أمزت بوكاري يابارا مؤرخ ومناضل بينيني-مارتينيكي بدأ مساره البحثي في مجال التاريخ الحديث والمعاصر للبرازيل ثم تخصص في تاريخ أفريقيا من منظور أفريقاني له مؤلفات عديدة أهمها مساهمته في تحرير مؤلف مرجعي حول تاريخ وتحوّلات أفريقيا الفرنسية، وكتاب حول سيرة المؤرخ والمناضل الأسود الغوياني والتر رودني (1942-1980) الذي وقع اغتياله من قبل نظام بلده.
التقت المفكرة القانونية أمزت بوكاري يابارا ضمن سلسلة حواراتها الفكرية، وسألته عن توغّل الكيان الصهيوني في القارة واستراتيجيات هيمنة القوى الاستعمارية عليها.
المفكرة القانونية: يتناول كتابك Africa Unite سياسة إسرائيل العدوانية في القارة الأفريقية. هل لك أن تشرح لقراء المفكرة استراتيجية هذا الكيان الاستعماري في أفريقيا؟ وهل ساهمت حرب إبادته على غزة في تعرية صورته، بخاصة بعد مقاضاته من قبل جنوب أفريقيا أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
أمزت بوكاري يابارا: في البداية، تجدر الإشارة إلى أن النظام الذي واجه أكبر قدر من المقاومة في القارة كان نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا، الذي كان حليفًا مباشرًا لإسرائيل ووسطاء آخرين، أبرزهم فرنسا بسبب مصالحها المتعلقة باليورانيوم وبيع الأسلحة. بالتالي فإن النضال ضد إسرائيل كان ولازال مرتبطا بمسألة تحرير القارّة الأفريقية. إذ إن نيلسون مانديلا كان يعتقد أنه وبعدما يتمّ تحرير جنوب أفريقيا يجب الانتقال إلى النضال من أجل تحرير فلسطين، لأنّه طالما لم تتحرّر فلسطين، فلا يمكن اعتبار نضال جنوب أفريقيا منجزًا… لذلك ومنذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، اختارت الدول الأفريقية، حتى تلك التي لم تكن على علاقة عدائية مع إسرائيل، باستثناء دولتين، الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهو ما أتاح دومًا الفرصة أمام منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات تحديدًا، للتحدّث أمام منظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد الأفريقي الذي تتمتّع فلسطين ضمنه بصفة العضو المراقب. وحين طلبت إسرائيل الحصول على هذه الصفة، جاء الاعتراض بشكل رئيسي من جنوب أفريقيا والجزائر للحيلولة دون اختراقها فعليًا الدبلوماسية القارّية الأفريقية.
توغل النظام الصهيوني إلى بعض البلدان الأفريقية تم من خلال أشكال متعدّدة، لا سيّما الاقتصادية منها. وقد كان ثمّة مخططًا لاختراق أفريقيا من خلال مشاريع استثمارية مالية وصناعية، خصوصا في قطاعي المناجم والألماس. واليوم تتمتع إسرائيل بوجود قوي جدًا في القارّة.
الشكل الثاني أمني، بمعنى أنّ عددًا من الحكومات في أفريقيا إما تستخدم التكنولوجيا الإسرائيلية، أو لديها اتفاقيات أمنية مع اسرائيل. كما أن لهذه الاخيرة مصلحة في إيجاد موقع قدم لها في أفريقيا، بسبب الدعم الذي تقدّمه الدول الأفريقية لخصمها، كما بسبب وجود جاليات لبنانية وشرق أوسطية في أفريقيا ساهمت في دعم الاقتصاد المقاوم بعلاقة بفلسطين.
وقد شهدنا في السنوات الأخيرة هجمة إسرائيلية على القارّة. حدث ذلك على مستويين. من جهة عبر دفع بعض الدول الأفريقية إلى نقل سفاراتها إلى القدس وبالتالي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. دولتان أو ثلاث قامت بذلك. ومن جهة أخرى عبر العمل على فتح المزيد من السفارات الإسرائيلية في القارّة الأفريقية، مثلما حدث في تشاد وشرق أفريقيا. وهكذا، أصبحنا حقًا في وضع من الهجمة الإسرائيلية على القارّة الأفريقية على المستويات الدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاستراتيجية. أما العنصر الأخير فيحيل إلى الوضع في إسرائيل نفسها حيث ثمة وجود لجاليات أفريقية مختلفة مثل المهاجرين الذين وصلوا مؤخرًا والذين يواجهون خطابا شديد العنصرية من جانب حكومة اليمين المتطرّف كما أيضًا الجاليات الإثيوبية والسودانية. لذلك فالمسألة الأفريقية، ومسألة السود كما هي موظفة من قبل إسرائيل، تستلزم من الدول الأفريقية موقفًا موحدا في مواجهتها.
حين تقوم جنوب أفريقيا برفع قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، فنحن أمام استمرار المعركة ضدّ نظام الفصل العنصري.
أما فيما يتعلّق بآخر تطوّرات حرب الإبادة الجماعية في غزة، فإنّنا لم نلحظ سوى القليل من الإدانات من جانب الدول الأفريقية، باستثناء جنوب أفريقيا التي تبدو مثل الشجرة التي تحجب الغابة. في المقابل، ثمة تأييد من قبل المجتمع المدني والرأي العام الأفريقي عموما للفلسطينيين يمد جذوره في التاريخ المشترك من المقاومة الشعبية للاستعمار، وأيضًا لكون كبار القادة القوميين الأفارقة التاريخيين كانوا متضامنين مع فلسطين من أمثال أميلكار كابرال وتوماس سانكارا ومالكوم إكس.
المفكرة القانونية: أنت ساهمت في تحرير مؤلف مرجعي حول فرنسا-الأفريقية L’empire qui ne veut pas mourir. Une histoire de la Françafrique
الإمبراطورية التي تأبى الموت. تاريخ فرنسا الافريقية.
هل لك أن تعود على هذه المنظومة الكولونيالية وتشرح لنا ادواتها والتحولات التي شهدتها؟
بوكاري يابارا: ظهر مصطلح أفريقيا الفرنسية للمرّة الأولى في أغسطس 1945 في افتتاحية لصحيفة فرنسية تأييدا لفكرة أنه وبعد الحرب العالمية الثانية ومن أجل إعادة بناء نفسها، تحتاج فرنسا إلى إمبراطوريتها الاستعمارية وذلك عبر شحذ أدوات خاصّة تضمن لها ذلك.
أول هذه الأدوات هو الفرنك الأفريقي. ففي أعقاب الحرب العالميّة، كانت قيمة هذه العملة الخاصة بالمستعمرات الفرنسية في أفريقيا تفوق الفرنك المعمول به في فرنسا باعتبار حاجة هذه الأخيرة إلى استيراد الموارد الأولية من إمبراطوريّتها الاستعماريّة.
كما لا تقلّ المسألة العسكرية أهمية عن العملة. إذ وخلال الحرب العالمية الثانية، وبسبب استسلام فرنسا بقيادة بيتان للاحتلال الألماني، وبالتالي قيام نظام متعاون مع النازية في فرنسا، باتت المستعمرات، وخصوصا تشاد، أرض مقاومة لما عُرف حينها بفرنسا الحرّة. إذ قام الجنرال ديغول وجميع المحيطين به، الذين شكّلوا لاحقًا الجمهورية الخامسة، انطلاقًا من أراضي هذه المستعمرات بإطلاق عملية تحرير فرنسا. وعليه كان من الإستراتيجي عسكريّا لفرنسا أن تمتلك إمبراطوريتها هذا الخزّان من القوّة. الأداة الثالثة هي الدبلوماسية. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، سمح الامتداد الاستعماري لفرنسا بتموقعها في معسكر المنتصرين، و برزت كإحدى القوى الخمس الكبرى التي استطاعت الوصول إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عن طريق امتلاكها للسلاح النووي، من خلال ولوجها إلى اليورانيوم وقيامها بالتجارب النووية في الصحراء الجزائرية. يمكننا إذًا أن نجزم بوضوح أنّ أفريقيا شكلت المصدر الأساس لقوّة وسيادة فرنسا ما بعد سنة 1945.
أفريقيا الفرنسية منظومة محكومة بأيديولوجيا كاملة تستند لما يطلق عليه اسم النموذج الاندماجي الفرنسي. فعندما استعمرت فرنسا الجزائر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ثم السنغال في الخمسينيات منه، أنشأت تراتبية عرقية هرمية. كما وضعت “قانون الأهالي” وأرست نظامًا من عدم المساواة. وبالتوازي، روّجت لمفاهيم مثل “المهمّة الحضارية”، أي واجب نقل الحضارة إلى الأعراق الدنيا، على حد قول جول فيري، وأيضاً لفكرة “فرّق تسد” العزيزة على المارشال جوزيف غالياني. وهو ما أدّى الى تنامي نوع خاصّ من العنصريّة، لا نجده في الأنظمة الاستعماريّة الأخرى، قائم على فكرة أنّ المستعمَر، وحتى يصل إلى مستوى حضاري أعلى، يجب أن يصبح فرنسيًا، وهو ما يعبر عنه بالنموذج الاندماجي.
أفرز ذلك نخبة أفريقية جديدة في خدمة احتياجات الإدارة الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، انتعشت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حين قررت فرنسا القيام بأمر لم تفعله أيّ دولة مستعمرة أخرى، وهو إدخال ممثلين منتخبين متحدّرين من المستعمرات إلى برلمانها. فظهرت ضمن هذه النخب الحديثة، شخصيات مثل فيليكس أوفوى بوانيي، الذي أصبح لاحقًا أوّل رئيس لساحل العاج وليوبولد سيدار سنغور الذي تقلد رئاسة السنغال بعيد استقلاله، وغيرهم.
في الفترة الممتدة من سبتمبر 1958 وبداية سنة 1960، أدركت فرنسا ضرورة إنهاء الاستعمار المباشر تفاديا للمخاطرة بخسارة كل شيء في مستعمراتها الإفريقية. ومع بداية الستينيات، حين بات واضحًا أنّ هذه الأخيرة ستحصل على استقلالها، شهدنا ولادة عدد من اتفاقيات التعاون العسكرية، والاقتصادية والنقدية والثقافية والتقنية، والسياسية، والتي بات منح الاستقلال مشروطًا بتوقيع الدول الأفريقية عليها. في هكذا اتفاقيات، تم تضمين الحفاظ على تداول الفرنك الأفريقي، وعلى القواعد العسكرية على الأراضي الأفريقية، كما تمّ منح امتياز الولوج، لصالح الشركات الفرنسية، إلى عدد من خامات المعادن والمواد الاستراتيجية وضمان مصالح الشركات متعدّدة الجنسيات التي شرعت منذ نهاية الخمسينيات في عمليات التنقيب في الصحراء الجزائرية وفي أفريقيا الاستوائية حيث تمّ اكتشاف اليورانيوم والنفط وعدد هائل من الثروات الطبيعية الأخرى.
وحيث لم يكن ممكنا منح الاستقلال الكامل للأفارقة والحال أنّهم يتمتّعون بجوف أرض فائق الثراء، كان الاتجاه نحو منحه لقادة أفارقة وقع الاختيار عليهم بناءً على عدم رغبتهم الحقيقية في هذا الاستقلال. وبالتوازي، تمّ القضاء تباعًا على الزعماء القوميين الذين كانوا متشبثين باستقلال يقطع مع فرنسا ودعم قادة مرتبطين بالمصالح الفرنسية تكوّنوا اجتماعيًا في الوسط الفرنسي فتحوّلوا بين عشية وضحاها من نوّاب في الجمعية الوطنية الفرنسية، إلى ممثلين للشعب الأفريقي، مكلّفين بالدفاع عن مصالحه.
لقد انحاز معظم هؤلاء القادة ببساطة إلى رفاقهم الفرنسيين السابقين ممّا أفرز نظام علاقات غير متكافئة قوامه الحفاظ على مصالح النخب الأفريقية والفرنسية. وقد عرف هذا النظام أي فرنسا الأفريقية في الواقع انتشارا وتحولات تبعًا للصعوبات التي واجهها.
في بداية السبعينات، اعتمدت منظومة فرنسا الأفريقية على القمم الفرنسية- الأفريقية الشهيرة التي كانت تنعقد بشكل شبه مغلق بدعوة وحول الرئيس الفرنسي ومشاركة الرؤساء الأفارقة. ثمّ تم الاعتماد لاحقا على تنظيم قمم الفرنكوفونية. كما أحيطت هذه المنظومات الرسميّة بمنظومات موازية غير رسميّة دبّرت وأديرت فيها الانقلابات العسكرية، واغتيالات رؤساء الدول الذين لا يؤيدون المصالح الفرنسية، أو حشد الدعم لرؤساء الدول المساندين للمصالح الفرنسية والمعرّضين لخطر الإطاحة. في نهاية الثمانينات، عرف هذا النظام تطوّرًا غداة خطاب فرانسوا ميتران في مدينة لابول الفرنسية الذي دافع فيه عن دمقرطة هذا النظام وتحريره. في الواقع، تزامن هذا التطوّر مع التحوّل إلى النيو ليبرالية، حيث أصبح من الضروريّ توسيع العرض السياسيّ من أجل إعادة التموضع بشكل أفضل من جهة المصالح الاقتصادية الفرنسية تحديدًا.
وبالنتيجة ظهر خلال فترة التسعينيات وبداية الألفية فاعلون جدد، من أمثال صاحب الأعمال الملياردير فانسان بولوريه رئيس مجمع فيفلدي، ذي المصالح المرتبطة عضويا بمنظومة فرنسا الأفريقية.
كان همّنا في هذا المؤلّف الجماعي تبيان كيف أنّ أفريقيا الفرنسية هي منظومة مرنة تكيّفت وأعادت إنتاج نفسها برغم الإعلان المستمر عن موتها. لذلك لم نختزلها في الحديث عن بعض وجوهها من ذوي السمعة السيّئة أو عن الحقائب المليئة بالمال أو عن الماسونية بل على العكس من ذلك، قاربناها كمنظومة فعليّة تعمل على المحافظة على مقوّمات التبعيّة. فحرصنا على أن يكون هناك تنوّع في خلفيات المساهمين في المؤلف كما سعينا إلى تحيين عمل فرانسوا كزافييه فيرشاف الذي ساهم في مؤلفه في انتشار هذا المفهوم في التسعينيات وبداية الألفية الثانية والبناء عليه.
إذ من المهم أن ندرك كيف تطوّرت هذه المنظومة في عهد الرئيس الفرنسي ساركوزي، ثم من لحقه من رؤساء وتحديدًا فرانسوا هولاند وبعده إيمانويل ماكرون. مع هذا الأخير، على سبيل المثال نلاحظ نهجا مختلفا قليلا يتمثّل في محاولة الاعتماد على المجتمع المدني، والقوة الناعمة بالتوازي مع الاعتماد على الأساليب الفرنسية الأفريقية القديمة التي قادت ماكرون إلى الذهاب إلى نجامينا في 2021 لتنصيب ابن إدريس ديبي خلفا لأبيه، على الرغم من تعارض ذلك مع مقتضيات الدستور فيما يتعلق بالتداول على السلطة، أو دعم ولاية ثالثة لرئاسة الحسن واتارا في ساحل العاج.
المفكرة القانونية: هل لك أن تشرح لنا كيف تساهم الفرانكفونية، هذه “الإمبراطورية اللغوية” لفرنسا كما تسمّيها، في الحفاظ على الهيمنة على القارة؟
بوكاري يابارا: في إجابته عن سؤال صحفي فرنسي، صرح شارل ديغول أنه سيأتي وقت تصبح فيه الفرنكوفونية أداة بديلة للاستعمار مضيفا أن مصلحة فرنسا الاقتصادية تقتضي أن يكون لها أصدقاء في أفريقيا، وخصوصية هؤلاء الأصدقاء هي أنهم يتحدثون الفرنسية. وعليه يمكنها إنشاء علاقات حميمة معهم يشاركونها مصطلحاتها، أذواقها وقيمها وثقافتها. الثقافة إذًا هي عنصر من عناصر الهيمنة الناعمة. بالمقابل، هناك بلا شكّ نخب مضادّة، أيمي سيزير وفرانز فانون، وتوماس سانكارا، جميعهم كانوا يتحدثون الفرنسية، واستعملوها كأداة مقاومة واحتجاج ضدّ هذه السيطرة.
حين نقول إنّ دولة أفريقية ما هي دولة فرنكوفونية، فنحن بشكل عام نتحدّث فعليًا عن نخبة تشكّل 15 إلى 20% من الشعب تتحدث بالفعل اللغة الفرنسية، أي عمومًا النخبة الاقتصادية والسياسية، أما الـ 80% الباقية من السكان هم فرنكوفونيون على الورق فقط.
لدينا دول في أفريقيا حافظت على الفرنسية كلغة رسمية، أي لغة القانون والدستور… بالرغم من أن الغالبية العظمى من سكانها لا يتقنون لغتها الرسمية. وعليه يصبح من الأسهل الهيمنة عليها. فمثل هذا الوضع يفتح نوافذ من الفرص الاقتصادية للشركات الفرنسية، ودور النشر باللغة الفرنسية والقطاع الثقافي الفرنسي والإعلام السمعي البصري مثل راديو فرانس الدولي ومجموعة إعلام فرنسا العالمي وتي في 5، إلخ.
كان الاستعمار يهدف رسميًا إلى تثقيف وتحضير الأفارقة، بيد أنّ الاعتمادات التي استخدمت لتعليم القراءة والكتابة باللغة الفرنسية كانت ضعيفة للغاية لأنّ الرّهان كان يقتضي أن يقتصر إتقان اللغة الفرنسية على أقلية ضئيلة، كانت الأجهزة الاستعمارية الفرنسية بحاجة إليها. لذلك، فإن الدول الأفريقية المستقلة قد نجحت خلال 60 عاماً من الاستقلال من تعليم اللغة الفرنسية لعدد من سكانها يفوق العدد الذي وصل إليه الاستعمار نفسه خلال 80 عامًا. في حين كان ذلك الهدف المزعوم للاستعمار. اللغة إذا هي مسالة سيادية بامتياز. فرواندا على سبيل المثال، ولأسباب سياسية واستراتيجية، قررت إدارة ظهرها للغة الفرنسية وتحوّلت إلى اللغة الإنكليزية في غضون جيل واحد. كما نرى بلدانًا تنتمي إلى المجال الفرنكوفوني، مثل غابون وتوغو، قررت الانضمام إلى الكومنولث مع الاحتفاظ باللغة الفرنسية كلغة رسمية.
اختيار اللغة يتقاطع في الحقيقة مع عدد من الرهانات، بخاصّة في البلدان الأفريقية التي يتوجّب عليها تطوير لغتها الوطنية.
المفكرة القانونية: بالإضافة إلى الوجود العسكري الفرنسي في القارة الافريقية، هناك أيضًا القيادة الأمريكية الموحدة المسؤولة عن العمليات العسكرية في القارة. لماذا يشكّل الناتو في رأيك قوة معادية لتحرّر الأفارقة؟
بوكاري يابارا: نعم أولا، يشكل حلف الناتو قوة معادية لتحرّر الأفارقة وقبل ذلك للأفريقانية لأنّه قائم على السيطرة على مجمل المجال الأطلسي. والأفريقانية هي الأيديولوجية الوحيدة التثويرية الموجودة على جانبيْ المحيط الأطلسي. وبالتالي فإن حلف الناتو ليس لديه مصلحة على الإطلاق في بروز قوة ذات سيادة في القارّة الأفريقية من شأنها أن تضع حدًا لفكرة التدخّل الأميركي.
السبب الثاني استراتيجي. انغرس حلف الناتو في القارّة الأفريقية من خلال التمركز في القواعد العسكرية البريطانية. تمّ هذا الاتفاق عند دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. فاستخدمت القواعد العسكرية، والمطارات والموانئ من قبل ترسانة حلف الناتو. وفي المقابل، قدّم حلف الناتو الدعم، على سبيل المثال، للاستعمار البرتغالي ونظام الفصل العنصري، عملًا بضرورة احتواء الخطر الشيوعي. وعليه، أصبح حلف الناتو وكيلًا مباشراً للإمبريالية في أفريقيا. كما تمّ دعم عدد من حركات التمرّد أو العصيان لمصلحة القوى الإمبريالية. وفي الآن نفسه، تمّ السعي إلى التعاقد مع الدول الأفريقية لإنشاء مركز القيادة العسكرية الأفريقية في القارّة الأفريقية. اليوم يقع مقرّ هذه القيادة في ألمانيا، في شتوتغارت. ومنذ تقريبًا عشر سنوات، تبحث الولايات المتحدة في القارّة الأفريقية عن بلدان مستعدة لاستقبال القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) وبالتالي قابلة لاستقبال قواعد عسكرية على أراضيها.
حلف الناتو نشأ في سياق الحرب الباردة ونحن اليوم في سياق حرب باردة جديدة. نحن في خضم عملية إعادة عسكرة واضحة جدًا للقارة الأفريقية. فالتواجد الروسي العسكري المتنامي في أفريقيا بصدد تبرير حضور أكبر لحلف الناتو والأميركيين في أفريقيا. وهو أمر يجب أن نفهمه جيدًا.
نشر هذا الحوار في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 32
لقراءة وتحميل العدد 32 بصيغة PDF