التقت المفكرة القانونية مع المؤرخة والمناضلة الديكولونياليّة فرانسواز فيرجيس، في إطار سلسلتها الجديدة “حوارات فكرية” لتسألها عن النسوية الديكولونياليّة، وعن غزة وعن تواطؤ النسوية البيضاء ونزع الاستعمار عن المتاحف الكونية. فيرجيس متخصّصة في تاريخ العبودية ونزع الاستعمار، وقد تحصّلت على دكتوراه من جامعة بيركلي في الولايات المتحدة الأمريكية. كما ترأست لسنوات اللجنة الوطنية من أجل الذاكرة وتاريخ العبودية في فرنسا.
وفيما يلي مقتطفات من المقابلة المصورة التي نشرناها على صفحات المفكرة القانونية.
أجرت المقابلة ألفة لملوم
المفكرة القانونية: أنت ولدت ونشأت في جزيرة ريونيون ثم عشت في الجزائر أين تحصلت على شهادة الباكالوريا. هل لك أن تشرحي لنا تأثير تاريخك الشخصيّ وتاريخ العائلة على مسارك الفكري والتزاماتِك النضاليّة؟
فرانسواز فيرجيس: يمكنني القول بأنّي بدأت حياتي في جزيرة ريونيون ثمّ الجزائر وقد بقي ما اكتسبته في هذين البلدين في صميم تنشئتي الفكرية والسياسية. في الريونيون، كنت أقرأ الأدب والروايات والصحف في إطار تدرّجي في المدرسة الفرنسية. ثمّ اكتشفت الجزائر البلد الذي انتزع استقلاله بعد حرب التحرير التي كنت دائما أسمع عنها في البيت، وبخاصة من عمّي جاك فيرجيس الذي كان محاميا للوطنيّين الجزائريين وفي مقدمتهم جميلة بوحيرد. كبرت طبعا مع هذه الشخصيات. بالنسبة إليّ، كان الأمر إذا مرتبطًا بالتربية وأيضا بالجغرافيا أي بالمكان نفسه الذي نشأتُ فيه، في البداية في جزيرة في المحيط الهندي حذو مدغشقر والهند وجزيرة موريس. فكانت أوروبا بالنسبة لنا تقع في الأطراف. ثمّ في الجزائر التي كانت أوّل تجربة حياة لي، إن صحّ التّعبير، في قلب القارّة الإفريقية بكلّ ما مثّلته، بالنسبة لي، في مرحلة طفولتي ومراهقتي المبكّرة.
المفكرة القانونية: في كتابك بطون النساء الرأسمالية والتنميط العرقي والنسوية تحللين آلاف عمليات التعقيم والإجهاض القسري التي فرضت على النساء في جزيرة الريونيون في سنوات 1970 تماما كما فرضتْ على النساء في الجنوب العالمي. كيف يمكن أن يساعدنا مفهوم الكولونيالية في مقاربة هذه السياسات الإجرامية في حق النساء؟
فيرجيس: من المهمّ جدّا فهم هذا الأمر لأنّ هناك فكرة سائدة في فرنسا كما في أوروبا مفادها أنّ الاستعمار في القرن التاسع عشر، واستقلالات ما بعد الحرب العالمية الثانية، صفحة قد طُويت وحقبة انتهت ووجب المرور إلى مرحلة أخرى. صحيح أنّنا انتقلنا إلى شيء آخر لكن ما يتمّ حجبه هو ما يسمّيه المنظّرون “ما بعد الحياة” أي ذلك الشيء الذي يبقى رغم كل شيء. إذ لا يمكن طيّ صفحة قرون من الاضطهاد والهيمنة والاستلاب. فالكولونيالية هي توصيف لما ظلّ قائما سواء في العلاقات الاقتصادية، أو في مجال العلاقات السياسية، أو في مسائل الثقافة والفنون. جميع هذه القضايا التي تناولها كلّ من ألبير ممّي، وفرانز فانون، وإيمي سيزار وكذلك عدد من النساء أيضا مثل ماريز كوندي وغيرها تحت عنوان “الاغتراب” الذي أدّى إلى تعليمنا احتقار لغتنا الأمّ وثقافتنا الأصلية وأصبحنا نفكّر في ذواتنا نسبة إلى الغرب. فالأمر يتعلّق، إذن، بالتّخلّص من الاغتراب الذي ظلّ قائما لأنّ علاقات الهيمنة لا تزول بمجرّد أن يستعيد شعب ما أرضه ويقيم دولته ويبني أمّته.
ذلك ما حاولت استكشافه في كتابي “بطن النّساء” وتبيان أنّ الدّولة لئن يبدو أنها تمارس سياستيْن متناقضتيْن ظاهريا فيما يخصّ النّساء، فإنّه لا وجود لهذا التناقض في علاقة بالإنجاب وببطون النساء. إنّها في الواقع خيارات سياسية واضحة فيما يخص من التي يحقّ لها أن تنجب وتصبح أمّا ومن التي لا يحقّ لها ذلك، وما هي طبيعة الأطفال التي ترغب الأمّة فيهم والأطفال الذين لا ترغب فيهم. فعبارة “إعادة التّسليح الديمغرافي”، لا تعني جميع نساء فرنسا وهي تستثني منهنّ النّساء الموصومات عرقيّا أي النساء السّودوات، والنساء المحجّبات، والغجريات، والنّساء المنتميات إلى الطبقات الشّعبية. المرغوب فيهم هم أطفال البرجوازية، الذين سوف يصنعون مجد فرنسا. إذا، وراء هذه العبارة العسكرية، والتي تُشَبِّه رَحِم النساء بمصنع للمدافع، تظلّ المسائل الطبقية والعرقية حاضرة بقوّة.
دائما ما طبقت في المستعمرات سياسة إنجابية مختلفة. ففي زمن العبودية الاستعماريّة مثلا، لم تعدّ النّساء اللاتي أُخْضِعْن إلى الرقّ أبدًا كأمّهات بأتمّ معنى الكلمة. كن يدافعن عن أنفسهن ويقاومن، لكن نعلم أنّ السيّد كان باستطاعته، مثلا، أن يأخذ طفلا ليبيعه ويفصله عن أمّه وأبيه. ثمّ تم تقنين ذلك فيما سمي ب “قانون الأهالي” (Le Code de l’indigénat). ولاحقا في فترة الاستعمار ما بعد الرقّ، لم تحصل العائلات المستعمَرَة أبدا على نفس حقوق المستعمِرين. والأمر متواصل إلى اليوم. نحن نعلم أنّ النساء الموصومات عرقيّا يتعرّضن اليوم في فرنسا إلى سوء المعاملة في أقسام الولادة في المستشفيات وأنّه ليس للأطفال الحقّ في نفس الطفولة. فمن وراء عبارة “حقوق النّساء” السّائدة التي تزعم أنّها تعني جميع النّساء، توجد في الواقع سياسيات عرقية، وطبقية، وجندرية متجذّرة عميقا في التاريخ. ففي جزيرة مايوت، ليس حقّ الحصول على الجنسية الفرنسية للمولودين على أرضها (le droit du sol) وحده محلّ مراجعة، ولكن أيضًا أدلى العام الماضي مدير الوكالة الإقليمية للصحة وهو مسؤول كبير في الدولة الفرنسية، بتصريح قال فيه أنّه من الممكن تعقيم جميع نساء الجزيرة اللاتي يأتين إلى المستشفى العمومي بمعنى أنه ينظر إلى التّعقيم كحلّ للمشاكل بالغة الخطورة التي يعشنَها في جزيرة مايوت.
المفكرة القانونية: في كتابك النسوية الديكولونيالية، كتبت أن نكون نسويّات اليوم، فذلك يشكّل بعض العبء. وبالضبط في فرنسا ومنذ سنوات الألفين خصوصا في أعقاب تبني قانون حظر الحجاب في 2004 أصبحت النسوية خطابا مهيمنا. إذ أن اليمين وحتى أقصى اليمين يدعي اليوم في فرنسا الدفاع عن النساء. كيف انتقلنا في هذا البلد من نسويّة كونيّة غير عابئة بالمسألة العرقيّة والكولونياليّة إلى نسويّة بيضاء وحتى إمبريالية؟
فيرجيس: فعلا، إنّه لمن الأهميّة بمكان فهم تطوّر النسويّة الفرنسيّة المهيمنة لأنّه وجدت بالتوازي أيضا وعلى امتداد تاريخ فرنسا، نسويّات من مشارب مختلفة مثل النسويّات الماركسيّات، والنّسويات الفوضويّات، والنّسويّات التروتسكيات… لكن النسوية المهيمنة التي يمكن وصفها بالبورجوازية والتي ناضلت أيضا من أجل ولوج النساء إلى الحقوق، أصبحت في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثانية إمبريالية. وهو ما أطلق عليه تسمية “النسوية القومية” (fémoféminisme)، أي في خدمة القومية والتي ركّزت، كما تقولين، على مسألة الحجاب. فالحجاب هو الذي منح هذه النّسوية مكانتها في الرأي العام. في نسوية السبعينيات، كان هناك أيضا بُعدٌ دَوليٌّ. إذ لا ننسى أنّ أوّل كتابة دولة للمرأة، ملحقة بمجلس الوزراء، ظهرت في عهد جيسكار ديستان حيث كانت توجد في فرنسا نسوية دولة متأصّلة إلى حدّ ما تاريخيا اكتست تدريجيا أهمية أكبر. والحقيقة أن نسويات اليسار الّلائكي هنّ اللّواتي أثَرْن قضية الحجاب. وقد كان للأمر أهمية كبرى لأنه أتى من اليسار، إذ لو أنّه صدر عن نسويّات اليمين لما كان ليجد، في اعتقادي، كلّ ذلك الصّدى. ولكنّنا كنّا آنذاك تحت حكومات من اليسار تدّعي أن النّساء المحجّبات يهدّدن المكتسبات النّسوية للسبعينيات. ويفهم من ذلك أن الإسلام يشكّل خطرًا على حقوق النّساء. وعليه، نسويّات اليسار هنّ اللواتي قدمن مثل هذه الحجج للدّولة والنيولبرالية والإمبرالية اعتمادا على إسلاموفوبيا متأصّلة بقوّة. يمكن في هذا المجال التذكير بسلسلة كاملة من الأحداث والوقائع والخطابات المتكرّرة عن البوركيني وغيرها من الحكايات الملفّقة. وكان لهذا الخطاب أهمية كبرى لأنّه قدّم حقوق النساء كمعيار للحضارة… ذلك ما أسميّه النسوية الحضارية التي تعيد إنتاج خطاب “المهمّة الحضارية” (mission civilisatrice) من خلال تكييفه مع القرن 21. أي أنّه وباسم تحرير النساء وجب التدخّل في شؤون البلدان الأخرى. واللائكية التي هي في الأصل، ضمان الحقّ في المعتقد، تحوّلت إلى ديانة اعتنقتها هؤلاء النسويات.
المفكرة القانونية: ضمن مقاربة مركزية أوروبية، تعدّ النسويّة مهيمنة كنتاج للأنوار، فكيف هي تتشابك مع هذا الادعاء وما العمل لنزع الاستعمار عن تاريخ النسوية اليوم؟
فيرجيس: إنّ نزع الاستعمار من النّسويّة يعود إلى الحركة النّسوية الأوروبيّة والفرنسيّة نفسها التي عليها أن تنكبّ على تاريخها الخاصّ وتسأل نفسها لماذا ظلّت هذه النّسوية كما يروّج خطأ محميّة من تأثير الأفكار القائلة بضرورة الاستعمار لإثراء الأمّة وفرنسا، وهي أفكار ظهرت بقوّة في القرن الثامن عشر وأصبحت مركزية في القرن التاسع عشر. ما الذي جعل هذه النّسوية تبقى بمنأى عن تأثير هذه الأيديولوجيات، وعن فكرة أوروبا الحاملة للأنوار؟ إنّ ما نسته هذه الحركة هو أنهن بيضاوات وقد أصبحن كذلك؟ لا توجد دراسات كثيرة عن البياض في الحركة النسوية… فالقضية هي كيف يمكن للنسويّات اليوم مقاومة البياض باعتباره امتيازا وأيديولوجيا ساهمت في إقامة عالم تسوده اللامساواة، عالم متكون من شمال وجنوب، عالم أصبح فيه الأبيض، في آخر المطاف، رديفا للحضارة والثقافة الكبرى.
“إعادة التّسليح الديمغرافي”، لا تعني جميع نساء فرنسا وهي تستثني منهنّ النّساء الموصومات عرقيّا
المفكرة القانونية: أنت تتبنين نسوية ديكولونيالية. ما هي أهداف هذه النسوية، ما هي معاركها وما هو المخيال الذي تقترحه؟
فيرجيس: بإمكان الجميع أن يعلن انتماءه إلى النسوية بما في ذلك النسويات من اليمين المتطرّف. لكن يجب التّمييز بين مختلف الحركات النسوية. هناك النّسوية الإسلامية، والنسوية السوداء… بالنسبة للنسوية الديكولونيالية فاني أضعها ضمن تاريخ التحرر من الاستعمار وضمن نظرياته. إذ أنّ التحرر من الاستعمار سيرورة تاريخية، أي أنه كما يقول فرانز فانون، لا ينتهي بمجرّد الحصول على الاستقلال. فالتحرر من الاستعمار يهدف إذًا، إلى القضاء على عالم العنصرية والرأسمالية والإمبريالية، ذلك العالم المتوحّش والقاسي والمنتج للامساواة، والظلم العميق، والاقتصاد الاستخراجي. أي عالم ونظام بصدد هدم كوكب الأرض. إذ أنّ النسوية الديكولونيالية هي مناهضة جذريا للعنصرية والرّأسمالية والإمبريالية. إنّها لا تكتفي بمناهضة التمثّلات السلبية للنساء، وإنّما تقاوم، حقّا، هذا النّظام الذي جعل العالم وكوكبنا غير قابل للتنفّس وللعيش بالنسبة لملايين الأشخاص. كما أنّ النّسوية الديكولونيالية هي تحرير كامل المجتمع، وتحرير الكوكب من هذا النظام، ومن هذا المنوال الاقتصادي والأيديولوجي.
المفكرة القانونية: نشهد سكوتا شبه مطبق للحركة النسوية البيضاء المهيمنة في فرنسا وأوروبا على حرب الإبادة في غزة. ألا يشير تواطؤ هذه الحركة النسويّة مع إسرائيل إلى تأثرها بالإسلاموفوبيا والتوظيف السياسي للمعاداة للسامية؟
فيرجيس: إنّ الصّمت الرّهيب لهذه النّسوية أمام ما يجري في غزّة أمر مخجل. ولكن لربما هو يميط اللثام أخيرًا عن تواطؤها، كما تقولين. شعب بأكمله يمكن أن يُفنى نهائيًا، ومدن دمّرت بأكملها وأصبحت ركاما، ومدارس وجامعات… وكلّ ما يمثّل الحياة الاجتماعية والثقافية لشعب بأكمله قد دمّر. حتى المقابر خرّبت. جميع الأعذار اليوم من نوع “نعم لكن حماس..” لا معنى لها. إذًا، لماذا هذا التّواطؤ؟ من جهة، أعتقد أنّ لذلك صلة بالإسلاموفوبيا العميقة كما أيضا الإفراط في التودّد للسّامية والذي هو في الواقع معاداة لها. نحبّ اليهود لكن، في الأخير، لأنّنا طردناهم وأخرجناهم من ديارنا، أي من أوروبا. إسرائيل هي “قلعة الغرب” كما يروّج له، القلعة الديمقراطية … هذا الصمت، أعتقد أنّه يكشف عن التواطؤ العميق لهذه النّسوية مع الإمبريالية في كلّ الأزمنة. في القرن التاسع عشر، كان هناك تواطؤ بين نسويّة معينة والإمبريالية لكن صوتها لم يكن عاليا. أقصد أنّها لم تكن تؤثّر على القرار السياسي. وحتى الحكومات لم تكن تضع وقتها خطابها في الصدارة. لأنّ الحكومات ذكورية للغاية. لكن بسبب الانزلاق الذي ذكرته في الأوّل، والذي حدث في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة حيث أصبحت حقوق النساء والنسوية سلاحا هامّا بين أيدي النيولبرالية والإمبريالية، أصبح من الهامّ جدّا استغلال ذلك ضدّ الشعب الفلسطيني اليوم. إذًا، هناك نسوية تعتمد عليها الإمبريالية، وتواطؤ بينهما. كما أعتقد أنّ الأمر يتعلّق أيضا بردّة فعل دفاعية ضدّ عدد من التيارات النسوية مثل النسوية الإسلامية والنّسوية السوداء، والنسوية الديكولونيالية، وفي النهاية ضدّ جميع النسويات المتشابكات مع هذه النسوية والتي عرفت انتشارا في فرنسا والعالم. لذا وجب التحرّك والتصدّي لها ومنعها من التطوّر. نحن أمام ثورة مضادّة. هذه النسوية التي تتحدّثين عنها تحمل في طيّاتها ثورة مضادّة في محاولة منها لتعطيل باقي النسويات قدر المستطاع. نرى ذلك من خلال منع التظاهرات، ومنع تنظيم اللقاءات، والنّدوات.
المفكرة القانونية: أنتِ عبرت عن موقف متحفّظ بخصوص مسالة التعويضات فيما يتعلق بجرائم أوروبا الاستعمارية. هل لك أن تشرحي لنا أسباب هذا التحفّظ وما هي مقاربتك لمواجهة هذه الجرائم الاستعمارية لفرض الحقيقة والعدالة وعدم النسيان اليوم؟
فيرجيس: نعم، إنّها قضية هامّة. إذا كان التعويض أو جبر الضّرر يعني إقامة العدالة، نعم. حين أقول أنه يمكن للتعويض أن يكون أداة لمحو الجريمة على نحو ما، فذلك لأننا نرى كيف انتهى الأمر ببعض السياسات الغربية إلى الاعتراف بالجريمة لأنّ هناك ضغطا، ومطالبات نتيجة نضالات عديدة. فالاعتراف بالعبودية كجريمة ضدّ الإنسانية تطلّب في فرنسا نحو 20 أو 30 سنة من النّضال. لكن هناك حالات يستعمل فيها الاعتراف، في نهاية المطاف، بوصفه جبر ضرر، من أجل إحلال السلم ميدانيا. وللقول: حسنا، والآن انتهى كل شيء. في كتابي بعنوان “نزع الاستعمار عن المتحف”، أردت الحديث عن شكل معيّن من التّعويض المتمثّل في القول: حسنا، رائع ما نفعله من أجل محو الجريمة، يعني الجريمة التي ارتُكبت. حسنا، والآن نحن أبرياء. إنّه شكل من أشكال رتق البراءة. هذه الأشكال من التعويض وفرت وما زالت توفّر عملا للغرب. هناك أشخاص أصبحوا خبراء في التعويض وجبر الضّرر. نقدي، إذن، فيما يخصّ التعويضات هي أنّها أصبحت مجالا جديدا لاستخراج الأفكار، وميدانا جديدا لبناء مسارات مهنية. التعويض من أجل إقامة العدالة، مرتبط أيضا بنوع الجريمة. لا يمكن أن تكون جميع التّعويضات بنفس المستوى. جميعها لا تخصّ نفس الأشياء. لكن هناك، أوّلا، وجوب الاعتراف بالجريمة طبعا، ثمّ التساؤل لماذا أمكن ارتكاب هذه الجريمة؟ ذلك ما جذب اهتمامي عندما اشتغلتُ على العبودية. لماذا دامت أربعة قرون؟ والحال أن التنديد بها جاء سريعا حتى في أوروبا، دون الحديث عن النضالات المتواصلة للمستعبدين أنفسهم. ما الذي سمح بديمومتها؟ التعويض هو أيضا التساؤل عمّا سمح بقبول تلك الجرائم حتى نفهم الأسباب التي جعلتْ بلدا يدّعي الإنسانيّة والقيم الكونية، يمكن أن يحدث فيه مثل تلك الأشياء وعدم الاكتفاء بالقول: نعم كان هناك أشخاص سيّئون، لكن المنظومة ذاتها بريئة منهم. ثمّ هناك أشكال تعويض مالي، وأشكال تعويض غير ماديّة يجب استنباطها. وأقصد هنا أشكال تعويض من قبيل إنهاء الاستغلال الاستخراجي للجنوب العالمي من طرف الشمال. لذلك فان التعويض، بالنسبة لي، هو التعويض العميق حقيقة أي ذاك الذي يضع حدّا لهذا النّظام. أعني أنّه لا يمكن أن يكون هناك نظرية تعويض قادمة من الشّمال.
المتحف الذي ازدهر مع الاستعمار هو آخر معابد أوروبا
المفكرة القانونية: في كتابك الأخير برنامج الفوضى العارم . نزع الاستعمار عن المتحف، تعتبرين ان المتحف في أوروبا كمؤسسة كونية هي في جوهرها إمبريالية واستعمارية. هل لك ان تشرحي لنا ذلك؟
فيرجيس: كما تعلمين، يكفي زيارة كبرى المتاحف في أوروبا تلاحظين ما تزخر به من معروضات من جميع مناطق العالم وجميع الحقب التاريخية. لن تجدوا أبدا مثيلا لهذا في متحف الجنوب العالمي. لن تروا أبدا لوحات من لابافيار خلال القرن السابع عشر في متحف بمدينة ليما. أو أعمال عصر النهضة الإيطالية في متحف في مكسيكو أو لاغوس. إذاً، نرى أنّ الغرب قد جمع العالم في متحفه الكوني. وهذه الكونية تعني الهيمنة في كتابة تاريخ الفنّ، وتحويل قطع كانت تنتمي إلى عالم عاطفي ثقافي واجتماعي إلى تحف فنية أي، في النهاية، إلى شيء يمكن مشاهدته من دون لمسه. فالمتحف، إذًا، أُخرجت فيه الأشياء عن سياقها ومحيطها وتحوّلت إلى شيء ميّت. ثمّ إنّ المتاحف الكونيّة في أوروبا تحتوي على عدد كبير جدّا من بقايا البشر. في المقابل، لا وجود لبقايا بشرية أوروبية في أيّ من متاحف الجنوب العالمي. هناك أطنان من الشَّعر، وأطنان من الجماجم، وأجزاء عظام كلّ هذا الجشع مذهل. هناك أيضا في هذا المتحف الكوني مبدأ الاستيفاء أو النّهم المميّز للقرن التاسع عشر، أي أنّه كان يجب جمع كلّ شيء. لا فقط مائة فراشة، بل جميع فراشات العالم، وليس بضع ظباء، بل كلّ ظباء الأرض، وليس بضع أقنعة إفريقية، بل جميع الأقنعة الإفريقية التي أمكن جمعها… هناك حالة مرضيّة تتمثّل في أن نجعل من المتحف فضاء محايدا، ومعبدا للجمال الموقّر أيّما وقار. فالمتحف هو آخر معبد مقدّس في الغرب، ندخله بجلال، ونُعجَب بجماله وجماليّاته. حتّى الكنائس لم تعدْ تحظى بمثل هذا الاحترام. فالمسألة، إذًا، مسألة بناء غربي يعود إلى القرن الثامن عشر قبل أن يشهد ازدهاره الإمبريالي في القرن التاسع عشر مع حملات التوسّع الإمبريالي ليجد نفسه اليوم ممتلئا بآلاف القطع. يتحدّثون عن ملايين القطع في المتحف البريطاني، وعن مئات الآلاف في بقية المتاحف. وأدنى متحف في أوروبا يحوي قطعا من القارّة الإفريقية، والقارّة الآسيوية. إنه أمر مدهش. هناك إذاً شيء ما له ارتباط وثيق بفكرة أنّ أوروبا هي منارة العالم، ومالكة كنوز البشرية، وحارسها الوحيد وهذه المقاربة تستند إلى فكرة إمبريالية متأصّلة تقوم بالكامل على النّهب والاستخراج.
المفكرة القانونية: كلمة أخيرة
فيرجيس: إنّ الذي يحدث اليوم في غزّة وصعود الحركات المتطرّفة اليمينية والفاشية، يجب أن يجعلنا نعي أنّ ثورة مضادّة في صدد الحدوث، شاملة ومكثفة بفضل الانتصارات التي حققناها. يجب أن نفهم أنّ الخوف هو الذي يُحرّكهم وهو ما يعني أنّنا نملك قوّة. إن جميع حركات الشعوب الأصلية، وحركة “حياة السّود مهمّة”، والحركات المناهضة للإسلاموفوبيا والعنصرية السياسية، ومن أجل استرجاع القطع الأثرية المنهوبة، والحركات النسوية السوداء والإسلامية، والحركات الديكولونيالية… وجميع الانتفاضات في كلّ أنحاء العالم، تساهم اليوم في دحر الطرف الآخر.
نشرت هذه المقابلة في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد 30
لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
لقراءة المقابلة باللغة الانكليزية