حاوَرَه مهدي العش وياسين النابلي
ما زال 7 أكتوبر، وما أعقبه من حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، يُشكل زمنية تَفتح على التفكير في نواحٍ عدة من الحياة: نُظم المعرفة، القيم، السياسة، أنظمة الحكم، العلاقات الدولية، الحقوق، مصير المجتمعات، إلخ. وقد حاولت “المفكرة القانونية” من خلال هذا الحوار الذي أجرته مع ياسين الحاج صالح قراءة المآزق البنيوية التي عرّاها هذا النموذج التدميري، في منطقتنا والعالم، والتفكير في دلالاتها وآثارها المستقبليّة على المجتمعات والدول.
ياسين الحاج صالح هو كاتب سوري ومُعتقل سياسي سابق، من مؤسسي فريق aljumhuriya.net، زوج سميرة الخليل المعتقلة السياسية السابقة، المُغيّبة منذ أكثر من عشر سنوات على يد تشكيل سلفي مسلّح. يقيم حالياً في برلين.
المفكرة القانونية: ما نَشهده اليوم من إبادة جماعيّة وحصَار مُطبق مستمرّين على الشعب الفلسطيني، يَضعُنا في مواجهة مع نزعة تدميرية تسعَى إلى أن تكون نموذجا لإدارة المنطقة والعالم، يقضي على كل ممكنات سياسية وحقوقية للتغيير. برأيك كيف تقرأ اتجاهات هذا النموذج التدميري؟
ياسين الحاج صالح: برأيي إسرائيل كانت على الدوام نموذجا أو “باراديغم” للإبادة السياسية في منطقتنا. مفهوم البوليتيسايد يعني القتل الجمعي لأسباب سياسية (مثال: الحزب الشيوعي الإندونيسي عام 1966)، أو القتل السياسي لجماعة، قطع رأسها سياسياً، واحتمال إبادة الجنس إن تمرد المعنيون؛ الشعب الفلسطيني في هذه الحالة. لذلك تجد إسرائيل كينونتها كلّما تعمَّمَ هذا النموذج، وكلّما قامت نظم المنطقة على الإبادة السياسية مثلما هو جارٍ في سوريا، حيث نجد وجهين في علاقة الإبادة: فَلَسطنة السوريين وأسرَلة النظام. والأمر يتعدّى سوريا بدرجات مختلفة، إذ أن أكثر الأنظمة العربية أعادتْ إنتاج الحالة الإسرائيلية بأيدٍ محليّة.
لكن ما يَجري اليوم هو قَفزة مَهولة في الاستباحة والإبادة السياسية للشعب الفلسطيني، وتفيض عن غزّة إلى الضفة الغربية المحتلة، وإن ليس بنفس الدرجة الدرامية من التدمير والقتل والفُجور والاستهتار. لكنّه أيضاً تدمير مُثابر ومنهجي، يقضم الكيان الفلسطيني عبر الاستيطان وتدمير البيوت وتنكيد العيش والقتل المباشر. ما يبدُو لي جديداً نسبياً في هذه الأوضاع، اليوم، هو بذاءة وسوقية حلفاء إسرائيل وحماتها في دعمهم لها، شيء يُذكّرنا بأيام ذروة الاستعمار الغربي، عندما كانت النظريات العنصرية والحضارية تُعطي شرعية للتوسع، وتُصنّف الشعوب إلى بيضاء لها حقوق السيطرة على العالم وشعوب أخرى أقلّ أهمية ولا بأس في أن تُستغلَّ مواردها وأن تُستعبَد بأشكال مختلفة. يُعَاد كل هذا اليوم في فلسطين عبر انحياز -لم يكن من الممكن تخيّله في السابق- من قبل القوى الغربية، وعبر تبنٍّ كامل لإسرائيل وشعور كامل بأنها معركة مشتركة. هناك ما يشبه “الوحدة الوطنية” داخل الإطار الغربي مع العدو الإسرائيلي، حيث لا صوت يعلو فوق صوت معركة إسرائيل ضد غزة المحاصرة منذ عام 2006، و”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وأعتقد أن هذا يُعطي رسالة للفلسطينيين أولاً ولكلّ العرب في إطار أوسع، أن هذا هو المستقبل الذي يُرَاد تصميمه لسكان هذه المنطقة. معركة فلسطين لذلك هي أوسع من فلسطين، إذ أنها تُشكل النموذج الذي يَصنَع ممكنات لمن ينضبطون لباراديغم الإبادة السياسية، وهذا مثلمَا صنع النظام الأسدي بسوريا إمكانيات إبادية للأنظمة العربية، ولإسرائيل بالذات. إذ أن أحد مسؤولا إسرائيليا تساءل: لماذا لا يُرحل الفلسطينيون إلى مصر مثلمَا جرى تهجير ملايين السوريون سابقاً إلى تركيا؟
لقد صُنِعَت ممكنات من أجل تحويل البشر إلى قابلين للاستباحة، أي النموذج الذي يتحدّث عنه جيورجيو أغامبين Giorgio Agamben تحت اسم “الهومو ساكر” homo sacer، حياة خارج النظام الحقوقي، مردودة لبعدها البيولوجي، قتل الهوموساكر لا يُشكّل جريمة، وليس لحياته قيمة معنوية أو تضحوية، فهو ليس شهيداً أو صاحب قضية. وهذا اليوم ممارس على نطاق جمعي في فلسطين، وقد مُورس على نطاق واسع في سوريا، وهو بصورة ما النموذج المعتمد في مصر. لدينا مزيج وحشيّ من النموذج الفاشي والاستعماري التقليدي. ونجد أن هذا النموذج يُعَاد إنتاجه في منطقتنا ككل، وهو وَاعد بالمزيد من الاستباحة والإبادة في رأيي.
المفكرة: برغم إعادة إنتاج النموذج الإسرائيلي في أكثر من نظام حكم عربي، ما زلنا نشاهد حتى اليوم أنظمة عربية تتبنى خطابا يدافع عن القضية الفلسطينية وتَعتبر نفسها جزءا من محور المقاومة أو “الممانعة”، كيف نقرأ هذه الحالة؟
الحاج صالح: علينا أن نُميّز بين الوقائع البنيوية والوقائع المُتصلة بالخطاب. على المستوى البُنيوي هناك تعميم لنموذج الإبادة السياسية، من خلال التعامل مع السكان كفائضين عن الحاجة، وهذا ظاهر جدّا في سوريا، وبدرجة ما في مصر. إلا أن مستوى الفظاعة تَحقّقَ أساساً في سوريا وفلسطين. من خلال هذا النموذج البنيوي، ثمة فلسطنة للمحكومين وأسرَلة للحاكمين على نطاق واسع، فكلّنا فلسطينيون بدرجات مختلفة. انظر كيف أن 7 ملايين سوري، نحو 30% من السكان مشردون ولاجئون في بلدان قريبة وبعيدة، في مشهد فلسطينيّ مُستمرّ. أليست هذه نكبة أخرى؟ هذه الوقائع البنيويّة أهم من الوقائع الخِطَابية التي قد تكون أدوات للتعبئة وبناء الشرعية. فعندما يتكلم النظام الأسدي في سوريا -أو ما يسمى بنظم الممانعة- عن فلسطين، فهذا من وقائع الخطاب أو وَقائع الإيديولوجيا، بينما وَاقع الحال يُكذّب ما يقوله المقال. واقع الحال أنك تتعامل مع محكومِيك (شعبك) كفائضٍ بشريّ؛ فتعتقل وتُعذّب وتغتصب وتقتل وتقصف وتُبيد وتُهجّر. ولكن أدوات إضفاء الشرعية أو بناء قضية مَا هي أقل وزناً في هذا الباب، وهي استعمال أدَاتي لقضية لها رصيد وشعبية، ولكن هذا الاستعمال يَدخل في تناقض مستمر مع الوضع البنيويّ. ومثلما نرى، تُركَت غزة وحيدة خلال أزيد من خمسة أشهر إلى اليوم. ومثلما نرى كذلك، أبطال التطبيع مع إسرائيل، الإمارات والسعودية، هم أنفسهم أبطال التطبيع مع حكم العائلة الأسدية.
المفكرة: إلى جانب الأنظمة العربية، القوى الغربية المهيمنة تعيش تناقضاً كبيراً بين الممارسة والقول، وهو ما جعل الصورة التي تصف الغرب بالمتغطرس والمنافق تحظى بالمقبولية أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يَحمل في طيّاته أيضا شعورا متناميا بنهاية قيم كبرى، أبرزها الديمقراطية. هل أن هذا الاتجاه يَرسم صورة حقيقية حولَ ما يجري؟
الحاج صالح: أعتقد هنا، وفي نفس سياق التمييز بين وقائع البِنية ووقائع الخطاب، أن الدول الغربية لم تكن أبداً قُوى دمَقرَطة في منطقتنا. هناك استخدَام أدَاتي من قبل الغرب للخطاب المقبول عالمياً والذي يُنظر له إيجابياً، الديمقراطية وحقوق الإنسان، تماما مثلما تستخدم قضية فلسطين من قبل محور الممانعة. لكن لأن فكرة الديمقراطية مهمة وهي مكسب للشعوب في الحقيقة، فإنه يستحسن ألا يحصل عليها الأعداء من أمثالنا. البِنية الفعلية مثلما تبدو في غزة هي بنية كولونيالية شديدة الفظاظة، وهي حتى على مستوى الخطاب كانت هذه المرة وقحة وقليلة الدبلوماسية. يصعب على ذاكرتنا أن تنسى تصويت برلمانات غربية ضدّ وقف إطلاق النار في غزة، واستعمال الأميركيين حقّ النقض (الفيتو) ضد وقف النار.
وهذا ربّما مهمّ في نضالنا من أجل الديمقراطيّة وضدّ أشكال متجدّدة للسيطرة الدولية. النضال من أجل الديمقراطية لا يَضعنا في خندق واحد مع الأمريكيين أو الأوروبيين، بل بالضبط عكس ذلك. الديمقراطية إن استطعنا كسبها هي بمثابة “غنيمة حرب”، مثلما قال كاتب ياسين يوماً عن اللغة الفرنسية. ويبدو الجماعة واعين لذلك ويفضّلون لنا نظماً تسلطيّة أو حتى إباديّة.
لكن في الوقت نفسه، يجب أن نكون ضدّ الأشكال العدميّة من العداء للغرب على ما يفضّل إسلاميون وقوميون عرب. ومن الأفخاخ المهمّة التي يجب أن نتجنبها اليوم -ونحن منفعلون وغاضبون- التفكير بطريقة “نحن” و”هم”، أو التفكير برؤية قَبَليّة tribalisation للصراع. أسوأ أعدائنا موجودون في الغرب، صحيح، ولكن أحسن أصدقائنا موجودون هناك أيضاً من مواطنين وناشطين ومثقفين غربيين في بلدان متنوعة. لذلك من المهمّ أن نتجنب الفخّ المَاهَوِي أو الفخ الجوهراني، أي أن نَعتبر الأمريكيين والأوروبيين أشرارا فقط لأنهم أمريكيون أو أوروبيين، وهو عداء له نفس بِنية الإسلاموفوبيا أو العربوفوبيا الذي يتعامل معنا ككتل بشرية متجانسة، كشخص جمعي يُكره ويميز ضده. من المهم أن نبحث عن شركاء نعمل معهم، وهم موجودون وكثر. الأوضاع العالمية أشد تشابكاً من أي وقت سبق، لدرجة أنه قبل أسابيع تمت الدعوة في أكثر من منطقة في العالم إلى إضراب عالمي من أجل غزة، وهذه الفكرة كانت ممتنعة التصور حتى وقت قريب. أما اليوم عبر تداول معلومات عالمي كان بالإمكان الدعوة إلى إضراب عالمي. وبغض النظر عن مسألة النجاح، فإن الدعوة وصلت لمليارات البشر بأشكال مختلفة. ففي هذا العالم لا نستطيع أن نُفكّر بمنطق القبيلة، ولا بد من شراكات نعمل ضمنها من أجل عالم مختلف، يقوم على الأخوة والمساواة والشراكة والاحترام .
أما بخصوص الديمقراطية، فهي تمرّ بأزمة في كل مكان بالعالم. وأخشى بالفعل أن الديمقراطية قد تنهار في الغرب نفسه كأحد الاحتمالات، مثلما انهارت الاشتراكية السوفياتية قبل عقود من داخلها. عدوّ الديمقراطية هو التيارات اليمينية الشعبوية الصاعدة في الغرب، وقد صارت في السنوات الأخيرة أقرب إلى قلب المشهد السياسي بعد أن كانت على هوامشه البعيدة. والنخب السياسية الغربية اليوم تتصرف من دون حسّ بالمسؤولية الاجتماعية التي كانت موجودة أيام الاشتراكية السوفييتية وتناسخاتها. بالعكس، تتبنى عناصر من برامج اليمين المضادة للاجئين والمهاجرين للفوز بالانتخابات، فتصير السياسة كلها انتخابات، ويجنح المشهد السياسي بمجمله يميناً. ودون أن أقوم بتنبّؤ مُضلّل، يتراءى لي أن الديناميات الشغّالة اليوم قد تؤدي إلى انهيار الديمقراطية، أو فشلها في الدفاع عن نفسها ضد عملية التآكل المستمرة التي تتعرض لها. من أجل ذلك أيضاً، نحن محتاجون للعمل مع شركاء من أجل دمقرطَة أوسع في بلداننا وفي العالم، والوقوف في وجه التيارات الأنتي-ديمقراطية.
المفكرة: في ظل هذه الأزمة العالمية التي تمر بها الديمقراطية، ما هي الملامح التي تلوح أمامنا إذا حاولنا تخيل مصير العالم في المستقبل القريب؟
الحاج صالح: يبدو لي أن وضع العالم اليوم هو وضع اللاّبديل، ليس هناك بديل أو TINA، مثلما قالت مارغريت تاتشر قبل أربعين عاماً. وهو ما يعني أن البديل الوحيد عن الشكل الديمقراطي الليبرالي السائد في بلدان الغرب، لكن المتآكل اليوم، هو هذا الشكل نفسه، وهو شكل يتعاقب عليه أمثال بايدن وترامب في أمريكا. واليمين المتطرف أو ما كان يُعتبر يمينا متطرفاً، قبل عشر سنوات، يَصير اليوم مقبولا أكثر فأكثر؛ لدينا مارين لوبان في فرنسا وربما غدًا حزب البديل من أجل ألمانيا، وقبلها صعود اليمين المتطرف في هنغاريا، ومؤخراً انتُخبَ في الأرجنتين رئيس سُوبَر-يميني، وربما ترامب عائد في أمريكا. هذا ما تَعد به الآليات الحالية للديمقراطية الليبرالية في ظل ضعف البدائل اليسارية. وفي بلداننا يُقال لنا صراحة أنه ليس هناك بديل، والبديل الوحيد عن الحكم الأسدي هو هذا الحكم الوراثي النيوسلطاني، الذي يصرح علانية بأنه باق إلى الأبد، ويرفع شعرات عدمية من نوع الأسد أو لا أحد، أو الأسد أو نحرق البلد. الأبد ليس استمرارية هانئة، ليس استقراراً مريحاً، بل هو حرب مستمرة ضد المستقبل بغرض إعدام أي بدائل محتملة أو وأدها في مهدها. لهذا السبب، أعتقد أن شرط اللابديل العالمي هو “سوريالي”، تعميم عالمي للأبد السوري الذي هو أكبر نكوص اجتماعي ثقافي سياسي في تاريخ سوريا منذ عصر التنظيمات العثماني، عودة إلى سلطانية محدثة بالغة الضراوة.
عوض أن تذهب سوريا باتجاه عالم ينفتح قليلاً، صار العالم أشبه بسورية في العشر سنوات أو أكثر الأخيرة. هذا يضعنا أمام تحدّ كبير، تحدّي خلق بدائل، خلق لغة جديدة، خلق شبكة تفاعلات جديدة، تضَامنات جديدة. نحن في أزمة لهذا السبب، وهي أزمة عالمية، وأزمة اليسار والديمقراطيين جزء منها.
المفكرة: في ظل هذا الاختناق البدائِلي، الذي يُهدّد أفكارا كبرى مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما هو الأفق التجاوزي الذي بالإمكان التفكير فيه؟
الحاج صالح: فكرة حقوق الإنسان لا تَعوم خارج الأطر السياسية للمجتمعات الحديثة، والإطار الأساسي المهيمن هنا هو الدولة- الأمة. أوافق على نقد حنة آرنت لفكرة حقوق الإنسان بأن الأمر يتعلق بالأحرى بحق في الحقوق مرهون بوجود جماعة سياسية، وليس بالفرد المجرد. لكن حتى وجود جماعة سياسية مثل الدولة الأمة لا يضمن أنها إطار للحق في الحقوق إلا في بعض البلدان، مثلما نعرف جيداً في بلداننا. وحتى في بلدان الديمقراطية الليبرالية، فإن الحقوق تشهد تراجعاً يطال المهاجرين والملوّنين واللاجئين. ولكن دينامية التراجع قد تشمل بعد قليل فئات أوسع، بما فيها الإثنية السائدة. وهذا جزء من أجندة النضال في الفترة المقبلة، فنحن نواكب أزمنة مفصلية على المستوى العالمي، تجعلني أكاد أقول أنّنا في حاجة إلى أفق اشتراكي جديد، وإن بدلالة مختلفة لفكرة الاشتراكية. والدلالة التي أفضّل أن تُعطَى للاشتراكية اليوم هي الانفتاح على الغائب: المهاجر، اللاّجئ، النساء، المقهورين، المهمّشين، وعلى البيئة لأن لدينا مشكلة عالمية تتمثل في مشكلة البيئة الحية. هذا كله مُغيّب. الديمقراطية اليوم تَقوم على حوار ثنائي بين “أنا” و”أنت”؛ أما الثالث، “هو” و”هي” و”هم” و”هن”، للعاقل وغير العاقل، ليسوا موجودين، غائبين. الاشتراكية هي حضور الغائبين. واليوم نشاهد تراجعاً حتى عن الحوار بين أنا وأنت، وفي ألمانيا حيث أقيم حالياً، عوضا عن الحوار (Dialogue) يسود المونولوغ (Monologue) بخصوص غزة، وهو نوع من العقيدة الرسمية وفرض الرقابة التي تقارب محاكم التفتيش، حيث يُمكن أن يُسأَل كل فرد؛ هل تدعم إسرائيل؟ وهذا إن حصل فهو سيضع ألمانيا بأقرب موقع إلى التوتاليتارية منذ سقوط النازية. فعوض أن تُحلّ أزمة الحوار باتجاه تعددي يستوعب الغائب، نرى أنها تحل في اتّجاه العودة للعقيدة الرسمية، أي في اتّجاه “المونولوغ” والصوت الواحد. قبل ستين عاماً، وُجدَت في فرنسا حركة يسارية بقيادة كورنيليوس كاستوريادس، باسم الاشتراكية أو البربرية، وهو اسم مجلة الحركة كذلك، تيمّنا بشعار كانت طرحته روزا لوكمسبورغ قبل اغتيالها عام 1919. اليوم يبدو لي وجيهاً طرح شعار يقول الاشتراكية أو التوتاليتارية. تعدّد الأصوات وإلا فالصوت الواحد والعقيدة الرسمية.
الديمقراطية هي المسرح الذي يَحضر فيه الغائبون. لكن من أيام أثينا في الزمن الكلاسيكي استَبعدَت الديمقراطية الأثينية النساء والأجانب والعبيد. الفئات الأشد فقراً وتهميشًا هم في حكم عبيد الأمس، وليس الطبقة العالمة بالمعنى الكلاسيكي الواسع. والنساء لا يزلنَ بوضع المُغيّبات بدرجات متفاوتة، في مجتمعاتنا أكثر من مجتمعات الغرب. والأجانب اليوم هم المهاجرون واللاجئون. يُضاف إليهم غائب رابع هو البيئة التي تُشكّل الإطار الحي للحياة. لذلك أريد أن أفكّر في الاشتراكية من خلال هذا الاتجاه، الذي بإمكانه أن يكون منشّطاً للخيال السياسي، لأننا نفتقد إلى نوع من الطّوبَى والصور المُحفّزة للتفكير السياسي الجديد. والديمقراطية لا تحمي الحقوق إلا بقدر ما توجد دينامية لتجاوز الديمقراطية ذاتها، وإذا لم توجد هذه الدينامية تجنح الديمقراطية لأن تصير شكلية ومُفرغة كحالها اليوم. ما يُنقذ الديمقراطية هو شيء يتجاوزها. لذلك من المهمّ بناء تقاليد نضالية جديدة، لأن هناك أزمة خيال مثلما قال كثيرون، بينهم علاء عبد الفتاح، سجين نظام السيسي طوال معظم السنوات العشرة الماضية. لقد افتقرنا بالفعل إلى الإبداعية الفكرية والتنظيمية في العقود الأخيرة. وفي أوساط اليسار وغيره سيطرت الحساسية الليبرالية، والفردانية جداً، والمشتتة والمنفصلة عن قوى اجتماعية حية، والتي تنزع لأن تعرف نفسها بالضدّ لأنها لا تملك شيئاً إيجابياً تعرف نفسها به.
أعتقد أنه بهذا الاتجاه يُمكن أن تُحمَى فكرة حقوق الإنسان عبر تجاوزها نحو الحق في الحقوق، كشيء غير مرتبط بالدولة الأمة، وإنما كشيء مرتبط بفكرة النضال لتجاوز الأوضاع الحالية في العالم.
المفكرة: على الصعيد العربي، لطالما تم تأجيل المطلب الديمقراطي باسم أولوية الاشتراكية أحياناً أو توفير الخبز قبل الحرية، برأيك كيف نقرأ هذا الجدل بخاصة في ظل حالة التراجع الديمقراطي والاجتماعي في أكثر من بلد عربي؟
الحاج صالح: اسمَح لي بالعودة قليلا إلى مساري الشخصي. أنا كُنت شيوعياً معارضاً للنظام السوري على أرضيّة ديمقراطية، في واحد من أوّل الأحزاب الشيوعيّة العربية التي أعادت الاعتبار لقضيّة الديمقراطيّة، بالاستفادة من كتابات ياسين الحافظ (1930-1978)، المفكر السوري الذي تُوفي شابّاً قبل نهاية السبعينات. في ذلك الوقت، كانت الفكرة الديمقراطية ذات بُعد مناقض لاتجاه “اشتراكيّة الأمر الواقع” القائمة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقيّة، والتي بدأت في التخثّر على الأقلّ منذ ستينات القرن العشرين. هذه الاشتراكية كانت أحادية الصوت، ليس فيها ثنائية مثل الديمقرطية، ولا تعدّدية بطبيعة الحال. ولكن ما أُهدر في تجربة الحركات الديمقراطية ذات الأصول اليسارية في المجال العربي هي الفكرة التي تحدثت عنها سابقاً، ومفادها أنّ الديمقراطية تكون بخير كلّما كانت هناك دينامية لتجاوزها. في المجال العربي، أعتقد أنّه من المهمّ أن ينفتح تفكير الديمقراطيّين، وأتحدث أيضاً عن نفسي بقدر من النقد الذاتي، على ما يتّصل أكثر بمطالب الشعب الحياتية، بامتلاك الناس لحياتهم، وعلى أفق نسوي يخترق الأسرة والمجتمع، وأفق ثالث بيئي. نحتاج ذلك من دون شكّ إلى المزيد من التفاصيل والإكساء، ولكن هذا هو الأفق الاشتراكي الذي أتحدّث عنه. أظنّ أنّ تناولنا لفكرة الديمقراطية في الفترة الأخيرة استنفد طاقته كي يأتي بجديد. ربما لسنا نحن، الذين كنا شيوعيّين وأصبحنا ديمقراطيّين بعد ذلك، وأسمي جيلي “جيل الاستدراك”، مؤهّلين لذلك. أعتقد أننا فعلنا الشيء الصحيح في سنوات شبابنا، لكن هل لا يزال ذلك هو الشيء الصحيح اليوم؟
لا أعتقد أنّ الديمقراطيّة كما تُطرح حاليا تُخاطب شرائح واسعة، إذا لم تُفتح على شيء يتجاوز باتجاه امتلاك الحياة، أو إن شئنا بلغة ماركسية تقليديّة، ما يتصل بعلاقات الإنتاج وتوزيع الثروة. إذا استمرّينا في الحديث عن الديمقراطية بالمعنى الليبرالي، وهو حديث مثقفين من الطبقة الوسطى، فلن ننجح في إرسائها، خصوصا وأنّ الديمقراطية الليبرالية في أزمة. حان الوقت لتجاوز السؤال حول توطين الديمقراطية، وما إذا كانت لدينا تقاليد ديمقراطية. على العكس من ذلك، ما دَامت الديمقراطيّة في أزمة، فنحن نظرياً في موقع يؤهّلنا للمساهمة في الخروج من هذه الأزمة باتجاه أفق اشتراكي. ولا أقصد بذلك التجربة التاريخية الاشتراكيّة. فما حصل في هذه التجربة كان التضحية بالديمقراطيّة، أو النكوص إلى الصوت الواحد بدل السير قدماً نحو تعدد الأصوات. إذ لم تَعد الاشتراكيّة تجاوزاً ثلاثي الأبعاد للديمقراطيّة ثنائيّة الأبعاد التي تجاوزت بدورها الليبراليّة أحاديّة البعد، وإنما على العكس، تحوّلت الاشتراكيّة إلى البعد الواحد والصوت الواحد، حيث فُرضَت كعقيدة رسميّة. ما أحاول قوله، هو أنّ ما يحمي الديمقراطيّة هو شيء يَتجاوزها، ينفتح على الغائب أو المغيّب. والغياب مصنوع سياسياً بعلاقات السلطة والثروة والمعرفة.
يجب أيضا أن نقطَع مع هذا الابتزاز المُخادع بين الخبز والحرية. فالانشغال الحصري بالخبز لا يضحّي فقط بالحرية سلفاً، وإنما بالخبز أيضاً. هناك نظريات مهمّة، مثل أعمال أمارتيا سين، حول أنّ التنمية حريّة. وهذا ما أقصده بتملّك الناس لحياتهم؛ من الحياة المادّية إلى الحياة السياسيّة العامّة. وواضح جداً أن مجاعة الغزيين اليوم، ووقوع ما يفوق 90% من السوريين تحت خط الفقر بحسب أرقام الأمم المتحدة، أن الجوع مصنوع سياسياً، في صلة وثيقة تنظم الإبادة السياسية (بوليتيسايد) والقتل الجماعي على الهوية (جينوسايد) في البلدين المنكوبين. لا ننسى أنّ الحكم الأسدي رفع شعار الجوع أو الركوع أثناء حصاره لمناطق متعددة في البلد بين 2013 و2018. ما يضمن الخبز هو حصراً ما يتجاوزه إلى الحرية، وهو ألاّ يعامل المواطنون كأدوات. من يُضحّي بالحرية من أجل الخبز سيَخسرهما معًا. وما يحمِيهما معًا هو أفق لتجاوزهما، بشرط أن يكون أفقًا ديناميّا وغير مفروض من فوق.
المفكرة: أنت حاليا مُقيم بألمانيا. كيف واكبتَ ردود فعل السلطات الألمانية وجزء من النخب إزاء ما حصل من عدوان على غزة؟
الحاج صالح: بعد أسبوع فقط من بداية الحرب على غزّة، سافرت وقضيّت شهرًا خارج ألمانيا. لذلك لم أعشْ مباشرة أسوَأ فترات الاعتداء على المظاهرات المناصرة لفلسطين واستهداف الكوفيّة والعلم الفلسطيني. يبدو لي أنّ ألمانيا اليوم أقرب إلى التوتاليتاريّة من أيّ وقت مضى منذ التجربة النازية. مع احترامي للبلد والثقافة والمجتمع وثرائه التاريخي، لا يمكن أن نُنكر أنّ بعض أوجه هذا التاريخ كانت شديدة الإجراميّة، وأهمّها النازية والحرب العالميّة الثانية. وفي الحقيقة قبل ذلك أيضا في ناميبيا، حيث حصلت أوّل إبادة في القرن العشرين. بعد الحرب العالميّة الثانية والهولوكوست، تَمركَز الوعي الذاتي الألماني حول التكفير عن هذه الجريمة، مع شعور بمسؤوليّة خاصّة تجاه اليهود. في حدّ ذاته هذا شيء إيجابي ومفهوم. ولكن الإشكال هو أنّ فكرة “never again” أو “لن يحصل مثل ذلك مجدداً”، يحمل تأويلا ضيّقا يقول بأنه “لن يحصل ذلك مجدداً فقط تجاه اليهود”، فكأنما لا بأس أن يحدث ما يقاربه لغيرهم. لكن صار يصر بعنف على أنه لا يمكن حدوث ما يقارب الهولوكوست. أصبحت كلّ مقارنة للهولوكوست مع إبادات أخرى تُعتبر تنسيباً لإبادة اليهود أو حتى تتفيهًا لها. يمكن فهم ذلك بالعُقدة المرضيّة التي سبّبتها جريمة الإبادة الرهيبة التي ارتكبها النازيون، والتي شملت، إلى جانب اليهود، الغجر والمعوّقين والمثليين جنسيا. ما لا يُفهم، هو تحويل هذه العقدة المرضيّة إلى معيار عالمي للسّواء. ما يتّصل بعقدة جَمْعية لشعب في علاقة بجانب شديد السوء في تاريخه لا يُمكن أن يُعمّم على الآخرين. فقط الشمولية يمكن أن تطلب من فلسطيني أو سوري أو عربي أن يعترف بحقّ إسرائيل في الوجود ودعمِها. نحن ليس لدينا هذه الذاكرة ولم نشارك في هذه الجريمة، ومعنى إسرائيل فيما يخصنا هو الاستعمار والعنصرية والتطهير العرقي، وليس النجاة الأمان “وقلعة الغرب”، مثلما قد يكون في نظر الألمان. نحن ضحايا إسرائيل. ليس فقط الفلسطينيّين بل السوريّون تأثروا أيضاً. وحتى إذا سلّمنا بالمنطق الوطني الغبيّ الذي يقول أنّ فلسطين لا تعنينا كسوريّين، فإن إسرائيل تحتلّ أيضا أرضًا سوريّة. فكيف تريدونني أن أعترف بإسرائيل؟ هذا حتى لو وضعنا بين قوسين الانحيازات القيمية والأخلاقية وما يتصل باعتبارات العدالة، وكلها تضع المرء في صفّ فلسطين وضد إسرائيل.
وأتصور أن مركزة الوعي الألماني حول الهولوكوست ليس تعبيرا عن غيريّة بقدر ما يعبّر عن نرجسيّة. أكاد أقول أنّ المسألة ليست حتى حول اليهود، بقدر ما تتعلّق بأن يُعطي الألمان أنفسهم شعورا طيّباً، بحثاً عن اكتفاء ذاتي نرجسي. شعار “ألمانيا فوق الجميع” يعود، لكن بطريقة أخرى. تفكير الألمان يبقى حول أنفسهم، الفرق هو أنّه موجّه إلى آثام وذنوب الماضي. ألمانيا لم تخرج بعد من نرجسيّتها نحو غيريّة مُعَافاة وحقيقيّة فيما أرى.