حاوَرَه حمادي لسود
أصبحَ هناك شِبه إجماع داخل الأوساط السياسية والمدنية والمتابعين للانتخابات الرئاسية التونسية، التي انتظَمت في 6 أكتوبر الفائت، أن هذه الانتخابات لا تُشبه مثيلاتها التي جرَت في العامين 2014 و2019، رغم أن رئيس الجمهورية ترشَّح -نظريا- لهذه الانتخابات وفقا لدستور 2014 وليس لدستور 2022، وهذا التغيير الذي شهدَه المسار الانتخابي شكلا ومضمونا، لا يَعكس فقط مجرد إرادة سياسية فوقية فرضها رئيس الجمهورية وتحوّلت إلى سلطة الأمر الواقع، وإنما تستدعي قراءة لآليات فَرضِها والسياقات التي انبثقت عنها. وتستدعي أيضا الوقوف على دلالاتها السوسيولوجية. لذلك يأتي الحوار مع الباحث التونسي في علم الاجتماع مهدي مبروك، لقراءة هذا التحوّل في البراديغم الانتخابي في تونس. وقد حَاورته المفكرة القانونية حول المحدّدات الأساسية، القانونية والسياسية، التي ساهمت في صناعة هذا المسار الانتخابي، والأرضية السوسيولوجية التي تحرّكت ضمنها خيارات الاقتراع العام، ودور الخطابات السياسية والصّور في تحريك مخيال الناخبين وتوجهاتهم.
مهدي مبروك، هو أستاذ علم اجتماع في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، وتَولىَّ وزارة الثقافة التونسية، منذ 24 ديسمبر 2011 إلى 29 جانفي 2014، في حكومة الترويكا. ويشغَل حاليا خطة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (فرع تونس). له العديد من الإصدارات مثل كتاب “أشرعة وملح: حول ظاهرة الهجرة غير النظامية في تونس” الصادر بالفرنسية سنة 2010، إضافة إلى عدد من المقالات العلمية المحكّمة عن قضايا الثقافات والهجرة والشباب والتحول الديمقراطي.
المفكرة القانونية: كيف ترون المسار الانتخابي لرئاسيات 2024؟ وما الذي يُميّزه عن انتخابات 2019 و2014 من زاوية سوسيولوجيا الانتخابات؟
المهدي مَبروك: المسار الانتخابي بصفة عامة يَختلف مع آخر انتخابات ديمقراطية تعدّدية شهدتها البلاد، يعني انتخابات أكتوبر 2019، رغم وجود قواسم مشتركة بينهما. في اعتقادي أربعة أركان ومداخل يُمكن أن تساعدنا على فهم المسار الانتخابي الذي عرفته البلاد. لا يمكن القيام بتحليل يقوم على سوسيولوجيا الانتخابات التقليدية على قاعدة “من صوّت لمن؟” مثل ما يحصل في الديمقراطيات الغربية، من دون الرجوع إلى هذه الأركان الأربعة.
الركن الأول؛ وكَمدخل لفهم ما حَدَث، هو الحقل السياسي الذي عرفته البلاد. ولاَ يمكن أن نفهم نتائج الانتخابات من دون أن نَشُدّها ليس فقط إلى المسار القانوني الذي أخذته الأحداث، بل كذلك إلى الحقل السياسي. تنتظم الانتخابات بصفة عامة في أي ديمقراطية أو حتى في التجارب المتعثرة في حقل سياسي. هذا الحقل السياسي عَرف منذ 2019 تغيرات عميقة جدا، أهم خصائصه: ضعف أو اختفاء العديد من الفاعلين السياسيين، تغيّر مواقع ومواقف وموارد هؤلاء الفاعلين، أساسا الأحزاب والمجتمع المدني. وبالمقارنة مع الانتخابات السابقة، كان هذا الحقل السياسي مكتظا، إذ كان هناك حوالي 230 حزبا في هذا الحقل، منها حوالي 30 حزبا يشاركون في الانتخابات. وبالتالي تم تَجريف الحقل السياسي، واختفت تيارات سياسية، وضعُفَت تيارات أخرى. والأسباب عديدة: الرئيس لا يؤمن بالأجسام الوسيطة، أزمة ثقة في الأحزاب، ضعف قدراتها التنظيمية، تناسلها الفوضوي من بعضها البعض…وحتى مفهوم العائلات السياسية لم يعد واضحا، مثل العائلة اليسارية، الدستورية، أو الإسلامية. ذهبنا إلى انتخابات 2024 بحقل سياسي قد تمّ إفراغه بشكل كبير، بمعنى النقص العددي للفاعلين السياسيين، من 230 حزبا الآن بالكاد يعرف الناخب ثلاثة أو أربعة أحزاب. وَصلنا إلى انتخابات 2024 بعد تَجريف الحقل السياسي والقضاء على الموارد المادية والرمزية للفاعلين فيه.
الركن الثاني: هو كلّ ما يتعلّق بالمسار القانوني منذ دستور 2022. الأمر لا يبدأ من وضع حدّ لولاية المحكمة الإدارية على المسار الانتخابي، بل بالعبث القانوني الذي انطلق منذ دستور 2022، ثم انتخابات مجلس النواب ومجلس الجهات والأقاليم، وتغيير طاقم الدولة من العُمَد والمعتمدين والولاة. في هذا المسار القانوني، من دستور 2022 وصولا إلى آخر تنقيح للقانون الأساسي الانتخابي قبل أسبوع من يوم الاقتراع، تمّ تغيير قواعد اللعبة في آخر وقت. وبالنسبة لنا كعلماء اجتماع، قواعد اللعبة ليست بالضرورة مكتوبة. قواعد اللعبة هي الذوق الأدبي والأخلاقي؛ أن تَغشّ يعني أن تَسرق حظوظ الانتصار لفائدتك. لا يمكن تغيير قواعد اللعبة قبل أسبوع من الانتخابات. لكن ما حدث هو تغييرها عبر المرور بقوة من خلال الاستناد إلى “قوة القانون”.
الركن الثالث؛ هو العرض السياسي. هل كان هذا العرض السياسي يُشبِع ويَستجيب ويُلبّي أذواق ومواقف تطلعات التونسيين؟ الانتخابات الحقيقية والنزيهة يجب أن تكون تعددية، والتعددية تعني التعددية الأيديولوجية والسياسية. يعني أن يعكس العرض السياسي ويُترجم التعددية الاجتماعية والسياسية والثقافية. مثلا إن كُنتُ من اليمين أو اليسار أو غيرها من العائلات السياسية والأيديولوجية الموجودة في المجتمع، يجب أن أجد مرشَّحًا أو أكثر لهذه العائلة في الانتخابات الرئاسية. هل كان العرض السياسي للمرشحين الثلاثة يعكس التراث السياسي والتوجهات السياسية في المجتمع؟ لا لم يكن هذا. يبدو أن الآلة السياسيّة التي فَرمت الأشخاص، فَرمَت أيضا التعبيرات السياسية التي كان بإمكانها أن تُشكّل منافسة سياسية لقيس سعيد، كتعبيرات سياسية منفردة أو في شكل تحالفات.
الركن الرابع هو المناخ الانتخابي؛ نلاحظ عودة ثقافة الخوف، وحتى الهدنة الأمنية الانتخابية لم تقع، وخلال الأسابيع الأخيرة الانتخابية وقَعَت إيقافات لصحفيين، مدونين ومناضلين. لقد كانت مباراة انتخابية بجمهور واحد، بقية الجمهور الآخر إما متردّد، أو خائف، أو لا مبالٍ، أو عازف. عزوف ناجم عن الخوف، عن عدم الثقة وعدم الإيمان بجدوى الانتخابات على اعتبار أن النتيجة محسومة.
من يَملك السلطة يستطيع أن يخلق مشروعيته
المفكرة: ما هو المخيال الانتخابي والصّور التي تمّ تحريكها في رئاسيات 2024 برأيك؟
مبروك: في الانتخابات وفي قضايا الرأي العام، الفاعل الاجتماعي تُحرّكه كذلك الغرائز والأهواء، أي ما يمكن أن يُنتِجه المخيال. وأعتقد أنّ قيس سعيّد يُدرك تماما أهمية هذه الصور. في اعتقادي، إن السباق الانتخابي -مع تحفظاتي على هذا المصطلح لأن القدرات لم تكن متكافئة- لم يكن سباقا حول خطاب ولم تُستَحضَر فيه مقولات، لا قومية أو ليبرالية أو غيرها. لم نَخُض عملية انتخابية بمضامين انتخابية على عكس الانتخابات السابقة. حتى زهير المغزاوي لم يكن بعيدا عن مضامين قيس سعيد واعتُبِرَ “المترشح العاقّ”. لذلك ذهب معظم الجمهور للمترشّح الأصل وهو قيس سعيد. الصورة التي كان يتم تحريكها في هذا السباق من حين إلى آخر، هي صورة المنافس البطل الخارق للعادة، هذا الذي وضع حدًّا لكل هذا العَبث، وشكّلَ القوة التي سحقت الجميع. يبدو أننا سياسيا، للأسف ما زلنا مشدودين لمخيال صورة القويّ ذي البأس الشديد. هذه الصورة كل فئة تُعطيها مضامين، الطبقات الشعبية تُعطيها مضامين، السياسيون يعطونها مضامين، كلّ من موقعه. السلوك الانتخابي للتونسيين لم يَقُم على المصلحة مثل المجتمعات الغربية. لم يتمّ انتخاب قيس سعيد لأنه سيغيّر أحوالهم، بل سينتقم لهم من شيطان ما. كلّ له شيطانه، البعض يعتبرها حركة النهضة، آخرون صندوق النقد الدولي، إلخ.
بمقتضى القانون لا يُمكن أن نُشكّك في النتائج، وهذا يَخلق سلطة الأمر الواقع
المفكرة: هل أعادت رئاسيات 2024 إنتاج شرعيّة النخب الحاكمة تحت غطاء المشاركة السياسية؟
مبروك: تَبيَّنَ -مع الكثير من التنسيب والتحفظ- أنّ من يَملك السلطة يستطيع أن يخلق مشروعيته. تَبَيّنَ، في تاريخنا السياسي الحديث، أن الناس يُوالون من تكون له السلطة ويَمنحونه الشرعية. الشرعية والمشروعية تأتي لاحقة عن السلطة وليست محدّدة لها. في الأنظمة الديمقراطية، أنت تبحث عن الشرعية والمشروعية من خلال القانون والدستور والانتخابات النزيهة، ثم تأتي المشروعية الأدبية والأخلاقية من خلال ما تُنجزه أثناء فترة ممارستك للسلطة. في العالم العربي وفي تونس، مثلا بن علي قَدِمَ من خارج الشرعية والمشروعية لكن تَملّكَها لاحقا. قيس سعيد مثلا في 2019، لا يمكن التشكيك في شرعيته ومشروعيته. لكن في 25 جويلية، السلطة هي زائد القوة، وبعدَها المحطات الانتخابية اللاحقة لهذا التاريخ ستَمنح قيس سعيد المشروعية.
نحن كنُخَب نشكّك في هذه الشرعية، لكن لن يكون لهذا الطعن أي معنى أمام سلطة ونظام ومشروعية الأمر الواقع. الآن في تونس، نحن بمقتضى القانون لا يُمكن أن نُشكّك في نتائج الانتخابات، وهذا يَخلق سلطة الأمر الواقع. وينتهي المجتمع بالتسليم كما سلّم 30 سنة لبورقيبة وبعدها 23 سنة لبن علي. تأتي بعدها سيرورات الاحتجاج، وتهرّؤ النظام وانقسَامِه الداخلي، لتضع حدًّا لذلك التسليم. لكن هذا يُمكن أن يحدث أو لا يَحدث. هذه الانتخابات غَذّت شرعية ومشروعية قيس سعيد. أكيد أن هذه الشرعية والمشروعية مشروخة إلى حدّ ما، لكنها خَلَقَت واقعها.
المفكرة: كيف تُقيِّمون المترشحين لرئاسيات 2024 من حيث الخصائص السوسيولوجية لكل منهم؟
مبروك: لا يُمكن لنا تمامًا أن نَشُدّهم إلى خلفية ثقافية، سياسية أو طبقية، ولكن هناك بعض التمايزات. يمكن القول أن زهير المغزاوي يُمَثّل التعبيرة القومية مع منحَى اجتماعي اشتراكي مُستوحَى من اشتراكية عِصمت سيف الدولة واشتراكية جمال عبد الناصر، وقادم من التجربة النقابية في الاتحاد العام التونسي للشغل. ينتمي إلى الطبقة الوسطى، على اعتبار أنه أستاذ تعليم ثانوي، وهي مجموعة ما زالت تحاول الحفاظ على مكانها الطبقي حتى لا تتدحرج إلى الطبقات الشعبية. أصوله من الجنوب التونسي، وهو محافظ.
العيّاشي زمال، شاب جَرّبَ السياسة بعد الثورة. قادِم من عالم الأعمال وتحديدا الصناعات الغذائية. ابن المدرسة الوطنية كما يقول ويفتخر بذلك. قادم من جهة داخلية محرومة. هو برجوازي صغير يمكن أن يكون ملهمًا للشباب والجِهات الداخلية المحرومة. له توجه ليبرالي محافظ، حيث لم يصطَدِم بالفكر الديني. وهو سليل العائلة الدستورية.
قيس سعيد، هو المُنظّر الشعبوي، الفصيح المختص في القانون الدستوري. غير المنضبط. ُمحافظ. ينتمي إلى البرجوازية الصغيرة.
المفكرة القانونية: في جميع المحطات الانتخابية والاستفتاء على الدستور، بعد 25 جويلية 2021، كانت نسبة الممتنعين عن التصويت أكبر من نسبة المقترعين. ما هي الدلالات السوسيولوجية لذلك؟
مبروك: مَسار العزوف في مسار ديمقراطي غير مسار العزوف في الاستبداد. العزوف هو إحدى التعبيرات الديمقراطية، بمعنى أن المشهد السياسي لا يعنيني، لأنني لا أُؤمن بالسياسة ولا بهذه الطبقة السياسية. نسبة المشاركة 99% بالقوّة هي نسبة غير ديمقراطية. الناس الذين يُجَرّونَ خوفا إلى صناديق الاقتراع يَدلُّون على أننا في وضع غير ديمقراطي، فالديمقراطية تَسمَح بالعزوف. قبل 2019 عزف الناس عن الانتخابات لأسباب عديدة: هناك من عزف لعدم إيمانه بصناديق الاقتراع، ومن اطمأنَّ على الديمقراطية ولا يرى بُدًّا من مواصلة الاقتراع، أو عدم الثقة في السياسيين بمختلف توجهاتهم، وهناك من يرى أن النتائج محسومة لأنه قد تم التوافق عليها بين اللاعبين الكبار، إلخ. الآن نحن في مشهد آخر، هو مشهد عدم الإيمان مطلقا بأن الانتخابات يمكن أن تضع حَدًّا للاعب الأوحَد. الكثير من الخوف، الكثير من التردد، الكثير من عدم الإيمان بأن هناك بديلا. ثقافة اليأس، ثقافة الإحباط، ثقافة الخوف عَادت مجدّدًا.
المفكرة: لماذا هناك غياب لطقوس الحملة والاحتفالات الانتخابية على عكس انتخابات 2011، 2014 و2019؟
مبروك: كنّا نذهب في السابق إلى إعتماد لفظ “العُرْسْ” الانتخابي لتوصيف العملية الانتخابية، وأحد أهم أركان العُرْس هو الفُرجَة. والحَملاَت الانتخابية قامَت بالأساس على العرض، هناك جمهور وتصفيق وإبهار واستعراض وديكور، كلّ يَغرف من مخزونه الانتخابي. شاهدنا في الحملات الانتخابية السابقة عديد أوجه العرض والاحتفال، الفروسية، أغانٍ ملتزمة، قرآن، حفلات موسيقية، إلخ. كانت هناك زيارات ميدانية، اجتماعات شعبية حاشدة واستعراض قوة المترشحين. في هذه الانتخابات، كان عُرسًا صامتا، فيه الكثير من مناخَات المَأتم والحزن. المدينة لم تَنشرح، لم تفرح ولم تتزيّن. سابقا كانت الحملات تُقام في الملاعب والفضاءات الرياضية الكبرى وحتى الشوارع. وحتى من لا يَقدر على ذلك يكتري قاعة أفراح أو نزلا أو فضاء صغير. هذه الانتخابات وكأنها بلا أرض، أين جغرافية الحملة الانتخابية؟ لم نرَ شيئا إلا زيارات نادرة، مع لافتات باهتة، مع تغطية إعلامية محدودة، وهكذا لم تَخلق الحدث. لأن العرض السياسي محدود. وهناك انتشار لثقافة الخوف، لا تستطيع أن تَشتري بضاعة سياسية وأنت خائف. لم يكن هناك تسويق سياسي، لأن العرض السياسي مُزَوَّر، هناك مرشح في السجن، إيقافات، تحريّات، التشدد القانوني ومحاصرة المترشحين، الصنصرة الإعلامية، إلخ. فُرِضَت على البلاد حالة من الصمت والخوف الانتخابي خلال كامل الحملة الانتخابية. لذلك كانت حملة فاشلة.
المفكرة: ماهي الخصائص الاجتماعية للحملة الانتخابية للمترشح قيس سعيّد؟ وما اختلافها عن حملة رئاسيات 2019؟ هل أثّرَت تجربة الحكم في خطابه وممارساته الانتخابية؟
مبروك: سنة 2019 كان قيس سعيّد يعيش “عذريته السياسيّة”. لم يُجرّب السياسة ولم يجرّب الحكم وهو شخص غامض. الآن سعيّد أكثر مقروئية لأنصاره، أكثر مقروئية لخصومه. استطعنا أن نُفَكّكَ بعض شفرات قيس سعيّد حتى نقرأه نصًّا انتخابيا. لقيس سعيّد في هذه الانتخابات مكاسب، أو على الأقل هو يُصدّرها كمكاسب. في “العذرية السياسية” نرتكز على الوعود، الآن قيس سعيد لم يَخض في الوعود السياسية فقط، خاض في ما يعتقد أنها مكاسب، بخاصة المكسب القائل بفكرة “وضع حد لتفجير الدولة من الداخل”. هذه الفكرة مقنعة أو غير مقنعة تظل مسألة أخرى، ولكن سعيّد يغرف من رصيد “مكاسبه” وليس من رصيد وُعودِه.
في هذه الانتخابات، كان عُرسًا صامتا، فيه الكثير من مناخَات المَأتم والحزن. المدينة لم تَنشرح، لم تفرح ولم تتزيّن
المفكرة: تُعتبر الهجرة وتواجد الأفارقة من جنوب الصحراء من المواضيع الحارقة في الساحة الآن، ومع ذلك نشهد غيابها عن الخطاب السياسي الانتخابي. كيف تُفسّر ذلك؟
مبروك: لقد وقعَت أمنَنَة الهجرة، فهي من اختصاص مجلس الأمن القومي، ومن يتحدّثَ فيها خائن أو عميل، بما فيها حتى المترشح الذي نافَسه، زهير المغزاوي، حيث استطاع أن يتكلّم في موضوع الهجرة على عكس المرشح الآخر الذي كان في السجن. هذا يعني أن الدولة تُسَيّج مواضيع وتَمنعها من التواجد في النقاش والفضاء العامّين. إذ أنّ الرأي العام يُتيح لك أن تتحدث في المثلية الجنسية ومسألة تغيير الدين وغيرها من المواضيع المحرّمة وشبه المحرمة، لكن هناك مواضيع أخرى عديدة اختفت من النقاش والفضاء العامين. إذ أن جزءا من هندسة الفضاء العام أن تجعل بعض المواضيع غير قابلة للنقاش، ومُحرّمة بالمعنى الأخلاقي للكلمة، والخوض فيها له تكلفة كبرى. الآن دخلنا دوامة الصمت أو المسكوت عنه كقضية الهجرة. وهذا ناجم عن إرادة الدولة باستعمال القانون، بالتخوين، بالخوف، وبالإيقافات والسجون، لتجعَله في نهاية المطاف موضوعا خاصا بمجلس الأمن القومي فقط.
نشر هذا الحوار في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 31
لقراءة وتحميل العدد 31 بصيغة PDF