“
تُعدّ ابتهال عبد اللطيف من الأعضاء البارزين صلب هيئة الحقيقة والكرامة. وقد ترأست لجنة المرأة المنشأة داخل الهيئة، وهي من اللجان التي برزت أعمالها على مستوى جلسات الاستماع العلنية بشكل جلي. كما تميزت بمواقفها النقدية للهيئة، مع التزامها بالحفاظ عليها خشية على حقوق الضحايا واستحقاقات المسار. وعليه، كان من المهم إجراء حوار مع عبد اللطيف بشأن هذه التجربة (المحرر).
المفكرة: ما هي المعايير التي اعتمدت فعليا في اختيار “أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة” وأنت منهم؟
عبد اللطيف: كما هو معلوم، يعدّ نص القانون الأساسي التونسي الخاص بالعدالة الانتقالية في عمومه من أفضل النصوص القانونية التي تمّت صياغتها في الموضوع، وذلك بفضل حسن الاطلاع على التجارب السابقة ولوضعه في إطار تشاركي قوامه الحوار. وقد ضمن هذا القانون تمثيلية كبرى لأعضاء هيئة الحقيقية الخمسة عشر باعتماد معيارين أولهما التخصص.
كما أقدر أن المجلس الوطني التأسيسي انتخب أعضاء الهيئة بمسؤولية ووفق قواعد شفافة. أنا شخصيا كنت قبل انتخابي رئيسة لجمعية نساء تونسيات وهي جمعية حقوقية تأسست بعد الثورة مباشرة وعملت على ملف المرأة ضحية الاستبداد السياسي. وللتاريخ، كانت تلك الجمعية أول جمعية جمعت ملفات للضحايا من النساء وأول جمعية نظمت جلسة استماع علنية للضحايا من النساء في شهر أفريل 2012. أنا أظن بالتالي أني بنشاطي في المجتمع المدني كنت من أول من عمل على العدالة الانتقالية بشكل منهجي.
وبتقديري، كان من الممكن تحسين آلية الاختيار، لو تمّ استماع المجلس الوطني التأسيسي للمترشحين قبل انتخابهم. فلو تم ذلك، لكانت جهة الاختيار دققت في تلاؤم مزاج الأعضاء مع المسؤولية المطلوب منهم.
المفكرة: ترأست صلب هياكل هيئة الحقيقة والكرامة لجنة المرأة. ما سبب إنشاء هذه اللجنة؟
عبد اللطيف: هنا استفدنا كثيرا من دراسة التجارب المقارنة التي كشفت لنا أن الطبيعة المحافظة للمجتمعات تعيق ولوج المرأة الضحية للعدالة الانتقالية من خلال مؤسساتها ومساراتها وأردنا أن نؤسس لتمييز إيجابي هدفه نزع الظلم الذي يسلط على المرأة الضحية.
كان من أهداف هذه اللجنة رفع التهميش عن المرأة. كما كان من دورها كشف الانتهاكات التي تعرضت لها المرأة وتوثيقها ورد الاعتبار لها وتخليد نضالها حفاظا على قيم المجتمع التعددي الديمقراطي وطلبا لإصلاح اجتماعي.
فالمرأة الضحية كانت تتعرض لذات الانتهاكات التي يتعرض لها الرجل، ولكنها كانت فضلا عن ذلك تتعرض لانتهاكات مردها نوعها الاجتماعي سواء من الجلاد الذي ينتهك حرمتها الجسدية أو ينغص عليها أمومتها أو المجتمع الذي يحملها مسؤولية ما تعرضت له من انتهاك ويسلط عليها وصما يمنعها من تجاوز محنتها. إذن كان هناك انتهاك خصوصي للمرأة كما هناك أيضا استعمال للمرأة في تعذيب أسرتها من خلال المس بالقيمة الاجتماعية للمرأة وهذا لا يبرر استحداث اللجنة بل يفرضه.
المفكرة: ما هي أهم الأعمال التي تحققت في لجنة المرأة؟
عبد اللطيف: خلال الفترة الأولى من عمل الهيئة على تلقي ملفات الضحايا أي تحديدا من 15-12-2014 إلى 15-06-2016، لاحظنا أن نسبة الملفات المتعلقة بالنساء ضحايا الانتهاكات لم تتعدّ نسبة 5% من الملفات الجملية ممّا جعلنا نتنبه لدور حاجز الصمت في ذلك، هذا الحاجز الذي كان اختياريا طوعيا لدى بعض الضحايا وقسريا مفروضا من العائلة والمحيط الأسري عند الجانب الآخر.
تبينا من خلال العلاقة المباشرة بالضحية المرأة أن الصّمت الاختياري كان نتيجة لوقع الانتهاكات الجسيمة والصّدمات النفسيّة والرّغبة في طمس الذّاكرة ونسيانها والرّهبة من رعب استعادة تلك الوقائع والأحداث التي خلفت آثارا نفسيّة واجتماعيّة تتفاوت من حيث جسامتها، كذلك الخوف من ردّ فعل المجتمع مع انعدام التّأهيل النفسي طيلة فترة معايشة الانتهاكات ومخلّفاتها. أمّا الصّمت القسري فيعود إلى رفض أفراد العائلة خاصّة العديد من الأبناء الذين يحمّلون وزر تهميشهم للأولياء ولا يزالون مسكونين بذاكرة مثقلة بمخلّفات الانتهاكات التي شملت كلّ العائلة وليس أقلّها تغييب الوالد أو الأمّ في السّجن.
ولتجاوز هذا، عملنا مع الضحايا ومع جمعيات النساء الضحايا على تحسين المؤشرات. فكان أن انتهى عملنا إلى قبول ملفات الضحايا. وقد بلغت نسبة النساء اللواتي تقدمن بملفات 25% من الملفات الجملية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي وصلت إلى الهيئة وقد غطّت هذه الملفات جميع المراحل العمرية وجميع الحقبات الزمنية وكذلك جميع مناطق البلاد التونسية.
المفكرة: هنا لاحظنا أنه وعلى مستوى مسار المحاسبة، لم يتم احترام الخصوصية الجندرية.
عبد اللطيف: حسب أدلة إجراءات الهيئة، لا يحال ملف الانتهاك على الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية إلا متى قبلت الضحية بذلك. وفي الواقع، فان عديد النساء الضحايا لم يرغبن في الدخول في مسار المحاسبة ومرد هذا أنهن كن يرفضن إطلاع الرأي العام على ما تعرضن له من انتهاك. لا يضمن المسار القضائي للأسف السرية التي نجحنا في توفيرها للضحايا في جلسات الاستماع السري وبالتالي عزفت النساء على تفعيل حقهن في المحاسبة.
في إطار الحديث عن حق الضحايا في احترام رغبتهم وفي احترام ما يعدونه أسرارا خاصة، أريد أن أذكر وللتاريخ أن مجلس الهيئة اتخذ قرارا في آخر جلساته بتسليم الضحايا تسجيل سماعاتهم السرية. وهذا القرار كان خطيرا جدا وأظن أنه يجب التراجع عنه لكون تلك التسجيلات قد تتسرب للعموم خلافا لرغبة الضحايا وتسريبها أو تداولها دون احترام لحرمة الحياة الخاصة لمن ورد ذكرهم في الشهادات قد يؤدي لتسليط عقوبة اجتماعية للمرأة الضحية.
فضلا عن ذلك، يجدر التذكير بحصول تقصير فادح في العمل على ملف التقصي أي على مرحلة إجراء الأبحاث الممهدة لإحالة الملفات على المحاكم وهذا التقصير أدى لهذا الإخلال وغيره. تعرضت لجنة البحث والتقصي بالهيئة لهزة كبيرة أثّرت على مخرجات عملها. فقد كان في الهيئة قضاة أكفاء يشتغلون باستقلالية وكان بالإمكان أن يكون عمل التحقيق في ملفات الانتهاكات جيدا لو لم يغادروا الهيئة. إلا أن هؤلاء القضاة غادروا الهيئة بسبب اصطدامهم برئيستها وهذا ترك فراغا كبيرا. وقد خضت مع ثلاثة من زملائي في الهيئة صراعا داخلها لمحاولة الإصلاح. لكن للأسف فشلنا في ذلك.
خطأ آخر نتحمل مسؤوليته نحن كمجلس هيئة وهو أننا لم نتجه لأن نجعل التحقيق يتم بالتزامن مع جلسات الاستماع السرية. وعلى خلاف ذلك، قررنا ألا ينطلق التحقيق إلا بعد إتمام السماعات السرية. لقد عملنا كما لو كنا هيئة سماعات ونسينا لمدة هامة زمنيا المحاسبة. وكان علينا أن ننظر بشكل متعدد الأوجه: لو تم ذلك لكان مسار المحاسبة نجح بشكل أفضل.
المفكرة: ما تحدثنا عنه من فشل في مسار المحاسبة لا يحجب في الواقع نجاحا كبيرا في جلسات الاستماع العلنية حيث كان للمرأة الضحية دور بارز.
عبد اللطيف: خلال التحضير للجلسات العلنية، طرحنا داخل الهيئة السؤال حول شكليات مشاركة المرأة الضحية فيها وخصوصا النساء اللواتي تعرضن لانتهاك جنسي. طرحت هنا ثلاث رؤى أو تصورات: أولها أن تظهر المشاركات بشكل علني مع كشف هويتهنّ والثاني أن يدلين بشهادتهن من وراء ستار والثالث إلى أن يظهرن مع إخفاء الهوية والتنكّر بشعر مستعار أو بنظّارات مع تغيير الصّوت. في إطار الممارسة الديمقراطية، قررنا في لجنة المرأة ترك الخيار بخصوص شكل السماعات العلنية لمجتمع النساء الضحايا. فنظمنا جلستي عمل مع عينتين ممثلتين للمرأة الضحية، الأولى بصفاقس تخص جهة الجنوب الثانية بتونس وتخص جهة الشمال. طرحنا الموضوع للنقاش العام ثم وزعنا على المشاركات استبيانا تعلق بالمشاركة في جلسات الاستماع. كشفت نتيجة الاستبيان عن نسبة هامة من النساء يرغبن في المشاركة في جلسات الاستماع بلغت في عينة تونس 60% فيما كانت في عينة صفاقس في حدود 40%. وطبعا نفهم تمايز النسبتين باعتبار الاختلاف النسبي في درجة تحرر المحيط الاجتماعي والأهم من هذا أن كل من أبدين رغبة في المشاركة تمسكن بتقديم شهادتهن بوجه مكشوف.
وهنا وبفضل المرأة الضحية نجحنا في أن نحقق تمييزا إيجابيا في حضور المرأة في جلسات الاستماع العلنية. إذ وفي ست جلسات خصصت للضحايا تقدم 33 ضحية بشهادته كان منهم 17 امرأة توزعن بين ضحايا مباشرين للانتهاكات أو ضحايا بالتبعية أي ضحايا لانتهاك تسلط على الأب أو الزوج أو الابن أو الأخ كما كان صدق المرأة الضحية وقوة شخصيتها النضالية من أهم عوامل نجاح تلك الجلسات.
المفكرة: وكيف اخترتم تلك العينة؟
عبد اللطيف: لقد اخترناها من بين الضحايا اللواتي قبلن الإدلاء بشهاداتهن أولا وباعتبار معايير أساسية هي: أولا جسامة الانتهاك وأهميته. ثانيا أن تكون الانتهاكات ثابتة بشكل قطعي. ثالثا التوازن النفسي والقدرة على التبليغ ورابعا احترام التوزيع الجغرافي للضحايا وخامسا تمثيل الضحايا لكل الحقبات الزمنية.
المفكرة :هل أحاطت الهيئة بالنساء الضحايا اللواتي أدلين بشهادتهن في جلسات الاستماع العلنية لحمايتهن مما سبق وتحدثت عنه من آثار محتملة مع المحيط الأسري والاجتماعي
عبد اللطيف: للأسف نحن كهيئة قصرنا في التواصل مع الضحايا اللواتي أدلين بشهادات علنية. وبدونا في نظرهن كما لو أننا استفدنا في عملنا من صورتهن ومأساتهن ثم تركناهن. قولي هذا لا ينفي أن لجنة المرأة وبإمكانيات محدودة أنجزت دراسة تستهدف النساء والرجال الذين أدلوا بشهادات علنية في جلسات الاستماع انطلاقا من عينة ممثلة طبعا.
الدراسة كشفت الآثار الإيجابية التي كانت هائلة لجلسات الاستماع العلنية: فقد تمّ الاعتراف من المجتمع للضحية بما تعرض له من انتهاكات. من أمثلة ذلك أن مجموعة من الشباب من كل البلاد التونسية وانطلاقا من مبادرة على الفايسبوك تجمعوا وتوجهوا لمنزل الضحية بسمة البلعي ليعتذروا لها وليقولوا لها ما معناه “نحن نعترف بمسؤوليتنا عن الانتهاك الذي تعرضت له لاختيارنا الصمت يوم كنت أنت تتعذبين”. أيضا تلقّى الضحايا اتصالات هاتفية ومباشرة من أعوان أمن اعتذروا لهم عما صدر عن زملائهم من ممارسات، فكان ذلك نوع من المصالحة النفسية بين الضحية وجهاز الأمن الذي لم يعد في نظره جهاز جلادين. أيضا ومن الضحايا من قالت أنها قبل الجلسات العلنية كانت علاقتها بزوجها رتيبة بفعل ما خلّفت الانتهاكات من آثار. ولكن لاحقا وبعد الجلسات عادت جذوة الحب والحياة لتلك العلاقة بفعل المصارحة وبفعل تفهم الزوجين كل منهما لما مر به الآخر. وربما من أجمل ما قال الضحايا ما ورد على لسان إحداهن من قول: “كنت أفضّل الصمت فأصبحت أريد الكلام”.
إلا أن ثمة آثارا سلبية لجلسات الاستماع العلنية. فقد بلغنا حصول حالة فراق بين ضحية وشخص كانت سترتبط به على خلفية شهادتها، إلا أن الضحية كانت رغم ذلك سعيدة بإداء هذه الشهادة. هناك أيضا من الضحايا من عبرن عما انتابهن من حيرة وخوف بعد الجلسات وما كشفته لأبنائهن من انتهاكات تعرضن لها. أكيد قصرنا كثيرا في حق الضحايا ولم نوفر لهن الإحاطة الواجبة.