ألان غريش صحفي وكاتب فرنسي من أصل مصري، رئيس تحرير سابق للدورية الشهرية الفرنسية لوموند ديبلوماتيك. أسّس سنة 2013 الموقع الإلكتروني أوريون 21، أحد المنابر القليلة في فرنسا المناصرة للقضية الفلسطينية والمناهضة للإسلاموفوبيا. نشر العديد من المقالات والكتب حول الصراع العربي الإسرائيلي. آخر كتبه فلسطين تأبى الموت.
المفكرة القانونية: هل لك ألان غريش أن تقدم نفسك وتشرح لنا سبب مركزية القضية الفلسطينية في التزاماتك النضالية وكتاباتك؟
ألان غريش: ولدتُ في مصر سنة 1948 في عائلة يمكن وصفها بالمختلطة. والدتي كانت من أصول يهودية روسية، ولكنها ولدت في سويسرا ثم أتت إلى مصر في ظل ظروف خاصة لن أفصّلها الآن. والدي، السيد غريش، كان قبطياً مصرياً. كنا نحمل إذاً الجنسية المصرية، وفي الوقت نفسه، كانت ثقافتنا فرنسية لغتنا الأم كانت الفرنسية. كنا نتكلم العربية كالخواجات مثلما درج القول. نشأنا في فترة حاسمة من تاريخ مصر: فقد ولدت سنة 1948 وأولى ذكرياتي السياسية كانت حرب السويس ضد مصر.. والدتي كانت شيوعية وكنّا مسيّسين إلى درجة كبيرة وكنّا من المؤيّدين المتحمسين لسياسة جمال عبد الناصر في تصديه للإمبريالية الأميركية والبريطانية.
في سنة 1962، ولأسباب مختلفة، غادرنا مصر وأتينا إلى فرنسا. وانتسبتُ إلى اتحاد الشباب الشيوعي وأصبحتُ فيما بعد مناضلاً سياسياً حافظت بطبيعة الحال على اهتمامي بكل ما كان يجري في مصر، خاصة وأن تجربتي الأولى في السياسة الفرنسية، كانت حرب يونيو 67 التي اقترنت بموجة تأييد لإسرائيل أثارت سخطي بصفتي شاباً مصرياً وساعدتني أيضاً على اتخاذ موقف سياسي. كنا في مرحلة كانت فيها وسائل الإعلام مؤيدة إلى حد كبير لإسرائيل في حين أن الجنرال ديغول رئيس البلاد آنذاك، كانت لديه مواقف إيجابية نوعاً ما، حيث أدان العدوان الإسرائيلي. في هذا الإطار، بدأ اهتمامي يكبر بالقضية الفلسطينية ثم أكملت مسيرتي، فدرست الرياضيات وكنت عضواً دائماً لفترة من الزمن في الحزب الشيوعي ثم أعددتُ أطروحة دكتوراه عن منظمة التحرير الفلسطينية ثم أصبحت صحافياً، طبعاً مع التركيز على منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
المفكرة القانونية: في كتاب فتح الثورة الفلسطينية واليهود الذي كتبت مقدمته تستعرض حقبة هامة من تاريخ العلاقة بين القضية الفلسطينية ومثقفين فرنسيين من أمثال مكسيم رودنسون وجاك بيرك وجان جينيه والسينمائي جون لوك غودار. هل لك أن تحدثنا عن أهمية الوثيقة التاريخية المنشورة في هذا الكتاب وكذلك عن السياق الذي صدرت فيه في عام 1970 في فرنسا؟
غريش: كان لهذا النص أهمية خاصة بالنسبة لي عندما كنت أعدّ أطروحتي عن منظمة التحرير الفلسطينية فهي تناولت مسألة منظمة التحرير الفلسطينية والدولة الفلسطينية أي الطريقة التي تخيّلت بها المنظمات الفلسطينية قبل سنة 67 وبعدها، الدولة الفلسطينية ومسألة التحرير. وهذا النص، أي الثورة الفلسطينية واليهود، قد أبصر النور في باريس، لأن حركة فتح بعد سنة 1967 كانت قد فتحت مكتبها الأول في خارج المنطقة العربية. شكّلت باريس صلة الوصل بينهم وبين مجموعة من المفكرين الفرنسيين، بمن فيهم مفكرون يهود ينتقدون بشدّة إسرائيل، معادون للاستعمار وللإمبريالية. فتولد الوعي لديهم باستحالة التطرّق إلى مسألة إسرائيل من دون التطرّق إلى مسألة اليهود، وأنه هنالك، إذا جاز التعبير، إرث لهذه المسألة في أوروبا باعتبار مسؤوليّة الأوروبيين في الإبادة الجماعية لليهود. وانطلاقاً من هذا الجدال تعيّن على الفلسطينيين التفكير في مستقبل فلسطين ومستقبل المستوطنين اليهود في فلسطين. فحتى ذلك التاريخ، كان الحديث يدور عن تحرير فلسطين تماماً كما قامت جبهة التحرير الوطني الجزائرية بتحرير الشعب الجزائري. فكان ثمة اعتقاد سائد بأن المستوطنين سيرحلون…
سنة 67 شهدت حالة من اليوفوريا الثورية الفلسطينية والعالمية: ففي خضمّ حرب فيتنام والنضالات المسلّحة كان الانطباع السائد هو أن السلطة تأتي من فوهة البندقية، وأننا سننجح وأنه علينا ً الاستعداد لما سيحدث ًومن المهم طبعاً معرفة مصير مئات الملايين من اليهود الإسرائيليين الموجودين في فلسطين. من هنا نشأت فكرة الدولة الديمقراطية التي اعتنقتها أيضاً فتح التي كانت تتوهم آنداك بأن النصر قريب جداً. حين نعود إلى نصوص حركة فتح في سنتي 68 و69، نرى أن منظّريها كانوا يسترشدون بنماذج الحروب الثورية كما ابتكرها الفيتناميون والصينيون ضمن مراحل تحرير مختلفة، وكانوا يعتبرون أننا في المرحلة الثالثة والرابعة أي تلك التي تفضي الى التحرير وهو ما دفعهم بطريقة أو بأخرى على مواجهة مشكلة اليهود بإجراء تحول جذري في الموقف واعتبار أن اليهود قد استقروا هنا وأنهم لن يعودوا إلى بلدانهم. فالعديد منهم لا يملكون مستقرا وعلينا إذاً أن نسوي أوضاعهم. وعليه نشأت فكرة الدولة الديمقراطية التي يتعايش فيها كل من اليهود والمسلمين والمسيحيين. لم تكن هياكل هذه الدولة واضحة المعالم. كان هناك كثير من الالتباس في هذا المشروع إلا أنه شكّل ثورة فعلية من حيث إنه قد أعاد الاعتبار للواقع على الأرض. يعود ذلك إلى أن هؤلاء المسؤولين الفلسطينيين كانوا في فرنسا وكانوا على اتصال بيهود معادين للصهيونية والاستعمار علاوة على أنّ الحركات المؤيدة للشعب الفيتنامي في الولايات المتحدة، كان لليهود فيها دور مهم. هذان السببان دفعهم إلى اعتماد رؤية أكثر دقة حول المسالة اليهودية من حيث التمييز بين اليهودي والصهيوني.
المفكرة القانونية: مثل 7 أكتوبر مفاجأة صادمة للدولة الصهيونية والإدارة الأميركية، رغم ما يقال بأن النظام المصري قد أبلغ إسرائيل بإمكانية حدوث ذلك. كيف تفسر جهل الكيان الصهيوني كما في الغرب أن في فلسطين شعبٌ مصرٌّ على المطالبة بحقوقه؟
غريش: أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن نفهم أمرا وربما أن نعود إلى حرب أكتوبر 73. إذ أن عشيّة هذه الحرب كان لدى أجهزة المخابرات الإسرائيلية جميع المعلومات عن الهجوم المصري والسوري المحدق، إلّا أن المسؤولين السياسيين لم يصدقوا ذلك. كانوا يعتقدون أنهم قاموا في 67 بتصفيتهم وهم عاجزون عن خوض حرب جديدة. المسألة هنا مماثلة: كان الإسرائيليون يعتقدون أن الفلسطينيين منقسمون فيما بينهم، بين حركة فتح وحركة حماس وأن بمقدورهم خوض حرب كل بضع سنوات يقتلون فيها عدداً من قياديي حماس. وبالنسبة إلى القادة الغربيين كانوا يعتقدون أن القضية الفلسطينية قد انتهت رغم تسليمنا بوجود الشعب الفلسطيني. إذاً المفاجأة لم تكن فقط عسكرية وإنما أيضاً سياسية. أذكّر هنا أنه في سبتمبر 2023 أي قبل بضعة أسابيع من هجمات حماس وحلفائها، كان نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كما جرت العادة في كل عام، وعرض خريطة الشرق الأوسط بعد عملية السلام ولم تكن فلسطين موجودة على الخريطة وكانت التحضيرات جارية لاتفاق من دون شك بين السعودية وإسرائيل. اللافت للنظر بالنسبة لي هو تعامي السياسيين سواء الإسرائيليين أو الأوروبيين. إذ كيف يمكننا أن نتوقع من شعب يعيش تحت الاحتلال أن يقبل بذلك؟ لم يتوقع أحد هجوم 7 أكتوبر بالمعنى الحرفي لكننا كمتابعين للقضية الفلسطينية كنا نتوقع حدوث ربما انتفاضة.. كنا نعلم أن أمراً ما سيحدث وأن الوضع لا يمكن أن يستمرّ على ما هو عليه هنالك.
المفكرة القانونية: هناك أوجه شبه كثيرة بين الحرب الاستعمارية التي خاضتها فرنسا ضد الشعب الجزائري وجبهة التحرير الجزائرية والحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته. كيف ترى ذلك؟
غريش: انطلاقا من الحرب التي خاضتها فرنسا أولاً في الهند الصينية ولاحقا في الجزائر، نشأت نظرية “مكافحة التمرّد”. ففي مواجهة نظريات ماو تسي تونغ وجياب، الجنرال الفيتنامي التي بيّنت كيف يمكن لشعب يرزح تحت الاحتلال أن يناضل وقدمت مختلف مراحل هذا النضال وكيفية الانغماس وسط السكان مثل “السمك في الماء”، قام منظرو الجنرالات الذين شاركوا في هذه الحروب بوضع نظريات حول كيفية خوض الحروب ضد الثورات، كأن يتم مثلاً فصل الشعب عن الثوار من خلال إعادة تجميع السكان. وهذا ما قامت به فرنسا في الجزائر إذ أنشأت معسكرات كبرى لتجميع السكان بالتوازي مع خوض حرب لا تفرّق بين المدنيين وحاملي السلاح. يمكنني القول إذا إن عدداً من أوجه هذه الحرب الاستعمارية كانت حاضرة في فرنسا أي استخدام القوة، والتعذيب المنهجي..
في الوقت نفسه، هنالك فوارق… يمكن القول إن الجزائر وفلسطين لديهما قاسم مشترك وهو الاستعمار الاستيطاني. غير أن ما يميّز فلسطين عن باقي حالات الاستعمار الاستيطاني هو أن المستوطنين لم ينجحوا في إبادة السكان الأصليين مثلما جرى في أميركا الشمالية، أو كندا أو أستراليا أو نيوزيلندا. ولكن في المقابل، تمكنوا من خلق توازن ديمغرافي قوي بمعنى أنه بشكل عام، ثمة شخص مستوطِن مقابل كل مستعمَر. وإذا أضفنا الفلسطينيين الذين يعيشون في المخيمات تصبح النسبة واحد مقابل اثنين… القوة الديمغرافية التي كانت في الجزائر مهمة جداً. كان هنالك 10 جزائريين مقابل كل شخص فرنسي أو حتى في جنوب إفريقيا: هذه ميزة لا يمتلكها الفلسطينيون وهي أيضاً عنصر مهم لفهم المأزق الحالي والصعوبات التي تعترض عملية خلق توازن قوة عسكري وسياسي في مواجهة إسرائيل. فقد واجهوا هذه المشكلة عندما انخرطوا في الكفاح المسلح خاصة بعد سنة 67 فقد واصطدموا أيضاً بهذه الحدود.
إذا هناك تشابه بين حالتي الجزائر وفلسطين بما في ذلك على مستوى النظريات الاستعمارية التي تأصلت في المجتمع الفرنسي والمجتمع الإسرائيلي، ولكن ثمة فوارق أيضا لا يجب إهمالها.
المفكرة القانونية: كما تبين في كتابك الأخير “فلسطين شعب يأبى الموت”، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وبتأثير من فرنسا، كان الغرب يدافع، في العلن على الأقل، على القرار 242 وضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في 1967. اليوم أصبح الحديث عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب. هل لك أن تعود إلى أسباب هذا التحول؟
غريش: لا يتعلق الأمر في الحقيقة بموقع الغرب ككل. الأميركيون دعموا دائما إسرائيل بشكل غير مشروط. في حرب 1967. بالمقابل، اتخذت فرنسا بفضل الجنرال ديغول موقفاً متميزا، ألا وهو إدانة العدوان الإسرائيلي والمطالبة بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. كان موقفاً فريداً من نوعه مقارنة حتى ببلدان أخرى في أوروبا. منذ ذلك الحين، نشأت دبلوماسية فرنسية حقيقية. لم تكن قائمة على العداء لإسرائيل إذ أن ديغول كان صديقاً لإسرائيل وكان يتبادل المراسلات مع بن غوريون وهو غير معادٍ على الإطلاق للصهيونية. ولكنه كان يعتقد بوجوب إيجاد حلّ سياسيّ قائم على انسحاب إسرائيل. ثم قام خلفاؤه بتطوير هذه السياسة وتوصلوا إلى استنتاج أنه لا يمكن التوصّل إلى حلّ من دون الاعتراف بحقّ إسرائيل في السلام والأمن ومن دون الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ومن دون التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. كانت فرنسا قادرة في العام 1980 على توحيد الأوروبيين. كانت حينها المجموعة الأوروبية تضمّ تسعة بلدان فقط. وقد لعبت فرنسا دورا فاعلا في إعلان البندقية وكانت على قناعة بوجوب عدم الانحياز لإسرائيل. وبشكل من الأشكال، ساعد حينها الأوروبيون منظمة التحرير الفلسطينية على الساحة الأوروبية وساهموا في توسيع الاعتراف بها حتى من قبل إسرائيل والولايات المتحدة. ثم جاءت فترة اتفاقيات أوسلو التي كان مصيرها الفشل.
ثم جاء تاريخ 11 سبتمبر 2001 ليشكل نقطة تحول في السياسات الغربية، ليس فقط من حيث النظرة إلى القضية الفلسطينية وإنما كذلك إلى العالم والتي أضحتْ تتلخّص بفكرة الحرب على الإرهاب. إذاً أدت المرحلة الأولى من هذه الحرب إلى اجتياح العراق وأفغانستان، والتي كانت كارثية. اعتقدنا أن الغرب سيستخلص العبر من هذه الكوارث. ولكن اليوم مع غزة ندرك أن ذلك لم يحدث على الإطلاق. إذ أن القراءة السائدة اليوم في فرنسا هي بمثابة تحوّل جذري عن الموقف التقليدي. فهي تعتبر أن ما يجري ليس حرباً بين شعب يعيش تحت الاحتلال وله الحق في المقاومة ودولة محتلّة وإنما هي جبهة من جبهات الحرب على الإرهاب وهذا أمر مقلق. طبعا فرنسا لم تعدْ تمتلك الوزن الذي كان لها، حتى اقتصادياً، كما كانت سنة 1967 وهي لم تعد قوة مهمة في العالم. وقد أصبحت اليوم تبرّر في النهاية الإبادة الجماعية وهذا أمر شديد الخطورة.
نحن نعيش حربا أشبه بحرب حضارات. حرب تخاض في الواقع ضد العالم الإسلامي، حرب خطيرة وبلا نهاية. فعدا أنها تعزل الغرب عن العالم بأكمله، فهي تخلق انقسامات وتصدّعات داخل البلدان. ونحن نشعر بذلك بشكل خاص في فرنسا حيث نلحظ هجوماً حقيقيا ضدّ المسلمين، بمعنى أن تجريم المسلمين قد أصبح اليوم محوراً من محاور سياسة إيمانويل ماكرون. فجيل السياسيين الذين نشأ على نهج ديغول أو في ظلّ ما يُعرف بالسياسة العربية لفرنسا قد اختفى شيئاً فشيئاً. ماكرون، وحزبه واليمين واليمين المتطرف وجزء من اليسار يدعمون إسرائيل اليوم ويعتنقون رؤية ماهوية للعالم. فالجمهوريون على سبيل المثال، الذين يشكلون حزب اليمين المعارض ووريث الديغولية اليوم، يطالبون بنقل السفارة الفرنسية من تل أبيب إلى القدس. والأمر لم يثر أي نوع من الجدل برغم أنه يشكل تغييرا جذريا بالنسبة إلى الموقف الذي كان سائداً منذ 20 سنة. ومع ذلك لم تجر أي مناقشات. هنالك فقط اجترار لفكرة أن إسرائيل هي حليفتنا وتحذير من المعاداة للسامية والإبادة الجماعية.
المفكرة القانونية: كشفت حرب الإبادة على غزة قوة تأثير البروباغندا الإسرائيلية على وسائل الإعلام والإعلاميين في فرنسا إلى درجة أن بعضهم لا زال يردد كذبة “الرضع الذين قطعت حماس رؤوسهم”. كيف تفسر هذا التواطؤ الإعلامي؟
غريش: ثمة عوامل عدة نفسر ذلك والأمر باعتقادي ليس مجرد تأثير إسرائيلي من الخارج على وسائل الإعلام وإنما جزء كبير من الصحفيين أو بجميع الأحوال من القيّمين على وسائل الإعلام يتفقون مع هذه الرؤية للعالم التي أشرت إليها سابقاً، وهي أن الغرب في حرب على الإرهاب وعلى الإسلام المتطرف. سياسة إسرائيل لا تلقى معارضة إيديولوجية في صفوف الصحفيين، بل هناك تلاقٍ في الآراء وهنالك أيضا المكبوت الاستعماري. في هذه الحرب، المبدأ هو أن إسرائيل هي ديمقراطية وهي تقول الحقيقة بينما العرب يكذبون وأن جميع سكان غزة هم من حماس. لا شكّ أن هذا الأمر غريب عندما نعرف مستوى الرقابة الممارس في إسرائيل على الإعلام وأن الصحافة الإسرائيلية لا تقول شيئاً عما يحدث في غزة. صحيحٌ أن هناك في إسرائيل شكل من أشكال حرية الصحافة وثمة حقائق تنشر مثل تلك التي نقلت الأضرار “الجانبية”، أو محاولات إسرائيل التحايل والضغط على المحكمة الجنائية الدولية والتي كشفتها صحيفة إسرائيلية تسمى 972 ، وهي من أكثر الصحف جراة. لكن في إسرائيل هناك انطباع عام بأنه لا يوجد قتلى مدنيون في غزة. وسائل الإعلام في فرنسا تشارك وجهة نظر إسرائيل هذه. من الطبيعي لصحفي إسرائيلي أن ينقل تصريحات العسكريين الإسرائيليين من دون التشكيك فيها، ولكن ما هو غير طبيعي هو فرض ذلك في فرنسا.
خلال حرب الجزائر، لم يكن مقبولاً من الصحفيين الفرنسيين اتهام الجيش الفرنسي بممارسة التعذيب. لكننا نعلم أنه حتى الدولة الديمقراطية، وإسرائيل هي دولة ديمقراطية أقلّه لليهود الإسرائيليين، ترتكب التعذيب والمجازر. فرنسا ارتكبت مجازر في الجزائر مع أنها كانت دولة ديمقراطية. الحديث أحياناً عن وجود لوبي يعطي الانطباع بوجود أمور سرية وهذا غير صحيح نحن أمام صحفيين متفقون مع الرأي الإسرائيلي ويمارسون نوعا من الرقابة. فأنا شخصيا ومنذ 7 أكتوبر، لم تتم دعوتي للتحدث في أي وسيلة إعلامية مهمة مثل إذاعة فرنسا الدولية، هذا شكل من أشكال الرقابة. لكن ذلك لا يمنع وجود وسائل أخرى تستمع للصوت المغاير. نحن مثلاً في صحيفة “أوريان 21” التي أتولى إدارتها قد كشفنا عدة أمور مهمة بشأن هذه الحرب. ولحسن الحظ ثمة وسائل تواصل اجتماعية تسمح أيضاً بذلك…
أنا أتابع هذه المسألة منذ 50 عاماً، ولم نشهد يوماً محاولة بهذه الشراسة لكتم أصوات المعارضة وتجريمها وجرّ المعارضين إلى المحاكم وترهيبهم ونشر حالة من الخوف. اليوم في فرنسا إذا كنت باحثاً وقلت رأيك فقد تدفع الثمن، إذا كنت تحمل اسماً مسلماً قد تدفع الثمن: إذا كنت أجنبياً، فقد تكون عرضة للترحيل. ثمة تشكيك في هذه الديمقراطية طبعاً لم يبدأ ذلك مع هذه الحرب في غزة، إذ لا بد من العودة إلى عمليات قمع الحركات الاجتماعية.