حوار مع الحقوقي المصري حسام بهجت: من أجل مقاربة ديكولونياليّة لحقوق الإنسان


2025-02-14    |   

حوار مع الحقوقي المصري حسام بهجت: من أجل مقاربة ديكولونياليّة لحقوق الإنسان

التقت المفكرة القانونية مع حسام بهجت رئيس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إحدى المنظمات الرائدة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في مصر التي تعرضت خلال السنوات الأخيرة الى شتى أنواع الملاحقات الأمنية. في هذا الحوار المطول سألنا بهجت عن ملامح ودوافع الانحدار الكارثي لحقوق الإنسان في مصر، وعن المضايقات التي تستهدف المبادرة المصرية، كما سألناه عن حرب الإبادة على غزة وما تمليه اليوم من ضرورة التأسيس لمقاربة ديكولونيالية لحقوق الإنسان في منطقتنا، وعن تحدّيات نظام السيسي في وجه خطة ترامب لتهجير فلسطينيّي غزة ووأد القضية الفلسطينية واستحقاق مقاومتها.

المفكرة القانونية: عرفت مصر على مدار الثلاث عشرة سنة الأخيرة تدهورا كارثيّا وغير مسبوق في وضع الحريات الفردية والجماعية وبالمقابل تزايدا في الدعم الخارجي الأوروبي والأمريكي للنظام. هل لك أن تعرض لنا أهمّ مظاهر هذا الوضع الكارثيّ ودوافعه؟ وما هي برأيك أسباب الإسناد الغربي الرسمي واللا مشروط للسيسي؟

حسام بهجت: تمرّ مصر عبر العشر سنوات الأخيرة بكارثةٍ غير مسبوقة في السجلّ الحقوقيّ. بالطبع، مصر لم تكن يوما بلدا ديموقراطيا يحترم حريّات مواطنيه، لكنها كانت في السابق قبل وصول السيسي إلى الحكم ديمقراطية مقيدة وسجلّ حقوقي إشكالي جدّ مقلق تعتمره انتهاكات جزء كبير منها بنيوي. ورغم كل هذه القيود، كان هناك مجال سياسي وفضاء مدني يتسم بالحيوية وفيه صور عديدة من المقاومة المجتمعية لهذه القيود والانتهاكات، كان هناك أحزاب معارضة لها ممثلون في البرلمان ينجحون في التسلل خلال الانتخابات المزورة أو المقيدة، حركات اجتماعية، مظاهرات في الشارع، حراك طلابي وعمالي ونسوي وشبابي. في عصر السيسي، يمكننا الوقوف على ثلاثة أوجه أساسية للتغيير الكارثي الذي حدث بشكل عمدي من قبل نظامه.

الأول هو انتقال مصر من وضعيّة الدولة السّلطوية إلى كونها تمثّل اليوم أحد أسوأ البلدان المنتهكة للحقوق في العالم، أي واحدة من الدّول صاحبة أسوأ سجلات حقوق الإنسان. وهذا ليس من باب التقييم العاطفي أو المبالغة، وإنما بالرجوع إلى أيّ من المقياس العالمية لأيّ من وجوه حقوق الإنسان. إذ أصبحت مصر للمرة الأولى في الترتيب الأدنى على جميع المقاييس، أحيانا من بين الدول العشر الأدنى، وأحيانا أخرى الخمس، أو حتى الأكثر سوءا. فمثلا فيما يخص عدد أحكام الإعدام الصادرة سنة 2022، احتلّت مصر المرتبة الأولى في عدد إصدار الأحكام والثانية في تنفيذها بعد الصين، وفق منظّمة العفو الدولية.  

وإذا نظرنا الى عدد المعتقلين السياسيين أو عدد المواقع المحجوبة أو إلى مؤشر سيادة القانون أو مؤشّر حرية الإعلام أو مؤشّر الفساد جميعها مقاييس عالمية، لا تستهدف مصر بالتحديد، لكن مصر أصبحت تحتلّ فيها للمرة الأولى أحد المراكز الأكثر تدنيّا.

الملمح الثاني هو الانتقال من تقييد الفضاء المدنيّ إلى القضاء شبه الكامل على أيّ فضاء مدني في مصر بدءا من تصفير أعداد المظاهرات الشعبيّة والاجتماعية، والقضاء على الحركة العمالية، والإلغاء الفعلي لانتخابات الاتحادات الطلابية، إلى القضاء شبه الكامل على المجتمع المدني المستقل وخصوصا الحقوقي منه. في نهاية عصر مبارك، كنّا نتحدّث عن حوالي 30 منظمة حقوقية مستقلّة تعمل في مصر. اليوم العدد أصبح أقلّ من خمس منظمات مع انتقال الغالبية منها للعمل في المنفى أمام الضغوط التي تمارس عليها لإغلاق أبوابها أو تقليص نشاطها. هناك قضاء على التنوع الإعلامي، ليس فقط عن طريق اعتقال الصحفيين، بل كذلك عبر شراء الأجهزة الأمنية حرفيا لما يتجاوز 90% من الصحف والقنوات التلفزيونية الخاصة، فضلا عن الإعلام المملوك للدولة، ثم الحجب غير القانوني للعدد القليل المتبقي من المواقع الصحفية المستقلة على الإنترنت، وتدجين كامل للسلطة القضائية والنيابة العامة، والقضاء على الحركات الاجتماعية، وحشد البرلمان بما يتجاوز 99% للنواب المختارين من قبل الأجهزة الإعلامية وتسليم البلد بالكامل ليس حتى لحزب حاكم كما كانت عليه الحال في عهد مبارك، بل إلى ائتلاف حاكم من الأجهزة الأمنية التابعة الى النظام.

الملمح الثالث والأخير والذي هو أقلّ لفتًا للانتباه ولا يحظى بالاهتمام الكافي، هو ما نسمّيه السلطوية الأخلاقية. فالنّظام الذي يدّعي أنّه أنقذ مصر من الحكم الديني، في الواقع نشهد منذ 2013 مع مجيئ هذا النظام إلى الحكم، زيادة غير مسبوقة في الملاحقات الأمنية والاعتقال لأشخاص بسبب توجّههم الجنسي أو هويتهم الجندرية، وملاحقة ومقاضاة وسجن النساء بسبب محتوى على الإنترنت بدعوى مخالفته لقيم الأسرة المصرية، اعتمادا على قانون صدر في 2018 في عهد السيسي من خلال مادة جديدة في قانون الجريمة الإلكترونية الأول في مصر، وتضاعف الملاحقات بتهم ازدراء الأديان تستهدف مواطنين بتهم الإلحاد أو تغيير الديانة، أو التعبير عن آراء في الشأن الديني مخالفة للتفسيرات السائدة للإسلام، أو فقط بسبب الانتماء الى أقليات دينية غير معترف بها مثل البهائيين أو الشيعة المصريين.

هذه هي في اعتقادي الملامح الأساسيّة للتّغيير الذي حدث في عهد السيسي والتي يمكن من خلالها تلخيص الكارثة الحقوقية التي تشهدها مصر اليوم.

بالنسبة للدافع من وراء ذلك، أعتقد أن هناك ما يشبه متلازمة كرب بعد الصدمة، الذي يحرك النظام. إذ لا يجب أن ننسى أن السيسي وقت اندلاع الثورة في 2011، كان يشغل منصب مدير المخابرات العسكرية وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلّحة الذي حكم البلاد بعد سقوط مبارك، وهو رأى الرؤوس تتدحرج. من ناحية، يخشى من تكرار ذلك في حالة إتاحة أية فرصة لممارسة الحقوق الدستوريّة في المجال السياسيّ والمدنيّ، ومن ناحية ثانية يعاقب وينتقم بشكلٍ ممنهج من جميع من يلومهم النظام على سقوط نظام مبارك أو على التحريض على الثورة. فضلا بالطبع عن كونه نظامًا عسكريّا بالكامل. كان مبارك ومن سبقوه أيضا من المؤسسة العسكرية لكنهم كانوا مدعومين من القوّات المسلحة. بخلاف النظام الحالي الذي يمثل القوات المسلحة في الحكم وبالتالي يحتقر المدنيين ويزدري الديموقراطية ويتعامل مع أي انتقاد بوصفه سوء خلق وقلة أدب في حق رأس الدولة. يضاف إلى ذلك في الفترة الأخيرة الإدراك المتزايد للأزمة الشعبية غير المسبوقة للرئيس الحالي والتي تكاد تتحول إلى ازمة شرعية للنظام بسبب الأزمة الاقتصادية والناتجة عن السياسات الاقتصادية لهذا النظام وبسبب الفشل الدبلوماسي في إدارة أهمّ الملفات الخارجية سواء فيما يخص ملف مياه النيل في المفاوضات مع أثيوبيا، أو ملفات تمس مصر مباشرة في ليبيا وفلسطين والسودان.

أما فيما يخص الدعم المباشر للغرب، فهو تكرار لنفس الخطايا التي ارتكبها الحلفاء الخارجيّون في عهد مبارك بدعوى الحفاظ على الاستقرار ومقاومة الإرهاب. وزاد عليها الآن في المركز الأول تقريبا مكافحة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا في حالة الاتحاد الأوروبي وضمان أمن إسرائيل في حالة الولايات المتحدة وحرية الملاحة في قناة السويس. كل هذه الأسباب التي نلخّصها عادة في مصر ب “اللعنة الجيوسياسية” بسبب موقع مصر ودول جوارها، تسود القناعة الخاطئة بأن مصر “أكبر من أن تفشل” وأن على الحلفاء الخارجيين في الغرب أو الخليج أن يستثمروا في النظام الحالي تجنّبا للمجهول خاصة بعد تجربة 2011. 

المفكرة القانونية: انتهت التحقيقات ضدّ المبادرة المصرية لعدم كفاية الأدلة وحفظت القضية كما صرحت بذلك مؤخرا. هل لك أن تعود على المضايقات التي عانت منها منظمتكم في العقد الأخير؟

بهجت: تمّ فتح قضية جديدة بحقي منذ أقل من شهر لعلها هي الأخطر حتى الآن ضمن سلسلة هجمات أمنية وقضائية على المبادرة المصرية لم تنقطع على مدى ثلاثة أشهر. فالقضية الجديدة هي الرابعة على مدى السنوات الأربعة الماضية، والخامسة بحق المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بسبب نشاطها الحقوقي. في ديسمبر 2020، تعرض ثلاثة من مديري المبادرة المصرية، محمد بشير، وكريم عنارة، وجاسر عبد الرازق، للاعتقال بسبب نشاطهم الحقوقي في المبادرة المصرية، ولا يزالون رغم الإفراج عنهم ممنوعين من السفر، فضلًا عن التحفّظ على أموالهم وممتلكاتهم وحساباتهم البنكية الخاصة. وفي 2021، قرّرت السلطات إحالتي للمحاكمة، ليصدر حكم بإدانتي للمرة الأولى  بتهمة “إهانة الهيئة العليا للانتخابات”. وحكمت محكمة طوارئ في 2023 على باتريك زكي الباحث بالمبادرة المصرية بالسجن ثلاث سنوات بسبب مقال نشره حول أوضاع المسيحيين في مصر، بعد قضائه قرابة عامين في السجن، قبل أن يحصل على عفو رئاسي. كما خضعت المبادرة المصرية للتحقيق على مدى 13 عامًا في القضية 173 سيئة السمعة، تضمّنت منعي بوصفي مدير المبادرة من السفر والتحفظ على أموالي وممتلكاتي لمدة ثمانية أعوام حتى إغلاقها لعدم كفاية الأدلة قبل أقلّ من عام.

في القضية الجديدة، نيابة أمن الدولة العليا استدعتني ثم أمرت بالقبض عليّ، وبإخلاء سبيلي بكفالة على ذمّة التحقيقات بعد أن واجهتني بثلاث تهم هي استخدام النشاط الحقوقي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية في مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أغراضها، وتمويل جماعة إرهابية عبر إصدارات وأنشطة المبادرة المصرية، والإذاعة العمدية في الخارج لأخبار وبيانات وإشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد “وكان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بالدولة أو هيبتها واعتبارها، أو باشر بأية طريقة كانت نشاطاً من شأنه الإضرار بالمصالح القومية للبلاد.” ويعاقب قانون الإرهاب الصادر في عهد الرئيس الحالي  عام 2015 على التهمة الثانية بالإعدام.

المفكرة القانونية: شكلت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة برعاية أمريكية غير مسبوقة وتواطؤ أوروبي مفضوح لحظة فارقة في المنطقة، طارحة تحدّيات كبيرة على المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان إن من حيث التحالفات والشراكات، ومسألة التمويل، أو حتى فيما يسمّى “بالمرجعية الكونية”. كيف ترى ذلك، وكيف نؤسس في تقديرك لمقاربة ديكولونيالية لحقوق الإنسان اليوم في منطقتنا؟

بهجت: نعم حرب الإبادة على غزة هي لحظة فارقة، وهي يست فقط أهم حدث عاشه ويعيشه جيلنا، بل هي كذلك بالنسبة لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

هي اللحظة التي نتعامل معها على أن ما بعدها ليس كما قبلها، بل تكاد تكون لحظة انقطاع عما قبلها. وهو ليس بالتقييم العاطفي، بل هو تقييم سياسي وعملي وبرنامجي. فنحن في مواجهة أسئلة ليست من منظور كيف نحسّن ما لدينا، أو كيف نغير من بعض أدواتنا وتوجهاتنا، بل بالأحرى كيف نعيد تخيّل كل شيء لأن جريمة الإبادة الجماعية أظهرت أنّ المطلوب ليس تعديلات على ما هو قائم، بل ربما الهدم وإعادة البناء من جديد وذلك في تقديري على أربعة مستويات.

أولها: كيف نعمل؟ من حيث نظريتنا للتغيير ومن حيث منهجية عملنا ومن حيث تحالفاتنا وشركائنا. المستوى الثاني هو كيف نتحدث؟ كيف نتواصل؟ ما هي الرسالة التي يجب أن نعمل من أجل الدفاع عنها وكيف نتحدث مع شعوبنا وجمهورنا والمستهدفين من عملنا عن هذه الرسالة والقيم؟ والمستوى الثالث كيف نتموّل؟ حركة حقوق الإنسان العربية يتجاوز عمرها الأربعين سنة الآن. ومنذ بداية التسعينيات ونحن نتحدث عن خطورة الاعتماد على التمويل الغربي وضرورة تنويع مصادر التمويل. هذا النقاش لم يعد قابلا للتأجيل، أو حصره في النقاشات النظرية، بل لا بد من تحرك فوري من أجل تقليل الاعتمادية على المصادر الغربية سواء الرسميّة أو الأهليّة. أما المستوى الرابع فهو كيف نتنظّم؟ علينا أن نعيد التفكير والتخيّل لأشكال تنظيميّة جديدة تتجاوز الشكل التقليدي للمنظمة غير الحكومية الصغيرة المكوّنة من فريق عمل من خبراء متخصّصين يعملون بدوامٍ كامل برواتب ويخضعون لإدارة شخص واحد هو المدير التنفيذي يراقبه مجلس إدارة. هذا الشكل الكوربوراتي الذي نقلناه عن نموذج المنظمة غير الحكومية الغربية والذي نقلته بدورها عن الشركات، لا بد من إعادة تقييم هذا النمط التنظيمي  وتخيّل أشكال جديدة أكثر ديمقراطية وأكثر جذرية وأكثر صمودا في مواجهة التحديات.

ولا يمكن أن نخلق شيئا جديدا ونتخلص من القديم وندفنه إلا عن طريق مقاربة ديكولونيالية وعبر استكشاف منظور ديمقراطي جذريّ لعملنا الحقوقي ليس فقط على مستوانا القومي، بل كذلك على مستوى دول الجنوب.

لقد حضرت العديد من اللقاءات الجماعية الحقوقية على مدار العام الماضي ووجدت هذه الشواغل حاضرة كثيرا ليس فقط في صفوف المنظمات العربية، بل كذلك المنظمات في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا، سواء من حيث المحاور الأربعة التي ذكرتها أو من حيث كذلك إعادة الاعتبار للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية أو من حيث تبنّي المنظور الديكولونيالي. أنا لا أدّعي أن الجديد جاهز للتطبيق، لكن لديّ يقينٌ أنّ القديم قد مات وأنّ الجديد يصارع من أجل الولادة، كما قال غرامشي، وهذا هو تحدّي المرحلة القادمة الذي يضاعفه، ويزيد من صعوبته ضرورة إيجاد الفضاء والوقت والموارد لخلق هذا الجديد في الوقت الذي تتوالى فيه علينا الضربات من نظمنا القمعية والانشغال بإطفاء الحرائق لصالح من يعتمدون علينا للدفاع عنهم والتحضير أيضا للتغيير في المستقبل على مستوى نظمنا ودولنا. كل مهمة من هذه المهام شاقة وصعبة وتنوؤ بحملها الجبال. جمعها معا في وقت واحد يضاعف من هذه الصعوبة، والمسار الوحيد المطروح يبدأ من الاعتقاد أن لا نجاة فردية، لن تنجو منظمة بمفردها، لن تنجو حركة على مستوى دولتها، بل يجب أن نعيد الاعتبار لكونية حركتنا ولضرورة النضال العابر للحدود، لأنني أختلف مع الطرح  القائل بأن المفاهيم الخاصة بكونية حقوق الإنسان أو التزامات القانون الدولي لم تعد صالحة. أنا اعتقد ان هذه الاخيرة تستحق إعادة التعديل، ولكن القيم في حدّ ذاتها لم تفقد فاعليّتها، وإنما المؤسسات القائمة على إنفاذ هذه القيم أثبتت انها غير فاعلة بل وبعضها انهار أو سينهار أمام أعيننا، وكذلك الأشكال الحركية التي خلقناها أو اندمجنا فيها على مدار العقود الأربعة الأخيرة من أجل إنفاذ هذه القيم تحتاج إلى إعادة تصور من جديد.  

المفكرة القانونية: على ضوء سعي ترامب الإجرامي إلى تهجير أكثر من مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى دول أخرى وفي مقدمتها الأردن ومصر، والمواقف الهزيلة القابلة للتأويل لملك الأردن في زيارته الأخيرة إلى واشنطن، هل تعتقد أن نظام السيسي قادر على النأي بنفسه عن الخطة الأميركية الصهيونية في استكمال التطهير العرقي ووأد الحقّ الفلسطيني؟ وماذا يمكن أن يفعله المجتمع السياسي والمدني في مصر اليوم للاشتباك مع هذا المشروع وحمل النظام على عدم الخضوع له؟

بهجت: هذا تحدّي وجوديّ يواجه مصر كدولة وكمجتمع. هذه ليست مجرد مسألة سياسة خارجية بالإمكان ترك التعامل معها للمسؤولين والدبلوماسيين وحتى للعسكريين في نظمنا. هذا تحدّي وجوديّ لمصر، بقدر ما هو تحدّي لمستقبل الفلسطينيين. وهو يؤكد ما حذّرنا منه مرارا من خطورة الولاء المفرط للحكومات الغربية والاعتماد المفرط عليها ليس بغرض الصالح الوطني، بل بغرض بقاء هذه الأنظمة وعلى رأسها أنظمة مصر والأردن ودول الخليج. أخطر ما يواجهنا هو تمسك النظام المصري برفضه المعلن للتهجير كعنوان عريض، ولكن الاستجابة للضغوط الحالية والمتوقعة عبر القبول بأشكال اخفّ من التهجير الفعلي تؤدّي نفس الغرض، أي ما يمكن أن نطلق عليه “تهجير لايت”. نحن نقبل، بل وندعو بالسماح بحرية خروج المصابن والمرضى والأطفال غير المصحوبين، والحالات الإنسانية، والطلاب الدارسين بالخارج، من غزة ولكن الخطورة التي حذرنا منها على مدار الأسابيع الماضية هي أن تستخدم هذه الحالات الاستثنائية لإخراج أعداد متزايدة من المواطنين الفلسطينيين من أهل غزة بدعوى انه خروج مؤقت أو بدعوى عدم وجود أماكن يعودون إليها بسبب حجم الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع. تصريح الملك عبد الله في البيت الأبيض، جاء ليؤكد هذا القلق الذي نشعر به، عبر الحديث عن 2000 طفل، دون الإشارة إلى مرافقيهم وعائلاتهم. تصريحات مسؤولين فلسطينيين ومصريين تقول إن في مصر ما يقارب 130000 من مواطني غزة، خرجوا على مدار السنة الماضية فضلا عمّن خرجوا عن طريق مصر إلى دول أخرى. هذا سيكون تفريغا فعليا للقطاع. ربما المكسب الأساسيّ من هذه الخطط الإجرامية لترامب، هي خروجها إلى العلن بسبب انفلاته ورغبته الجنونية في التباهي والتسريع بذلك. لم يعد واردًا الحديث عن مؤامرة اليوم، لأن الخطة تناقش على شاشات التلفزيون بحضور المسؤولين العرب. نحن نعلم أنه لا مجال للحديث عن خروج مؤقّت من غزة لأن الخطة اليوم هي منع عودة الفلسطينيين والاستحواذ على القطاع، دون إنفاق دولار واحد من قبل الحكومة الأمريكية. وهي خطّة تعدّ أسوأ حتى من احتلال العراق أو من الاحتلال الإسرائيلي نفسه الذي لم يقرّه القانون الدولي ولم يعترف بديمومته. نحن الآن أمام وضع يتجاوز حروب إسرائيل والعراق واحتلال فلسطين ونتحدث عن ضمّ كامل لأراضي غزة وما سيصاحبه من ضمّ لأراضي الضفة الغربية. وهو ليس فقط محاولة لإنهاء القضية الفلسطينية، بل أيضا محاولة محو لفلسطين والفلسطينيين حتى من الوجود الرمزي. لذلك لا بديل عن مواجهة ذلك، ومواجهة نظمنا الحاكمة ومساءلتها عن كيف أوصلتنا سياساتها الداخلية والخارجية إلى هذا الوضع، وعن الاعتمادية الاقتصادية التي كرّستها هذه الأنظمة والتي تجعلها غير قابلة للبقاء اقتصاديا وأمنيا من دون الاعتماد على الكفيل الأمريكي.

لا بدّ من الضغط من أجل سياسة عربية وإسلامية جديدة مختلفة بالكامل فاعلة، هجومية وأخلاقية على جميع الساحات وباستخدام جميع الوسائل والآليات وحتى يكون أيضا لدى شعوبنا أدوات لتكبيد أثمان لمن يتواطؤون مع هذه المؤامرة التاريخية. لأن الأمر في النهاية سيتوقف على حساب المكاسب والخسائر وليس على القيم والأخلاق ومبادئ القانون. هناك شعور بالقلق وغياب الثّقة في رغبة أنظمتنا أو حتى قدرتها في التصدّي لهذه المؤامرة العلنية (ونرى ذلك من خلال التواطؤ الذي أظهرتْه هذه الأنظمة منذ حرب الإبادة). وهو شعور يعززه ما نراه في أعداد المعتقلين من شعوبنا بتهمة التضامن مع الشعب الفلسطيني، وزيادة حجم التبادل التجاري مع إسرائيل في حالة مصر وزيادة الاعتماد على الغاز الإسرائيلي في حالة الأردن ومصر بعد الحرب.

هذه ليست أنظمة تضع في أولوياتها إنقاذ حياة الفلسطينيين وإلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي. هذه الدول هي شريكة للحكومة الإسرائيلية والأمريكية والألمانية. ونحن في الحقيقة في مواجهة عدوان ثلاثيّ على غرار عدوان 1956 على مصر، بتواطؤ أو صمت او تخاذل من شركاء آخرين. الأولويّة اليوم هي للمراقبة، والحشد والتنظيم وأيضا إيقاف التواطؤ من داخل دوائرنا كذلك. لأنه من المحزن والمخزي أن نرى نشطاء، ومنظمات، وسياسيين يزعمون الدفاع عن القضية الفلسطينية والاعتراض على حرب الإبادة، يواصلون التعامل، لا بل واللجوء إلى القائمين على هذه الحرب بالتنفيذ، او بالتسليح، أو بالدفاع الديبلوماسي، أو القانوني. لا بدّ من لحظة توقّف وقطيعة ليعلم هؤلاء المجرمون أن ما يحاولون تمريره لن يمضي من دون ثمن.

في مصر اليوم هناك صعوبات حقيقية في استنهاض الحراك، وهو نتاج للتدمير الممنهج للمجال السياسي والمدني. والقائمون عليه، كثير منهم في المعتقلات اليوم ومنذ سنوات. وهذا النظام لن يتردّد في إلحاق الآلاف بهم في المعتقلات، ولن يتردّد في استخدام القوة الباطشة في مواجهة أيّ تحدٍّ له على طريقة بشار الأسد. ليس لديّ أيّ شك في ذلك. هناك طبعا اليوم في مصر على نطاق واسع مطالبات للنظام بالعمل من أجل مصالحة مجتمعية تتيح اصطفافا وطنيّا ضروريا في مواجهة هذا العدوان على شعوبنا وعلى مستقبلنا. المصريون مستعدّون لتحمّل تكلفة هذه المعركة، فقط في حال وجود حدّ أدنى من الثقة في من يحكمونهم حتى لو تحمّلنا التضحيات.

هذه لحظة مقاومة، والسؤال هل ستكون هذه المقاومة ضدّ المجرمين من الأنظمة الغربية وأنظمتنا الحاكمة في الآن نفسه، أم مواجهة من المنطقة شعوبا وحكّاما في وجه أحدث أشكال العدوان الكولونيالي؟ 

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، حرية التعبير ، مقالات ، مصر ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني