم أقدر على إيصال الإحساس بأنني أنتمي لهؤلاء الناس وأنني جزء منهم ومن ثرائهم الإنساني الكبير كما يجب. ربّما يكمن العيب في أنني ما زلت رغم انتمائي إليهم في طور الإعجاب والفرجة. عندما أتخلّص من هذيْن العائقيْن الكبيرين: الإعجاب والرغبة في الفرجة، من المؤكّد سأنجز أفلاما أفضل حولهم.
النحّاتون الإسكيمو، عكس بقيّة النحّاتين في العالم وفي مختلف فترات التاريخ، يقولون أنّ الشكل موجود داخل الصخرة ونحن من سينفض عنه الزوائد والغبار في حين أن بقية النحاتين يقولون سننحت شكلا في الصخرة. حاولت في أفلامي أن أكون أقرب إلى النحاتين الإسكيمو. حاولت أن لا أختلق القصة بل أجدها، أن لا أصنع شخصيات بل ألتقي بشخصيات.
حاولتُ أن يكون إيقاع الأفلام أقرب ما يكون إلى إيقاع حياة هؤلاء الآدميين. جماليا مثلا حاولت أن لا أترك الإضاءة تُزاحم وتنافس الشخصيات. حاولتُ في طريقة التصوير أن أكون أبعد ما يكون عن الاستعراض وتغليب التقني على سلاسة الحركة وطبيعتها. يعني كانت المسائل التقنية في خدمة الشخصيات وفي خدمة سرديتهم سواء في عملي الروائي كما الوثائقي.
المفكرة: بالعودة إلى مسلسل “الجبل الأحمر”، ألا تخشى أنّكم وبقصْد أن تُخرجوا هذا الحيّ المُهمّش من الظلمات إلى النور، تكرّسون نفس الصور النمطية عنه (الجريمة، العنف، القسوة…) لدى من يريد احتكار “الرهافة” من طبقات وفئات سيّدة ترغب في استدامة وجودها المميّز؟
السهيلي: رأينا العنف والجريمة في أعمال درامية أخرى حين تدور الأحداث حول علْية القوم ومرّ الأمر بسلاسة. ولكن حين تدور نفس هذه القضايا في حي شعبي ينهض اللغطُ. لماذا؟ لأنّ الرفض لا ينصبّ على موضوع المخدرات أو الجريمة، بل على من يتناولها أو من يرتكبها. عندما يكون المدمن أو المجرم مرتديا كسوة بمئات الدولارات ويملك فاخر السيّارات نقبل ذلك، بل يتحوّل صنيعه إلى فعل وجيه. لمّا تتعرّى فتاة شقراء داخل غرفة نوم أثاثها بآلاف الدولارات تمرّ بطريقة عادية بل تتحوّل إلى رمز جنسي. لا يتعلّق الرفض بالمخدرات والجريمة والمشاهد الساخنة، بل بوجود تلك الفئة التي يسهل لعب دور الواعظ معها ويسهل معها اعتلاء المنبر، زعْما أنّهم ناقصون وفي حاجة إلى التوجيه. طبعا هذا ليس دفاعا مستميتا عنهم وليس محاولة لتلميعهم، لأنّهم مثل “ليما ” يرتكبون أحيانا أخطاء أو يسيئون الاختيار ولكن بوعي مني أنهم ضحايا وليسوا جلادين، فلا هم أصحاب سلطة أو قرار أو رأسمال وليس تحت إمرتهم عشرات آلاف من رجال البوليس ولا يملكون وسائل الاعلام ولا منابر الخطباء ولا تأثير كبار ما يُسمّى بالمثقّفين، لذا يستحيل أن يكونوا من كبار الجلاّدين.
لم يقرّروا نظام دوران هذه المنظومة وهل تدور من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين. على كلّ حال هم بالنسبة للمتحكّمين في المنظومة في تونس أو في جميع أصقاع الأرض مجرّد حشود تكمن قيمتهم الوحيدة في جداول الاستبيانات وفي سبر الآراء و اتجاهات الاستهلاك. هذه هي الأدوار الأساسيّة التي اختارها لهم الناس الذين يبرعون في تحريك الخيوط. حتى قيمتهم المفترضة كقوة عمل لم تعد ذات شأن.
للهزل أصبحت هناك فكرة تقول: لقد فتحنا لهم مجالات جديدة كمرتزقة يعملون في الشركات الأمنية ليشاركوا في الحروب العسكرية بدلا عن الدول، والمشاركة كحشود في الحروب الانتخابية.
في هذا العالم حيث لم يعد يُخفَ على أحد ولا هو بالفكرة الجديدة أنه عالم يسوده المبتذلون والتافهون، يتمّ تتفيه ذوات الناس وتحقيرها مهما كانت قيمتهم الحقيقية، ليتسيّد عليهم ويقرّر مصيرهم أناس متوسّطي المعرفة والموهبة وغير قادرين على تقديم أي شيء ذي قيمة. يسمّونهم “الفتية الذهبيون”. ويسمّون “مهمّشين” أولئك الناس الحقيقيين والأثرياء بالتجربة والحب والموسيقى، أولئك المبدعون في الرقص الذين تعرفهم الشمس من وجوههم ويعرفون هم ملامح وجهها، أولئك الذين ينهض القمر لأجلهم ليسامرهم حتى الفجر، أولئك الذين يعرفون معنى البنون ومعنى الأمهات. يسمّونهم مهمّشين رغم أنهّم يعيشون مع بعضهم ولأجل بعضهم.
من أطلق هذه الأحكام الرصاصات أنانيون هم لصوص كبار، أناس قطعوا أواصرهم مع أسرهم، لا أصدقاء لهم فقد عوّضوهم بالزملاء، ولا أخلّة لهم فقد عوّضوهم بالشركاء، أولئك الذين لا فلسفة لهم غير الغاية تبرّر الوسيلة. لا يهتمّون بالكلاب إلاّ لحراستهم ولا يُطعمون القطط إلاّ إذا حمتْهم من الفئران، في حين أنّ أولئك المهمشين لا يأكلون إلاّ بعد أن يكونوا قد تركوا نصيبا للطيور.
فنّ الممثل يتعرّض أيضا إلى نفس المؤامرة. لم يعد فنّا للمجانين الشعراء، أحفاد ديونيزوس، بل صار طريقا لتحصيل الوجاهة وجمع المعجبين على وسائل التواصل الاجتماعي واصطياد المستشهرين. تمّ طرد الممثلين ومُريديهم إلى خارج أسوار المدينة، فها همْ في حالة عطالة من على الربوة يشاهدون المهزلة، غير حزانى، يتفرّجون ويقهقهون…
[1] الجبل الأحمر هو حي شعبي يقع غرب العاصمة التونسية. وهو من الأحزمة السكنية المهمشة التي نمت على ضفاف العاصمة منذ ثلاثينات القرن الماضي. أيضا منطقة “ديبوزفيل” التي تقع على مشارف العاصمة، تعتبر من الأحياء الشعبية الفقيرة، وقد تم تصوير أحداث المسلسل في هذه المنطقة.