حوار مع الباحثة السودانية مزن النيل… السودان من الثورة إلى الثورة المضادة


2025-04-12    |   

حوار مع الباحثة السودانية مزن النيل… السودان من الثورة إلى الثورة المضادة

تستذكر الباحثة والكاتبة السودانية مزن النيل* في هذا الحوار مع المفكرة القانونية المحطات المفصلية للثورة في السودان التي انطلقت في ديسمبر 2018 وتحلّل أسباب انتكاستها بفعل الحرب الطاحنة بين نخب مسلحة تشترك في سعيها إلى إخراج الحراك الشعبي من المعادلة السياسية.

المفكرة القانونية: مرّت أكثر من 14 سنة على انطلاق الموجة الأولى من الثورات العربية، ثم جاءت الموجة الثانية في 2018 وكانت إحدى ساحاتها المركزية السودان. هل لك أن تستذكري معنا  المراحل  المفصلية للثورة في بلدك، ومن كان فاعلوها المركزيون؟ 

مزن النيل: للحراك الثوري في السودان، كما الحال في مختلف مناطق العالم، تاريخ وتراكمات سابقة لا يمكن فصله عنها. فقبل انطلاقه في ديسمبر 2018، شهدت السنوات السابقة عدة موجات من الحراك الشعبي الرافض لسياسات الحكومة أو المطالب بإسقاطها. شمل ذلك الإضراب العام في 2016 ضدّ رفع أسعار الدواء والذي ساهم في بناء التنظيمات النقابية الموازية والتي لعبت دورا مهما سنة 2018 والسنوات اللاحقة، وكذلك مظاهرات 2013 ضد الأوضاع الاقتصادية المتردية والتي شهدت أول استخدام لقوات الجنجويد – لاحقا أصبح اسمها الدعم السريع – في الاعتداء على المتظاهرين داخل العاصمة عقب سنوات من استخدامها للاعتداء على المدنيين في مناطق دارفور. عرفت 2013 أيضا أشكالا جنينية لظهور لجان المقاومة، وهي الأجسام التي نمتْ وتطوّرتْ فكانت عملاق التنظيم الشعبي ذا الدور الأهمّ في الدفع بالحراك الثوري في السنوات التي تلت 2018. وفي نفس السياق، للسودانيين تاريخ طويل في الحراك الشعبي السياسي، الذي مكّن من مراكمة دروس رفدت الثورة السودانية بالعديد من الخبرات والاستراتيجيات، على مستوى أشكال التظاهر والإضرابات والأنشطة السياسيّة ضدّ الحكم العسكريّ الدكتاتوريّ منذ انقلاب 1989، بالإضافة إلى الانتفاضات الشعبية التي عرفها السودان في 1985 وثورة أكتوبر 1964، التي شهدت بروز تنظيمات شعبية سلمية أنجزت نجاحات سياسية في وجه الحكم العسكري بعيد الاستقلال السياسي مما غرس بذور الإيمان بالعمل الشعبي المنظم في وجدان أهل السودان.

جاء الحراك الثوري في 2018 يحمل دروس وخبرات هذا التاريخ. انطلقت التظاهرات الشعبية في بداية ديسمبر 2018 احتجاجا على أوضاع اقتصادية متدهورة. وكانت مضاعفة أسعار الخبز هي القشة التي قسمت ظهر السكوت. فانتشرت التظاهرات بشكل عفوي في العديد من المدن. كان الفاعلون في هذه الفترة مجهولين، إلا أن أفعالهم كانت معلومة. شكل حرق دار المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) في مدينة عطبرة حدثا مفصليا كسر حاجز الخوف وزادت حدة التظاهرات بشكل ملحوظ مع انتشار خبر وصور الدار المحروقة. ظهر عقب ذلك تجمع المهنيين السودانيين المكون من نقابات موازية معارضة، لم يكن جسما معروفا، وربما ساعد ذلك في كسبه ثقة الجماهير التي فقدتها في الأحزاب والقوى السياسية التقليدية لضعفها وانحرافاتها المتكررة عن مصالحها. استطاع التجمع أن يطور التظاهرات بحيث أصبحت لها مواعيد معلنة ومسارات ومطالب محددة في ما سمي بميثاق الحرية والتغيير. وقع على الميثاق التجمع وأحزاب المعارضة التقليدية، مكونين مما سمي بقوى الحرية والتغيير(قحت). في يناير 2019 دعا التجمع إلى تكوين لجان المقاومة في الأحياء بهدف تنفيذ تكتيكات التظاهر المتوازي في مناطق متعددة ومتفرقة. أصبحت لجان المقاومة فاعلا ازدادت قوته وكبر حجمه في السنوات التالية من الثورة. 

لاحقا، شكل الاعتصام حول مقرات الجيش، من أبريل وحتى بداية يونيو 2019 ، مرحلة مهمة اختبر فيها السودانيون تجارب التنظيم والديمقراطية المباشرة والضغط على القيادة السياسية التي كانت منخرطة في تفاوض مع الحكومة العسكرية وقتها. من الأحداث المهمة أيضا، إضراب 28-29 مايو للمطالبة بالحكم المدني والذي أغلق البلاد بشكل كامل بما فيها أسواقها ومطاراتها ومناجمها ومصانعها. شكلت القوة والصمود الذي أظهرته الجماهير السودانية ضد الحكم العسكري أحد العوامل التي قادت العسكريين نحو تنفيذ مجزرة الثالث من يونيو 2019 ضد المتظاهرين والتي بقي البحث عن العدالة ضد مرتكبيها بوصلة قادت اصطفافات وقرارات جبهة المقاومة في السنوات التالية. كان تنظيم لجان المقاومة – بشكل مستقل عن التجمع وقوى الحرية والتغيير- لتظاهرات مليونية ضد الحكم العسكري في 30 يونيو 2019 نقطة هامة في تطور اللجان، خاصة أنه تمّ ضمن قطع تامّ للإنترنت في البلاد فأجبر اللجان على تعميق ارتباطاتها الميدانية وتشبيكها بين بعضها بشكل أفضل. اللحظة المفصلية التالية كانت لحظة هزيمة، قادتها القوى التقليدية حيث وقعت اتفاق الشراكة مع المجلس العسكري متراجعة عن مطلب الحكم المدني. طيلة فترة حكومة الشراكة الانتقالية، استمرت التراجعات عن مطالب العدالة ضد منفّذي المجازر وعن المطالب الاقتصادية، وآثرت الحكومة مواصلة السياسات النيوليبرالية التي خرجت ضدها الجموع في 2018. 

عرفت المرحلة الانتقاليّة عدة لحظات مفصليّة تعمّق فيها الانفصال بين مطالب الشعب والثورة من جهة وتوجهات النخبة الحاكمة من جهة أخرى، إن من خلال قرارات اقتصادية أو انتهاكات عنيفة ضد التظاهرات السلمية. كانت لجان المقاومة طيلة الفترة الانتقالية فاعلا مهما حاولت النخبة الحاكمة استمالته أو قمعه بمختلف الأشكال ولكنه استمرّ في تظاهراته وندواته وأنشطته السياسيّة. أدّى ذلك بعد انقلاب الشق العسكري من الشراكة على النخبة المدنية إلى تحوّل اللجان إلى الفاعل الرئيسي والقائد المقاوم ضدّ الانقلاب. كما شهدت فترة ما بعد الانقلاب عدّة لحظات في غاية الأهمية، منها مثلا الرفض الشعبي لعودة الحكم العسكري من خلال اتفاق جديد مع رئيس الوزراء المنقلب عليه. ومن أهم اللحظات بالتأكيد عملية إنتاج مواثيق لجان المقاومة التي قدمت تحليلا للمشاكل الهيكلية المسببة للتدهور الاقتصادي والسياسي في السودان واقترحت كذلك تصورات لحكم البلاد من خلال تفعيل سلطة الشعب من أسفل إلى أعلى ورفض حكم النخبة. شاركت أكثر من 8000 لجنة مقاومة في إنتاج ميثاق تأسيس سلطة الشعب ووقعته في أكتوبر 2022، وبهذا فتحت لجان المقاومة مستويات أرحب من الممارسة الشعبية في دفع القرار السياسي. 

المفكرة القانونية: منذ أكثر من سنة ونصف يشهد السودان حربا بين جنرالين، حميدتي قائد ميليشيا قوات الدعم السريع والبرهان القائد العام للقوات المسلحة السودانية حولت جميع المدن إلى ساحات اقتتال، ونشرت الموت والخراب والجوع والتهجير وشرّدت ملايين المواطنات والمواطنين وجعلت من أجسام النساء غنائم …  كيف هزمت الثورة في السودان فتحوّلت إلى حرب ضروس؟ 

النيل: الحرب الحالية هي حقاً، بالإضافة لكونها حربًا على السلطة بين فصيلين من النخبة المسلحة، كذلك حرب إخضاع للحراك الثوريّ السودانيّ وعملية تهدف لإعادة حصر القرار السياسي بين النخب المسلحة وإخراج الحراك الشعبي الثوري من المعادلة. يمكن فهم هذه الحرب إذًا كامتداد لاستخدام العنف لقطع الطريق أمام التنظيم الشعبي والتغيير الثوري. كانت أولى حلقات هذا التوجه، قيام قيادات الأجهزة الأمنية والعسكرية بعزل الرئيس وتنصيب أنفسهم كمجلسٍ عسكري في وجه التّظاهرات والاعتصامات المتصاعدة في أبريل 2019 للمطالبة بالحكم المدني والعدالة الاقتصادية. 

كان انقلاب هذا المجلس العسكري أولى محاولاتهم بهدف إيقاف المدّ الشعبي والحفاظ على هياكل الحكم مع وجودهم على رأسها بدلا عن الرئيس السابق. أما الحلقة التالية فكانت مجزرة القيادة العامة في 3 يونيو، حيث أتت بعد الإضراب العام وتنامي قوة الاعتصامات ورفضها لتسريبات التفاوض التي كانت تذهب نحو إشراك العساكر في الحكم بدلا عن الحكم المدني الكامل. 

استخدم المجلس العسكري العنف هنا مرة أخرى لتعطيل وقمع العمل الشعبي وفتح المجال لمُساومات النخبة. وجد هذا العنف قبولا وترحيبًا من حكومات المنطقة (مثل السعوديّة والإمارات ومصر) والمجتمع الدوليّ الذي شجع شراكة العسكر في الحكم ودعم الوثيقة الدستوريّة التي قننته والتي تم توقيعها في أغسطس 2019. كان الانقلاب الأول حلقة مهمة في هذا الاتجاه، حيث اختبر العساكر حصولهم على نصف السلطة – كشركاء في الحكومة الانتقالية – مكافأة على عنفهم وقمعهم السابق – فقاموا بانقلابهم الثاني في أكتوبر 2021 أملا في الحصول على كل السلطة مقابل حلقة عنف جديدة. 

سعت حكومات المنطقة والمجتمع الدولي إلى تكرار فعلتهم فدعموا مفاوضات ومشاورات لإعادة تقنين سيطرة العسكر على الحكم، رغم الرفض الشعبي الكبير وقتها ممثلا في تظاهرات استمرت لفترة تفوق العام من أكتوبر 2021 حتى قيام الحرب في أبريل 2023، ورغم محاولات لجان المقاومة في الدفع بسلطة الشعب والحكم من أسفل. 

شكلت بلا شكّ الحرب حلقة جديدة من العنف في وجه حراك شعبي رفض الحكم العسكري بشدة، بغرض حصر الصراع على السلطة بين النخب العسكرية وإزاحة التنظيمات الشعبية من مجال القرار السياسي. ويتضح ذلك في تصريحات الجهات المتحاربة وبالتحديد الجيش وأنصاره الذين كثيرا ما يعلنون أن الوقت حاليا للمعركة ولدعم القوات المسلحة ويدفعون الى تأجيل أو رفض شعارات ومطالب الثورة، وهي توجهات انساقت لها، للاسف، قطاعات واسعة من الجماهير وكذلك من لجان المقاومة والتنظيمات الشعبية.

لا شكّ أنّ العامل الأهمّ في الدفع بهذا التدهور الذي أصاب الثورة السودانيّة هو الدعم الخارجي (إقليميا وعالمياً) للقوى السياسية النخبوية والذي عمل على إضعاف التنظيم الشعبي على مدى سنوات. رأينا ذلك من خلال إسناد المؤسسات الدولية مثل بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي لمؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية والحركات المسلّحة والأحزاب النخبويّة وإعلاء صوتها بخلق منابر تفاوض تجمعها رغم الرفض الشعبي الواضح لها. كما رأينا دعمهم المادي المباشر للانقلاب العسكري في 2019 عبر، على سبيل المثال، المساعدات التي قدمتها السعودية والامارت للمجلس العسكري وقتها، أو عبر إسناد دول الشمال العالمي ومؤسساته النقدية لسياسات التحرير الاقتصاديّ والإشادة بها رغم رفضها شعبيا وأثرها الواضح في تعميق الفقر وإضعاف الاقتصاد. ونذكر في هذا الصدد التغريدات الوقحة للسفير البريطاني في السودان، في عام 2020 والتي دعا فيها إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية في محاولة لمنح الشرعية لسياسة أصرّت الحكومة الانتقالية على تنفيذها بالرغم من أنها كانت سببا في خروج الناس ضد النظام السابق. 

بالمحصلة أضعفت مجمل هذه التدخلات الخارجية الصوت الشعبي في السودان وقوضت إمكانيات التغيير الثوري فيه.  العامل الإضافي الأهم هو غياب الحزب الثوري القادر على مراكمة دروس الحراك الشعبي. فلجان المقاومة رغم كونها تنظيمات شعبية مبتكرة، فإنها أثبتت قوتها إلا أنها افتقرت – خاصة في بداياتها – إلى النظرية السياسيّة الثوريّة مما جعلها عاجزة عن مواجهة العنف والبروباغاندا الرجعية للثورة المضادة.

المفكرة القانونية: ما هي استراتيجيات حميدتي والبرهان في هذه الحرب؟ ولماذا عجزت المبادرات العربية التي أطلقت لوقف إطلاق النار (سعودية، مصرية،…) عن تحقيق ذلك؟

النيل: الواضح من أحداث الحرب بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية أن حياة المدنيين، بل وحتى حياة الجنود ليستا ضمن أولويات الجهات صاحبة القرار في الأطراف المتحاربة. وهو أمر يمكن رؤيته من خلال تصريحات القادة والتي تركّز على السيطرة على المناطق العسكريّة، أو ما يسمّونه بالجهات السياديّة، كدلالات على إحكام نفوذها على البلاد مع تهميش أثر القتال على حياة الناس. وهو ما يتطابق مع شهادات السكان عن تجربتهم في مناطق الحرب حيث تأتي النيران على المواطنين بشكل كبير وقد لا تحدث أي أضرار على الأطراف المسلحة. كما توضح عمليات النهب والقتل المتكررة من طرف قوات الدعم السريع أن النهب استراتيجية مركزية في طريقة عملها ومكافأتها لأفرادها وليست مجرد أخطاء أو انحرافات. 

عمليا كسب الجيش تأييدا شعبيا كبيرا في خضم الحرب، التي استخدمها كبروباغندا للتجييش الوطني عبر ربط انتصاره بمفهوم “كرامة المواطن”. وهو تأييد يناقض الرفض الشعبي الكبير الذي كانت تجده جميع اشكال مشاركة العسكر فى الحكم قبل الحرب. أما الدعم السريع فقد كسب سيطرة واسعة على الأرض وبعض العلاقات الإقليمية الداعمة له. الطرفان إذا لا دواعٍ لديهما لإيقاف الحرب التي تدر عليهما بالمكاسب خاصة بالنظر لعدم اكتراثهم بأثرها على المدنيين. 

على الصعيد الاقتصادي، ما زال السودان يصدر الذهب والمواشي والمحاصيل الزراعية بكميات كبيرة والتي ترجع عوائدها لدعم اقتصاد الحرب لصالح الطرفين. وعليه لم تتضرر مصالح النخب الداخلية والخارجية بالحرب، لا بل إن بعضها يسعى إلى إذكائها حفاظا على نفاذه إلى الثروات الطبيعية باسعار رخيصة (مثل المياه والثروة الحيوانية).

المفكرة القانونية: بخصوص التطورات الميدانية الأخيرة للصراع، من هو الطرف الغالب اليوم؟

النيل: التطور الكبير الذي حدث مؤخرا هو سيطرة القوات المسلحة السودانية على معظم أو كل العاصمة – برغم أن المعلومات متضاربة حول وضع تخومها – مما أدى إلى خروج قوات الدعم السريع الموجودة بها منذ أبريل 2023. أهمية هذا التغيير بالنسبة للأطراف المتحاربة يأتي من مركزية العاصمة نتيجة لنموذج تنمية مركزي تاريخياً في السودان، بالإضافة إلى حقيقة أنه ولفترات طويلة عرفت الدولة الاستقرار بسيطرتها على الخرطوم وولايات الوسط، بغض النظر عن الحروب المتتالية في الأطراف ونفوذ حركات مسلحة على مناطق مختلفة. 

هذا التحول يعني بالنسبة لسكان أرض السودان بعض الانخفاض في منسوب العنف المباشر والفوضوي التي فرضها الدعم السريع، عبر حالات القتل والاغتصاب والنهب المتكرر بالإضافة  كما يعني الإفراج عن مئات المعتقلين الذين كانوا يعانون من أوضاع بائسة. بالمقابل، أدّت سيطرة الجيش على الخرطوم إلى ظهور أشكال أخرى من العنف من مثل ما نراه الآن من تصفيات خارج إطار القانون للمتهمين بالتعاون مع الدعم السريع، تجري أحيانا على أسس إثنية، وكذلك الاعتداءات على لجان المقاومة، بل وحتى على غرف الطوارئ التي قامت بإطعام الناس وتقديم الخدمات لهم طيلة العامين الماضيين بينما أحجمت الأطراف المتحاربة عن تحمل أي مسؤولية تجاه المدنيين في مناطق نفوذها. سيطرة الجيش على الخرطوم أدت أيضا إلى ارتفاع الأصوات الداعمة له والمطالبة بالمزيد من القمع العسكري تحت غطاء توفير الأمن. 

شخصيا، لا أعتقد أن تحديد الطرف المنتصر في الحرب الدائرة اليوم هو السؤال الأهم بالنسبة لعامة الناس. هذا السؤال بالتأكيد ذو معنى من الناحية التكتيكية فيما يتعلق بالتفكير في كيفية مقاومة الجيش أو الدعم السريع، حيث تختلف طرق جرائمهم وعنفهم وكذلك إمكانيات وسبل مقاومتهم. بالمقابل السؤال الأهم، إذا ما وضعنا نصب أعيننا مصالح الناس، هو أثر أي انتصار في إمكانية تحقيق العدالة للسكّان. سيطرة الجيش على الخرطوم أدى إلى تغيير شكل معركة السعي إلى العدالة، حيث زاد من وقع بروباغاندا الجيش، وغير من طبيعة المجموعات التي تواجه أعلى درجات الخطر في الخرطوم. أما طبيعة المعركة بشكل عام فما زالت على حالها؛ قائمة بين من جهة نخب مسلحة وغير مسلحة تمارس أشكالًا مختلفة من القمع والعنف تجاه الناس، ومن جهة اخرى شعب له تاريخ ثوري قريب وقدرات تنظيمية قادرة على الدفع بثورة شعبية إلا أنها تتناقص مع الزمن وتحت وقع أهوال الحرب.

المفكرة القانونية: اكتشفنا زمن الثورة قوة تقاليد التنظيم الذاتي الشعبي في السودان وزخم الحراك الشبابي والنسائي في الأحياء. ماذا بقي اليوم من كل ذلك؟

النيل: بالتأكيد كانت قوة التنظيمات الشعبية هي المكسب والفاعل الأكبر للثورة السّودانيّة. مكنت هذه البنى والخبرات التنظيمية جموع السودانيين بعد الحرب من تشكيل أجسام شعبية لتقديم الخدمات للمتضررين في مناطق القتال ومناطق النزوح. فبرزت غرف الطوارئ والمطابخ الجماعية كأجسام شعبية يقوم عبرها المجتمع بتقديم خدمات العلاج والغذاء والمأوى لأفراده، وتطورت هذه الخدمات منذ عامي الحرب الاولى لتشمل رعاية الأطفال والتعليم وغيرها. تعد هذه الممارسات في الإدارة الشعبية للخدمات أهم ما يقي الشعب السوداني من فظائع الحرب حتى الآن. ومن الممكن أن تشكل مستقبلا منصة لتجذير مفاهيم الحكم الشعبي، في هذه الحالة ستعرف الأطراف المتحاربة تقلصا في مساحة الدعم الشعبي لها وحينها فقط ستواجه خسائر حقيقية. اليوم لا يتحمل الخسائر سوى سكان السودان من المدنيين وكذلك صغار الجنود الذين يتم التضحية بهم، ناهيك عن آلاف المستنفرين الذين خدعتهم بروباغندا الحرب فانضموا لأطراف القتال المختلفة والمتزايدة مؤخرا مع دخول ميليشيات جديدة إلى الحرب إلى جانب أحد طرفيه. إمكانية حدوث ذلك مرتبطة في اعتقادي بشكل كبير بوجود تنظيم سياسي ثوري يدفع نحو ذلك.

  • باحثة وكاتبة سودانية نشرت لها مقالات على منصات الجزيرة انكليزي، الاشتراكيين الثوريين، معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط وغيرها.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، السودان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني