“أهم تغيير في التحالف الحاكم هو تراجع دور بيروقراطية الدولة، التي كانت مركزية في عصر مبارك، وانتهاء مبادلة الاستبداد بالوظائف في جهاز الدولة والدعم السلعي. تحالف الحكم الجديد استغنى عن هوامش “الحماية والتنفيس الاجتماعيين” في عصر مبارك، وهو ما يجعل ميله لاستخدام الحصار والقوة أكبر”.في هذا الحوار مع المفكرة القانونية، يتحدث وائل جمال مدير وحدة العدالة الاجتماعية والاقتصادية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، عن التحوّلات التي شهدها الاستبداد النيوليبراليّ في مصر في علاقة بالمؤسسة العسكرية وصندوق النقد الدوليّ والرّساميل الخليجيّة ووقع ذلك على الوضع الاجتماعي. كما يستعرض جمال تأثير السياسات الجبائية الأمريكية على اقتصادات المنطقة.
المفكرة القانونية: يرى الباحث يزيد الصايغ في دراسته “أولياء الجمهورية… تشريح الاقتصاد العسكري المصري” أن نظام السيسي الذي أطلق مشروعات ضخمة كان المستفيد الأول منها الجيش المصري وقد أفضت الى منافسة العسكر للقطاع الخاص. هل توافق على هذا التحليل؟ وما هي من وجهة نظرك التحولات التي شهدها شكل الاستبداد النيوليبرالي منذ 2013 في مصر وخصوصًا لجهة مراكز نفوذه الاقتصادي وتحالفاته الطبقية؟
وائل جمال: هناك ظاهرة حقيقية تحدث منذ 2013، وهي زيادة دور المؤسسة العسكرية الاقتصادي. ولكن، هذا الدور امتدادٌ لشراكات قديمة من عهد مبارك وليست أمرا مستحدثًا، وهناك مبالغة دعائية كبرى فيما يتعلق بحجم هذا الدور حتى بعد زيادته. في 2009، أشارت إحدى برقيّات الخارجيّة الأمريكية المرسلة من القاهرة والتي تسرّبت ضمن وثائق ويكيليكس، إلى أن وزن الجيش في الاقتصاد يتراوح ما بين 35٪ إلى 40٪، وهذا كلام لا يقوم عليه دليل. المؤكّد أنّ الدور الذي كان موجودا في ظلّ ترتيبات وشراكات مع القطاع الخاص الكبير قد توسع في إطار توازن جديد قائم على الخدمة الكبرى التي قدمها النظام للرأسمال المصري الكبير بعد 2013: تكريس احتكارات الكبار في العقود العامّة بلا منافسة، مدّ منطق الربحيّة والسوق لقطاعات جديدة وتسليع الخدمات العامة ودعم الدولة المباشر عبر موازنة الدولة والخصخصة، بالإضافة إلى القضاء على الحركة الاجتماعية والمقاومة العمالية وتقليص قدرة المجتمع المدني والصحافة على الرقابة.
في مقابل ذلك كان من المنطقي أن يرتفع وزن ممثلي الأجهزة الأمنية في التحالف. لكن هذا لم يعني بأي حال من الأحوال إزاحة القطاع الخاص، بل زاد نصيب القطاع الخاص على حساب القطاع العام بشكل ملموس في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 61٪ إلى 76٪. والأكيد، كما يشير يزيد صايغ في إحدى دراساته المهمّة أنّ أهم توسع للاقتصاد المعسكر جاء على حساب وحدات القطاع العامّ وليس الخاصّ. وأهم مثال على ذلك هو صناعة الأسمنت، حيث صفّت الحكومة الشركة القومية المملوكة للدولة وحل محلها استثمارات تابعة للأجهزة الأمنية.
وهنا يجب الانتباه إلى أن هذه التوسعات والاستثمارات تعمل بمنطق القطاع الخاص تماما، فهي هادفة للربح وتستغل العلاقات المباشرة بالسلطة، مثلها في ذلك مثل رأس المال الكبير الذي استفاد من قربه من نظام مبارك وحافظ على مواقعه، بل وسّعها تحت حكم الإخوان ثمّ حكم السيسي. أهم تغيير في التحالف الحاكم هو تراجع دور بيروقراطية الدولة، التي كانت مركزية في عصر مبارك، وانتهاء مبادلة الاستبداد بالوظائف في جهاز الدولة والدعم السلعي. تحالف الحكم الجديد استغنى عن هوامش “الحماية والتنفيس الاجتماعيين” في عصر مبارك، وهو ما يجعل ميله لاستخدام الحصار والقوة أكبر.
المفكرة القانونية: يبدو أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وسياسات الخصخصة تعرف في مصر تعثّرا واضحا، كما تبدو الرساميل الخليجية التي كان يعول عليها نظام السيسي مترددة في الاستثمار فيها. ما رأيك في ذلك؟
جمال: لا أتّفق مع هذا. مصر مازالت ثاني أكبر مقترض من الصندوق عالميّا، ويجدّد الصندوق برامجه بشكل دوري. الفكرة هنا هي أولويات المشروطيات. ما يبدو خلافا على موضوع طروحات البورصة الخاصة بالاستثمارات الأمنية لا يعطّل أبدا الصلة الوثيقة ولا ضخّ الصندوق لمزيد من القروض ولا دعمه للسياسات الاقتصادية المصرية، طالما استمرّت سيّاسات التقشف وخصخصة الأصول العامة المملوكة للدولة وتحرير سعر الصرف ورفع أسعار الوقود. أما فيما يتعلق بالخليج، فربّما التغيّر الذي حدث هو تغيّر منطق التدخّل من ضخّ أموال للدّعم السياسيّ في صورة منح أو دعم البنك المركزي في شكل ودائع (بالمناسبة تدفع مصر تكلفتها بالأسعار العالمية المتعارف عليها للفائدة وربما أكثر). الآن المنطق هو الاستيلاء على الأصول المنتجة وزيادة السيطرة الخليجية داخل قطاعات بعينها، على رأسها التنازل عن احتكارات الدولة في صناعة التّبغ للسعوديين والإماراتيين وتحويل الأصول الرابحة في الأسمدة والمنتجات البتروليّة للصناديق السياديّة الخليجيّة إلى جانب الاستحواذات في القطاع المالي. وربما كانت صفقة رأس الحكمة، المرشّحة للتكرار مع القطريين والسعوديين دليلا على ذلك. ففي 23 فبراير/شباط 2024 وقّعت مصر والإمارات عقد تطوير وتنمية مدينة “رأس الحكمة” الجديدة الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لمصر، باستثمارات تقدر بنحو 150 مليار دولار، تتضمن 35 مليار دولار استثمارا أجنبيا مباشرا للحكومة المصرية خلال شهرين، منها 11 مليار دولار إسقاط ديون. وينصّ العقد على أن تحصل مصر على 35% من إجمالي أرباح المشروع. لا أرى مثالا شبيها في العالم على دولة تضخّ 35 مليار دولار دفعة واحدة في بلد آخر. طبعا هذا المبلغ رفع الاقتصاد المصري فوق سطح الماء لمدّة شهرين وحسب في ظلّ تفاقم وضعيّة الدين الخارجي وفوائده. ناهيك عن أننا لا نعرف تحديدا حجم ونوعية الامتيازات والمكاسب والتسهيلات التي حصلت عليها الإمارات مقابل الصفقة، غير رقعة الأرض الهائلة التي أصبحت تحت سيطرتها.
المفكرة القانونية: في مصر كما في تونس اعتمدت سياسات التقشف على تجميد الانتداب في القطاع العامّ وتقليص موظّفيه وضرب المرفق العموميّ على خلفية الرواية النيوليبرالية السائدة التي تفسر الأزمة بتضخّم هذا القطاع. ما هي الإصلاحات التي يجب الدفاع عنها لتعزيز جودة خدمات المرفق العمومي وحوكمته الديموقراطية؟
جمال: هذه أسطورة سائدة، وهي أن الجهاز الحكومي في العالم العربي هو سبب الأزمة في الميزانيات. وفي الحقيقة أن مصر مثلا قلصت حجم جهازها الحكومي من حوالي 6 مليون موظف إلى 4.6 مليون في أقل من عقد، وما زال العجز كما هو وما زالت كفاءة الجهاز الحكومي منحطّة. بل إن قطاعات كالصحة والتعليم صارت تعاني من نقص حادّ في التوظيف. بمعايير حجم الجهاز الحكومي للسكان لم تكن هناك مشكلة مقارنة بالعالم، المشكلة الأساسية هي في توزيع العمالة على القطاعات وفي التفاوتات الجبّارة في المزايا والأجور داخل جهاز الدولة، وفي كفاءة الجهاز الإداري، وهو ما يعني ضرورة قلب المنطق على رأسه بضرورة توسع مدروس محوكم جيدا على أسس العدالة والجدارة والمساواة، لسدّ الفجوات الهائلة في الخدمات العامة.
المفكرة القانونية: هناك تحليل شائع يفسّر الأزمة الاقتصاديّة في بلداننا “بالريع” أو “الدولة الريعية” يتقاسمها نيوليبراليون، من منطلق دفاعهم عن الخوصصة وتحرير السوق، ويساريون بحجة أن الريع يضرب الرأسمالية الوطنية المنتجة. ما ردّك على هذا الطرح؟
جمال: الريع ليس ظاهرة عربية، ولا ظاهرة قاصرة على موارد الدولة. الريع سمة للرأسمالية وأصبحت مشكلة كبرى لها مع سيطرة القطاعات الاستخراجية والمالية والتكنولوجية عالميا. بل إن ريوع الدولة في العالم العربي تقلّصت. وأكبر دليل على هذا التحولات التي تحدث في اقتصادات النفط العربية، التي بدأت تدخل الضرائب كمصدر لميزانيّاتها وبدأت في تنويع الاقتصاد. المشكلة الكبرى هي افتراض نمط نقيّ من الرأسمالية لا فساد فيه ولا احتكار، نمط منتج ابتكاري تنافسي تقدمي. مثال على ذلك هو ما يسمى بريع المواقع، الذي يفترض أن تونس ليست بلدا رأسماليًا بسبب الفساد. وكأن ما نشاهده في الولايات المتحدة مختلف جذريّا أو خالص من الفساد. ريع المواقع جزء لا يتجزأ من نمط الرأسمالية في مراكزها المتقدمة، من خلال المال السياسي والاحتكارات واللوبيّات المسيطرة، ثم الحكم بشكل مباشر كما نرى مع ماسك في عصر ترامب. هذا النمط النقيّ المفترض الذي يتمّ القياس عليه لم يكن موجودا أبدًا وليس موجودًا في مراكز الرأسمالية المتقدمة. وبالتالي، أيّ افتراضات تعتمد على الريع لاعتبار أن مجتمعاتنا ليست مجتمعات رأسمالية، هي افتراضات تقودنا إلى إعادة إنتاج نظريّات المراحل الرأسمالية وضرورة مساندة “برجوازيات وطنية تنموية” لإنجاز مهامها، أو الانزلاق لفتح الأسواق بدعوى تكسير الفساد. مجتمعاتنا رأسمالية بامتياز ومشكلاتها جزء من تقسيم العمل الدولي وأزمة الرأسمالية العالمية. وأفق التغيير يجب أن يقوم على أن هذا هو واقع الرأسمالية وأزمتها وبالتالي التفكير خارج هذا النظام.
المفكرة القانونية: تبدو الحصيلة الاجتماعية للسياسات الاقتصادية لنظام السيسي كارثية إن على مستوى تنامي نسب من هم تحت خط الفقر، أو البطالة، أو العطوبة، أو وقع الأزمة البيئية. ناهيك عن أزمة المديونية. لماذا هذا الإخفاق في توفير الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي؟ وما هي التداعيات السياسية لذلك؟
جمال: النظام ورث أزمة حقيقية من مبارك، وهي الأزمة التي فتحت بابا لثورة يناير في المقام الأول. الحلول المقدمة للأزمة غير مرنة لأنها غير راغبة وغير قادرة حتى بعد زلزال ينهار على تقديم تنازلات ذات طابع اجتماعي لتقليل المساواة وتحسين حياة الناس. بل صار النظام يجمع بين يد حديدية وتعميق حادّ للاستغلال والتجويع والإفقار من خلال تعميق السياسات ذاتها التي أسقطت مبارك. ولا يخفى على أحد أنّ أزمة الدين الخارجي الحالية ليست نتاجًا فقط لسياسات النظام، إذ أن صندوق النقد شريك مباشر فيها، وجميع إجراءات التعويم وتحرير أسعار الطاقة وغيرها، كانت تلقى الترحيب والدعم والمباركة من الرأسمال الكبير داخليا وخارجيا وثناء وكالات التصنيف الائتماني. الموقع الاجتماعي والإيديولوجي للنظام وتحالفاته على الأرض لا يسمحان له بتغيير الاتجاه، ولو لتفادي كارثة انهيار. المصالح التي يقوم عليها تحالف الحكم تقتل مرونته السياساتية حتى للحفاظ على استقراره ووجوده في مواجهة المعدلات الخطرة للتفاوت الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهبوط الملايين تحت خط الفقر.
المفكرة القانونية: ما هي حسب رأيك تأثير السياسات الحمائية الأمريكية الجديدة لترامب على منطقتنا؟
جمال: منطقتنا تتّسم بهشاشة بالغة، سواء بسبب هامشيّة وضع بلادها في التجارة الدولية أو الفشل الاقتصادي المتعمق وأزمة الديون الخارجية الهائلة. كل تحول في السوق العالمية لا يعفينا من آثار كارثية. تجارتنا مع الولايات المتحدة محدودة في الحقيقة. وبالتالي في هذه الحالة أهم ما سيؤثر علينا هو تعميق مناخ اللا يقين وعدم الاستقرار العالمي، الذي ربما يرفع أكثر من تكلفة الاستدانة، ويهدّد أسواق السّلع بالصعود والهبوط غير المنتظم. ربما تستفيد بعض الدول المستوردة للنفط قليلا من تراجع أسعار الطاقة العالمية، لكن في تقديري أن مجمل التأثير سلبي. ولا ننسى هنا أن التأثيرات هي الأخرى متفاوتة بين قطاعات الرأسمالية المحلية وبين الرأسمال والعمل. فهناك دومًا مستفيدون من قلب المصائب.
المفكرة القانونية: تشير الإحصائيات الإسرائيلية الرسمية، التي تتستر عليها الأنظمة العربية، إلى تنامي التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني والدول المطبعة معه، باستثناء الأردن، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة ومصر سنة 2024 أي في أوجّ حرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة. هل لك أن تشرح لنا مقومات الاقتصاد السياسي للتطبيع اليوم؟
جمال: مثال على ما كنت أذكره للتو هو قطاع الملابس الجاهزة المصري، المندرج تحت اتفاقية الكويز مع إسرائيل والولايات المتحدة. هذه الاتفاقية تعفي المنتج المصري من الجمارك إذا اشتمل على مكون إسرائيلي 10٪. هذا قطاع مرشح للاستفادة الهائلة من ارتفاع التعريفات على صادرات بنجلاديش مثلا، وهو ما سينجم عنه توسع في الانضمام للكويز في الأغلب. هذا المنطق الاقتصادي القح، قدم لنا وقت التوقيع على الاتفاقية. كانوا يقولون لنا إن الاتفاق سيفتح الباب لتعيين ملايين العمال واستعادة العصر الذهبي لصناعة المنسوجات والملابس الجاهزة، وتحويل مصر إلى قوة تصديرية عالمية. طبعا كل ذلك لم يحدث. ما حدث هو أن هذا اللوبي من أصحاب الأعمال حقق مكاسب جبارة، وهؤلاء لا يتحرك ضميرهم حتى أمام المذبحة. هذا القطاع النافذ في تحالف الحكم يعلي من أرباح فوق أي موقف سياسي وطني أو تضامني أو أخلاقي، وهي مكاسب حصرية أثرها على الاقتصاد، حتى بالمنطق النفعي البارد، محدود. هذا النوع من البراغماتية الفجة هو انعكاس آخر لتوازن القوى الحاكمة في مصر ولإجراميّتها السياسية والأخلاقية إذا تعلق الأمر بأرباحها ومكاسبها المباشرة. هو انعكاس لمنطق نيوليبرالي يحسب كل شيء بمنطق المكسب والخسارة، الحصرية لأقلية الأقلية في هذه الحالة.