“
يحتل الحديث عن الفساد، بين الفترة والأخرى، حيزاً مركزياً في الخطاب السياسي العام، وقد اتسع هذا الحيز مؤخرا في لبنان مع انضمام مختلف الأحزاب وقوى المجتمع المدني إلى حلقة المطالبة بمكافحة الفساد. يتمحور خطاب مكافحة الفساد حول معايير قانونية، يؤثر غيابها أو عدم الالتزام بها من هذا المنطلق، في عرقلة مسيرة بناء الدولة والانتقال الديمقراطي، وفي تعويم الانتماءات الطائفية والفئوية على حساب مفهوم المواطنة والعدالة. بيد أن هذه المعايير على أهميتها، غالباً ما تتميز بطابع نظري يصطدم بأرض الواقع، فتخلق عندها هوة بين الخطاب المعياري من جهة والخصوصية السياسية التي تميز البلد من جهة أخرى.
إذاً، في ظل خطاب سياسي عام يضع موضوع مكافحة الفساد في صلب اهتماماته، لا بد من طرح العديد من الأسئلة ليس حول الجوانب المعيارية لمكافحة الفساد، إنما حول حظوظ نجاح محاولات مكافحة الفساد والحد منه في ضوء النظام السياسي القائم.
لذلك، تطلق “المفكرة القانونية” سلسلة نقاشات معمقة مع سياسيين واختصاصيين وصحافيين متابعين لموضوع الفساد، من أجل وضع خطاب الفساد في إطاره السياسي، وتفكيك علاقات السلطة التي تتحكم به والمصالح المختلفة التي تدفع به إلى الأمام في لحظة معينة، أو لغض النظر عنه في لحظة أخرى.
أجرت “المفكرة” المقابلة الثانية مع رئيس مستشاري برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لشؤون مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة في الدول العربية الأستاذ أركان السبلاني1.
المفكرة: ما هو السياق السياسي العام الذي يؤطر حالياً خطاب مكافحة الفساد؟ وكيف تفسر اهتمام الأحزاب السياسية المتزايد في مكافحة الفساد، ما هي الأهداف والدوافع؟
السبلاني: موضوع مكافحة الفساد ليس رائجا في لبنان فقط، إنما أيضاً على الصعد العربية والإقليمية والعالمية. وذلك لأنه، دولياً، هناك توجه عام لربط الفساد بقضايا الأمن والتنمية. وهذا ما تناصر من أجله “أهداف التنمية المستدامة” للعام 2030 الصادرة عن الأمم المتحدة، وما أسست له “إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد” التي دخلت حيز النفاذ في العام 2005.
أما على صعيد لبنان، فهنالك عدة عوامل ساهمت مؤخراً بتعويم خطاب مكافحة الفساد.
أولاً، الوضع المالي الضاغط والذي يتجلى حالياً بالدعوة لتبني سياسيات التقشف، حيث لم يعد ممكناً على ضوئه الاستمرار بالطريقة الاعتيادية في إدارة الشأن العام. فعلياً، الأزمة المالية الحالية ليست بالمستجدة. قبلها مررنا بأزمات أخرى، فكانت مؤتمرات “باريس- 1″، و”2″، “3”. الفرق الآن، أنه وبموازاة الخطاب حول ضرورة تقديم الدعم المالي للبنان، هنالك مطالبات خارجية داخلية بمكافحة الفساد. وبالتالي، أصبح من الصعب جداً التحدث عن الإصلاحات المالية من دون إقرار وتنفيذ استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد.
ثانياً، الوعي المجتمعي المتزايد حول أهمية مكافحة الفساد بعدما كان الأمر منذ سنوات غير بعيدة، لا يعدو كونه نقطة حوار تقني بين قلة من الخبراء في ظل غياب الاعتراف الرسمي بوجود المشكلة ومحدودية الاهتمام الفعلي من جانب المجتمع المدني بهذا الموضوع. فمثلاً، حين توجهت “الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية – (لا فساد)” في العام 1999، كما يشهد مؤسسيها، بطلب علم وخبر من وزارة الداخلية والبلديات، جابههم المسؤولون بإنكار وجود الفساد في لبنان واستهجان رغبة مقدمي الطلب بتأسيس مثل هكذا جمعية. أما الآن، وقد بدأ الناس يلمسون خطر الفساد على معيشتهم، أصبح التهرب من المسؤولية أكثر صعوبة وأصبحت القدرة على حشد الدعم المجتمعي لمكافحة الفساد أكبر من ذي قبل.
ثالثاً، الظاهر أن التوافق السياسي الذي برز في فترة ما بعد الحرب، وإضافة لدوره المفترض في تشجيع التجاوزات وحماية المتجاوزين، قد أسس لتفاهمات ضمنية حدّت من إمكانية مساءلة الأفرقاء السياسيين الرئيسيين لبعضهم البعض بما في ذلك في ما يتعلق بملفات الفساد. وهذا ما بدأت مفاعيله بالزوال بعد العام 2005، حيث شهدت هذا المرحلة انكسارا للكيمياء السياسية بين الأطراف المختلفة مما حررها من حالة التحفظ وشجعها على توجيه اتهامات الفساد بشكل علني وصريح.
رابعاً، وأخيراً، العمل المؤسسي التراكمي الذي تمّ في السنوات الأخيرة والذي بدأ ينقل مكافحة الفساد من حديث الصالونات ومنابر الإعلام إلى مسار تشاركي متخصص يضع الأسس المطلوبة ويمهد الطريق أمام عمل منتج، فأفرز على سبيل المثال قانون الحق في الوصول الى المعلومات في عام 2017 وقانون حماية كاشفي الفساد في عام 2018، وهما يحتاجان الى مزيد من المواكبة لتطبيقهما بفعالية. كما أفرز عدة مشاريع واقتراحات قوانين أخرى ربما أهمها تعديل قانون الإثراء غير المشروع، وأنتج أيضا مشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، الأولى من نوعها في لبنان، وهي تنتظر إقرارها رسميا. بالرغم من أن الرأي العام لا يسلط الضوء دائماً على هذا المسار، إلا أنه يعتبر من الركائز الأهم في ترسيخ منظومة حقيقية لمكافحة الفساد، وهي منقوصة في لبنان على مستوى النص والتطبيق.
هذا المسار الذي ترسخ بعيدا عن المزايدات السياسية والإعلامية، أصبح قويا جداً بمكان لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. وهذا ما انعكس مثلاً في البيانات الوزارية الأخيرة حيث قامت الحكومة السابقة بإدراج التزام رسمي، ولأول مرة في تاريخ الحكومات اللبنانية المتعاقبة، بوضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، ثمّ تبعتها الحكومة الحالية بإدراج بند خاص في بيانها الوزاري يلزمها بإقرار تلك الاستراتيجية تمهيدا للبدء في تنفيذها.
إذاً، كل هذه العوامل مجتمعة تساهم حالياً في تطوير وتأطير خطاب مكافحة الفساد وجعل التراجع عنه مكلفا للجميع.
المفكرة: ما هي الخطوات المتخذة حالياً، وإلى من يتوجه خطاب مكافحة الفساد (المواطن، المجتمع الدولي، الشركات الأجنبية)؟
السبلاني: لا أستطيع الحكم على النوايا. ولا أود أن أدخل في تقييم ما يقوم به السياسيون. لكن، إذا كان خطابهم يتوجه الى المجتمع الدولي، فهم مخطؤون لأن المجتمع الدولي ينتظر أفعالا ونتائج على الأرض وليس أقوالا فقط. اليوم أصبح هناك معايير ومؤشرات خاصة بمشكلة الفساد وهي التي يتم الاستناد إليها في التكلم عن واقع البلد ومدى الجدية في مكافحة الفساد من عدمها. الخطاب وحده لا يكفي. والأمر يصح بالنسبة للشركات الأجنبية كذلك، لا سيما تلك الخاضعة لموجبات قانونية في بلادها تقيّد امكانية العمل في بيئة يمثل فيها الفساد واحدا من المخاطر الرئيسة. أما إذا كان السياسيون يتوجهون إلى المجتمع اللبناني، فهذا غير كاف أيضاً في ظل ما تبيّنه المؤشرات الدولية للأسف من شبه انعدام لثقة اللبنانيين بساستهم.
لكن بعيدا عن الخوض في نوايا السياسيين، وبالمقارنة مع سقف الخطاب العالي جداً هذه الأيام، نلاحظ عموما بأنه لا يوجد خطوات كبيرة أو جدية قد اتخذت حتى الآن، وأن أكثر ما أنجز يمكن توصيفه بأعمال تأسيسية أو مبادرات غير مكتملة تحتاج الى مزيد من المتابعة. وهذا يعود لأسباب عدة وعلى رأسها النهج العام المتبع في التعامل مع الفساد. ففي لبنان، يطغو نهجان في هذا المجال: فإما النهج الاتهامي، أو حتى الفضائحي، والذي يصر على إشهار شعار المحاسبة في وجه الفاسدين المفترضين كمدخل أول لتحقيق النجاح، وإما النهج الذي يصر على رفض المنظومة السياسية كاملة كشرط أصيل للقضاء على الفساد. ورأيي من منطلق الاختصاص والتجربة، أن النهجين لا يصلحان كنقاط إنطلاق لمكافحة الفساد في السياق اللبناني، بل وحتى يؤديان ربما الى ترسيخ الفساد وبث شعور عام باستحالة مواجهته.
فمن جهة أولى، يشهر العديد من السياسيين سلاح المحاسبة. ولكن الأمر يبقى شعارا حتى اليوم، والأرجح أنه سيبقى كذلك، لأن المؤسسات الرسمية التي يفترض بها أن تفرض القانون وتطبقه غير قادرة على المحاسبة فعلا. وهذه المؤسسات غير قادرة لأسباب قد تتعلق بمحدودية مواردها: فالتفتيش المركزي مثلًا لا يمتلك جهازا بشريًّا كافيًا للقيام بمهامه. كما قد تكون غير قادرة لأسباب تتعلق بالمنظومة القانونية السائدة. فالنيابة العامة مثلا لا تستطيع التحقيق مع الوزراء والإدعاء عليهم، بل حتى أنها تحتاج إلى موافقاتهم كي تحقّق مع مرؤوسيهم، ناهيك عن قيود السرية المصرفية والخلل الفاضح في نظام التصريح بالذمة المالية ومكافحة الإثراء غير المشروع، والتي يستحيل معها القيام بتحقيق جدي لا سيما في قضايا الفساد الكبرى. فضلا عن ذلك، ثمة أسباب هيكلية تتعلق في كيفية تشكيل المجالس والهيئات المعنية، وطرق محاسبتها هي نفسها، وعلاقتها مع السلطة السياسية، وضمانات الاستقلالية المتوفرة للقضاة وأعضاء الأجهزة الرقابية. وكل ما أسلفت هو على سبيل المثال لا الحصر.
إذاً، بأي منطق، يتم الحديث عن المحاسبة كمدخل أول لتحقيق النجاح في مكافحة الفساد، خصوصا إذا ما أخذنا في الحسبان أيضًا درجة الاستقطاب العالية الموجودة في المجتمع اللبناني والتي تضيف حاجزا آخر أمام الوصول إلى محاسبة عادلة وناجزة؟ من هنا، يصبح الذاهب إلى معركة المحاسبة، دون الالتفات الجدي إلى اتخاذ تدابير وقائية وإصلاحية أخرى مركزة، كأنه لا يريد أن يحقق نجاحات حقيقية، أو أنه غير مدرك لواقع البلد ومؤسساته.
من جهة أخرى، تربط بعض الجهات القضاء ععلى الفساد بإصلاح المنظومة السياسية. فتراها تطرح عناوين كبرى مثل إلغاء الطائفية السياسية أو تغيير النموذج الاقتصادي أو تحديث أجهزة الدولة، وكلها قضايا بالغة الأهمية، ولكن افتقادها إلى مرجعية معيارية دولية متفق عليها مثل مكافحة الفساد، وارتباطها بجملة واسعة من المتغيّرات، واتساع مشمولاتها، تجعل منها “حجرا كبيرًا جدًّا”، و”يللي بيكبر الحجر، أو ما بدو يرميه أو إذا رماه ما رح يصيب”. لذا الإفراط في ربط مكافحة الفساد بهذا النوع من القضايا، وجعل هذه الأخيرة شرطا أصيلا لتحقيق التقدم في وجه الفساد، يولّد حلقة مفرغة وجدلا عقيما يستفيد منه الفاسدون، وينتهي الأمر بتأجيل العنوان الإصلاحي الكبير واستبداله بخطوات تقنية ومجتزأة مرحلية من دون رؤية شاملة وملزمة، مثل تبسيط جزء من الإجراءات أو مكننة جزء من الإدارة، أو زيادة أجور، أو تنظيم دورات تدريبية، أو خصخصة مرفق عام وهكذا … . التجربة في لبنان وفي بلدان أخرى علمتنا بأن هذه التدابير وحدها لا تنجح فعلا ولا تؤسس بشكل جيد لمكافحة الفساد.
باختصار، تطبيق المحاسبة أمر مهم جداً من منظور مكافحة الفساد، وكذلك إصلاح المنظومة السياسية. لكنهما ليسا أفضل مدخل للبدء بمكافحة الفساد في السياق اللبناني.
المفكرة: ما هي أنواع الفساد في لبنان؟ ما هي القطاعات الأكثر فساداً؟ وهل هي نفسها التي تندرج على أجندة الأحزاب السياسية، وكيف تفسر ذلك؟
السبلاني: تعريفات الفساد متباينة بصياغاتها ولكن عموما هناك توافق عام حول المفهوم بين أصحاب الاختصاص. فالفساد هو قيام أحدهم باستخدام سلطة ممنوحة له بشكل يحرفها عن تحقيق الغاية منها وبقصد تحقيق منفعة شخصية لصاحب السلطة الممنوحة أو أحد المقّربين منه. إذاً، لا بد من التحديد والتوضيح بأن ليس كل مخالفة للقانون أو للأخلاق هي فساد، وليس كل خلل في إدارة المال العام أو الشأن العام هو فساد. يمكن لهذا الخلل أن يكون ناتجا عن إهمال ما، أو عدم معرفة، أو نقص بالموارد. كما يمكن أن يكون ناتجا عن فساد. أول خطأ نقع فيه هو اعتبار كل الأعطاب أعمال فساد. وهذا ما يؤثر على معركة مكافحة الفساد بشكل عام لأنه يعمم المفهوم ويجعل عملية الإحاطة به والتصدي له يكاد يكون أمرًا مستحيلا.
وتقليديا، هناك من يصنف الفساد بموضوعه، كأن يُقال مثلا فساد مالي أو إداري أو سياسي أو أخلاقي إلى آخره. ولكني لا أفضل ذلك، لأنه من الناحية العملية غالبا ما تتداخل هذه التوصيفات ببعضها البعض، إضافة الى كونها لا توفر قيمة مضافة ذات جدوى إلا ربما من الناحية الأكاديمية. وهناك من يصنف الفساد بالنظر إلى حجمه كأن يُقال فساد صغير أو فساد كبير، وأنا لا أحبذ ذلك أيضًا، لأنه قد يهوّن في نظر البعض “الفساد الصغير” برغم أنه قد يكون ذا تأثير كبير على محدودي الدخل وعلى الحياة اليومية للناس. من هنا، أفضل أن أتحدث عن نوعين أساسيين من الفساد، وهما موجودين في لبنان: فساد على مستوى المعاملات، وفساد على مستوى السياسيات. فساد المعاملات موجود على صعيد الإدارات بمفهومها الواسع وعلاقتها مع المواطن والقطاع الخاص. وهذا النوع من الفساد منتشر في لبنان بحسب الدراسات والمؤشرات ذات الصلة، ولا أسميه عمداً “فساداً صغيراً” نظراً لكبر حجمه. إما فساد السياسيات العامة، فهو عبارة عن وضع أو تغيير قوانين أو إجراءات أو خطط أو مشاريع من أجل خدمة مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة.
بشكل عام، من الصعب في مكان تحديد القطاعات الأكثر فساداً في لبنان، خصوصاً وإنه لا يوجد قاعدة معلومات دقيقة (مثلاً، تقييم الخدمات في المستشفيات الحكومية، أو تقارير دقيقة تنشر من قبل التفتيش المركزي ويطلع عليها الجمهور…). لكن، معظم المتابعين لشؤون مكافحة الفساد، وحتى مشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في بعض أجزائها يقترحون بأن يتم التركيز على مجالات ذات أهمية مالية كالجمارك، والدوائر العقارية، والضرائب، والمناقصات.
لكنني لا أتبنى شخصياً هذه المقاربة بالضرورة، لأن خطر الفساد ليس مالياً فقط. فيمكن لوزارة البيئة على سبيل المثال، أن تعطي نقاطاً إيجابية في تقرير تقييم الأثر البيئي لمشروع ما، بينما الواقع مغاير والضرر البيئي لهذا المشروع كبير جداً ونتائجه مكلفة وتؤثر سلباً على المجتمع.
في لبنان، الافتراض يقول بأن الفساد منتشر في كل القطاعات لأن لا من جهاز رسمي لديه تقارير لـ “تقييم مخاطر الفساد” أو يتبع معايير شفافية معلنة حول كيفية إدارة الأموال العامة. يتوجب بالتالي على المسؤولين عن هذه القطاعات إثبات العكس للرأي العام.
المفكرة: هل من إمكانية جدية يسمح بها النظام السياسي اللبناني (من موازين قوى، ولاعبين…) من أجل المضي قدماً في ملفات الفساد والمحاسبة؟
السبلاني: هذا السؤال مشروع. لكنني اعتقد بأنه ليس لدينا ترف أن نسأله. نظرياً، نعم ممكن. في بلدان أخرى وحيث كان الفساد مستحكما، ربما بنسبة أكبر من لبنان، تم تحقيق نتائج ملموسة وتقديم حلول. بالتالي، وبالرغم من أن السؤال مشروع، إلا أنني لا أحبذ أن أجهّل الفاعل والاستفسار حول مكافحة الفساد بالمطلق. في الحقيقة، أقترح إعادة صياغة هذا السؤال ليصبح كالتالي: هل سيساهم الأطراف المعنيون بمكافحة الفساد؟ وجميعنا معني بمكافحة الفساد وعلى رأس القائمة السياسيون.
والمساهمة هنا تكون وفق منهجية معنية. في الواقع معروف ما هو مطلوب من كل طرف، إذا ما توفرت النية الصادقة لمكافحة الفساد. ما هو المطلوب من الوزير، مثلاً؟ ليكافح الفساد، عليه نشر دفاتر شروط المناقصات في وزارته، نشر الدفوعات التي تفوق قيمتها الخمسة ملايين ليرة، أو إطلاع الجمهور على نتائج الصفقات وأوضاع تنفيذها بشكل دوري، وإعداد تقارير دورية ونشرها وفق ما يطلبه قانون حق الوصول الى المعلومات. يمكنه أيضا من ضمن إجراءات أخرى كثيرة أن يمأسس آلية شفافية لتقييم وتخفيض مخاطر الفساد وفق المنهجيات العلمية المعتمدة لذلك. وهكذا دواليك. وربما نصل إلى مرحلة وزير يمتثل بالآخر أو ينافسه، وربما يُبرز ذلك جدوى تقديم القدوة الحسنة بدل التركيز على اتهام الآخر.
ما هو المطلوب من المجتمع المدني، مثلاً؟ على الجمعيات أن تتعاون مع بعضها البعض وتناقش وتطور مواقف معينة حول بعض القوانين المطروحة وتحديد أولوياتها في هذا الشأن. كذا بالنسبة للإعلام أو أي قطاعات أخرى.
وبالتالي، هنالك ضرورة لفتح نقاشات حول دور جميع الأفرقاء ومساهمتها في مكافحة الفساد. حالياً، عادة ما تكون هذه الأدوار ضبابية والالتزام فيها ضعيفا جداً. مما يضعف من جدية مكافحة الفساد.
المفكرة: هل يتناول الخطاب حصراً القطاع العام، ويتجنب القطاع الخاص؟ وما هي مفاعيل هذا التوجه على مؤسسات الدولة، أو الخطاب الداعي إلى الشراكة بين العام والخاص؟
السبلاني: الفساد في القطاع الخاص يأخذ ثلاثة أبعاد:
أولاً، الفساد المتعلق بالتعامل مع القطاع العام، كرشوة للسياسيين أو الإداريين أو تزوير وثائق للتقدم في مناقصة ما. وبالتالي هذا يخضع للقانون الذي يجرم الراشي والمرتشي.
ثانياً، الفساد الداخلي في الشركات الخاصة، أي حين يرتكب فساداً من مُنح سلطة إدارة الشركة نيابة عن مالكيها أو المساهمين فيها. وهذه المخالفات أيضاً مغطاة في القانون تحت بنود إساءة الأمانة مثلاً.
ثالثاً، الرشوة بين أفراد أو شركات في القطاع الخاص، مثلاً أن يصار إلى بيع معلومات من موظف في شركة إلى شركة أخرى. هناك قوانين في العالم تجرم الرشوة في القطاع الخاص وكذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. أما في لبنان، ليس هناك من نقاش جدي حتى الآن حول هذه النقاط. ربما يعود ذلك إلى طبيعة الاقتصاد اللبناني القائم على الاقتصاد الحر. فيعتبر أي نقاش حول هذه الموضوعات تدخلاً في القطاع الخاص، أو يعود لفكرة أنه لا بد من مكافحة الفساد في القطاع العام أولاً، ومن ثم التوجه إلى القطاع الخاص ثانياً.
أما فيما يتعلق بالخصخصة، إذا اقتنعنا بنظرية المؤامرة، سيسهل علينا القول بأن التوجه لحصر الفساد في القطاع العام هو تمهيد للخصخصة. وأنا مجددا أود أن أؤكد انني لا أحبذ الخوض في النوايا. فعلياً، في لبنان هنالك رغبة في تحقيق نتائج سريعة جداً، ربما تحت ضغوطات خارجية أو لضرورات المنافسة السياسية أو بسبب الرغبة الصادقة في تحسين مستوى خدمة معينة. وهذه الرغبة تحتم التوجه إلى القطاع الخاص في بعض الأحيان. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن عدم وجود رقابة حقيقية على القطاع الخاص، في حال تبنينا الخصخصة أو حتى الشراكة بين القطاعين العام والخاص، يُرجح أن يساهم حتماً وبشكل ملموس في انتشار الفساد لا سيما في البلاد التي تتقاطع فيها النخبة السياسية مع النخبة الاقتصادية بشكل كبير.
المفكرة: هل مكافحة الفساد موضوع تقني صرف، أم سياسي؟ كيف نوفق بين الإثنين؟ هل تجوز المناصرة من أجل خلق أطر ومؤسسات لمكافحة الفساد من دون إعادة النظر بالتركيبة السياسية؟
النقاش والتمييز بين التقني والسياسي ليس بمحله عندما نتحدث عن مكافحة الفساد وفق المرجعية المعيارية الدولية التي ألزم لبنان نفسه بها، وهو مصطنع في طريقة طرحه. في الواقع، ما هو تقني في ظاهره، هو سياسي بمضمونه. والعكس صحيح. مكافحة الفساد في العصر الحديث هي عبارة عن نظام له مقوماته المحددة. هذه المقومات، منها ما هو على المستوى السياسي كوجود برلمان يحاسب الحكومة، ومنها أن يكون للقضاء ضمانات من أجل عدم التدخل السياسي في عمله. كذلك بالنسبة للمجتمع المدني وضرورة توفر مجال لحرية التعبير وحرية التجمع لمختلف الأفراد، بعيداً عن الاتهامات غير المبررة بالقدح والذم والتشهير. وكلّ هذه تفترض مقومات سياسية. لكن في نفس الوقت تتضمن كلها معايير تقنية. مثلاً، كيفية كتابة قوانين لحماية استقلالية ونزاهة القضاء، والقدرات الفنية اللازمة لضمان تنفيذ القوانين المتعلقة مثلا بمكافحة الإثراء غير المشروع، والأدوات التكنولوجية اللازمة لمراقبة حركة الأموال العامة وغيرها من الأمور التقنية.
أمور أخرى تظهر على أنها تقنية لكن نتائجها سياسية. النص القانوني بمنع تعارض المصالح، وهو مجمد في لبنان من سنوات عديدة، ليس تقنيا فقط وإن بدا كذلك، وإنما سياسي بامتياز بحيث له نتائج على العلاقة بين السياسيين ومجتمع الاعمال، وكذلك الأمر بالنسبة للنص القانوني بالتصريح عن الذمة المالية، حيث يمكن أن يُعتبر الوزير الذي لم يصرح مستقيلاً حكماً مثلًا.
في الحقيقة، التفرقة بين التقني والسياسي، دون الانتباه إلى العلاقة التكاملية بينهماـ له آثار سلبية تعيق من التقدم في عملية مكافحة الفساد. والنتائج والآثار لهذه التفرقة واضحة. فإما ان تُبقي الناس رهينة للحديث بالعناوين العريضة، من خلال مطالبتها مثلاً بإلغاء الطائفية السياسية على أساس أنها المشكلة الأساس أو مطالبتها بالمحاسبة والقصاص كنقطة بداية. والتقدم في هذه المجالات صعب جداً كما بيّنا وإن كنت لا أقول أنه مستحيل. وإما أن تُبقي العمل في دائرة الخبراء التقنيين، وهم وحدهم غير قادرين على حشد دعم الشارع والرأي العام نظراً للهوة بين الاثنين. وبالتالي تصبح عناصر التأثير ضعيفة جداً. التوفيق بين الاثنين، السياسي والتقني، يتم من خلال المسارات الحوارية والتراكمية التي تجمع في آن جميع الأطراف المعنية حسب آليات ومناهج واضحة ومتناسقة.
المفكرة: في ظل وجود العديد من القوانين (قانون حماية كاشفي الفساد) والهيئات (هيئة مكافحة الفساد) التي من شأنها الحد من الفساد، وهل من نتيجة من دون قضاء مستقل؟
السبلاني: كما سبق الذكر، القوانين هذه ليس تقنية. البعض يقول بأن لا جدوى لها في ظل وجود منظومة فاسدة. ربما هذا صحيح. لكن أهمية هذه القوانين كقانون حماية كاشفي الفساد، ليس بصفتها قوانين لحل المشكلة بشكل نهائي. بل الهدف منها، في مثل المرحلة التي يمر فيها لبنان، هو إيجاد مزيد من آليات الضغط وإتاحة الفرص أمام الراغبين بمكافحة الفساد فعلا. وبالتالي أنا أراهن على وجود أشخاص صالحين كفوئين في كل المجالات بما في ذلك القضاء، لهم بمكان أن يستغلوا هذه الفرص والقوانين حين تسمح لهم الظروف. لا شك، سيساهم ذلك في هز منظومة الفساد ويحقق إنجازات يمكن المراكمة عليها.
المفكرة: في لبنان، مقارنة ببلدان عربية أخرى، مساحة وافية من الحرية تسمح للرأي العام والإعلام والجمعيات من تناول موضوع الفساد وتسمية الجهات المتورطة في هذه الملفات، فهل هذا كاف من أجل المضي قدماً بفضح المتورطين في الفساد؟ وما هي المحاذير أو العوائق التي تحول دون ذلك؟
السبلاني: نعم هناك مساحة حرية واسعة نسبيًّا في لبنان. لكن قوانين القدح والذم والتشهير معيقة بشكلها الحالي بدون أدنى شك.
إضافة الى ذلك، في لبنان، نواجه ثلاث مخاطر أساسية مرتبطة باتساع مساحة الحرية، يمكنها أن تعرقل مسيرة مكافحة الفساد وتمنع تحقيق إنجازات ملموسة في هذا المجال.
أول هذه المخاطر يكمن في تبني سقف خطاب سياسي عال جداً. ففي ظل غياب مؤسسات رسمية داعمة تسمح فعلياً بمكافحة الفساد، يؤدي هذا الخطاب إلى الإحباط لأنه يصعب جداً تحقيق خطوات ملموسة مقارنة مع التوقعات التي كان قد كونها المواطنون. يقتنع المجتمع عندها بأن لا أمل من مسارات مكافحة الفساد. هذا من جهة. أما من جهة أخرى، فهذا الخطاب العالي، هو عبارة عن دعوة مجانية مبكرة، عن قصد أو غير قصد، لرسم الخطوط الحمر التي عادة ما تأخذ أبعاداً طائفية. إذاً، وفي ظل غياب مؤسسات رسمية تترجم الخطاب السياسي المرتفع إلى حقيقة، يتحول الخطاب ذو السقف العالي إلى وسيلة لعرقلة مكافحة الفساد وتيئيس الناس من جدواها.
ثاني هذه المخاطر يتمثل بالدور الذي يقوم به الإعلاميون في لبنان. فإلى جانب كون معظم وسائل الإعلام مملوكة أصلاً من السياسيين أو مقربين منهم، فإن الاعلاميين عادة ما يقاربون موضوعات الفساد بشكل مسطح وفضائحي. عملياً، يؤدي ذلك الى تجييش الناس حول عناوين ساخنة لكن بشكل تضليلي، وذلك بالرغم من صدق النية في بعض الأحيان. هكذا يعلن هؤلاء، بشكل مباشر أو غير مباشر، الهزيمة والإحباط في المجتمع، ويرسخون ثقافة التذمر والتعميم. في المقابل، يمكن للصحافي مقاربة الموضوع من ناحية سهلة، لكن جدية، مثل اختيار موضوعات محددة ورصدها بشكل دوري ومستمر، أو إعداد تقارير للضغط على الإدارة الفلانية كي تنشر جميع الدفوعات التي قامت بها والتي تتجاوز الخمسة ملايين ليرة لبنانية، وهذا ما يطلبه القانون الجديد، ولكن لم أسمع أي تقرير صحفي بهذا الخصوص مثلا. خطوة بسيطة لكنها عملية جداً.
أما ثالث هذه المخاطر، فيأتي من قبل المانحين الدوليين، والذين إذا ما رأوا اهتماما متزايدا في موضوع ما يتوافق مع أولوياتهم، يميلون إلى ضخ الاموال لدعمه من خلال الإدارات نفسها أو من خلال المجتمع المدني. هذا قد يؤدي إلى إيجاد تنافس غير منتج في ما بين الإدارات وحتى ضمنها، وحالة من الضغط لصرف الأموال المرصودة قبل مواعيد محددة بغض النظر عن الفائدة الحقيقية. كما أنه عادة ما يؤدي الى دفع المجتمع المدني من أجل القيام بنشاطات تندرج تحت برامج مكافحة الفساد دون النظر إلى قيمتها المضافة الحقيقية أو أثرها على المجهود العام في هذا المجال. وبالتالي، تصبح أغلبية جمعيات المجتمع المدني والساعية للحصول على التمويل متخصصة بالفساد. تنتشر إذاً نشاطات عديدة منها المؤتمرات مثلاً. شأن هكذا نشاطات أن تضعف من شرعية المعلومات والمسارات. من هنا، يجب أن يتوفر مسعى للتنسيق الفعلي بين الجهات المانحة وكذلك المنظمات التي تتولى تنفيذ المشاريع الممولة، وقد بدأت تلوح بعض البوادر الإيجابية في هذا الشأن.
كخلاصة، أعتقد بأن من يُعلّي خطاب مكافحة الفساد، قد لا يريد فعلا مكافحة الفساد. إعلاء الصوت من قبل السياسيين ضد مجهول أو ضد منافسيهم هو ضد مكافحة الفساد، خصوصا إذا لم يقدموا للناس القدوة في سلوكهم وطريقة إدارتهم للمؤسسات التي يتولون مسؤوليتها. التهكم والنقد المستمر من قبل الإعلاميين والمجتمع المدني هو أيضاً ضد مكافحة الفساد لأنه يغذي ثقافة اليأس، وهي خير حليف للفاسدين. كذلك الأمر بالنسبة إلى ضخ الأموال من قبل المانحين الدوليين في موضوع ما من دون قراءة متأنية أو تنسيق.
فمكافحة الفساد مسار طويل ومعقد. وليس هناك طرق مختصرة لذلك، وليس هناك جهة واحدة تملك العصا السحرية. ولكن أجزم بأن لبنان قادر على تحقيق تقدم إذا ما تم التنبه لمثل هذه الأمور. فكثير من الأشياء التي قد تظهر على أنها مناصرة لمكافحة الفساد، هي فعلياً ضد مكافحة الفساد. حذار منها.
المفكرة: هل من بنى مجتمعية قادرة أو تقوم حالياً بمواكبة خطاب الفساد؟ ومن هي؟ وما هو دور المجتمع في المساهمة في فتح أطر موازية تساهم في تعزيز الخطوات الرسمية ورصدها ومراقبتها؟
السبلاني: في موضوع مكافحة الفساد في لبنان، إن الإرادة السياسية محورية ولكنها غير كافية وحدها. ليس هناك كن فيكون. كذلك الأمر بالنسبة للخبرات التقنية المتخصصة، فهي تتنامى وإن ما زالت غير كافية. مقاربة الملفات من باب واحد على حساب الآخر هو منافٍ ومناقض لمكافحة الفساد. لا بد من التكامل بين الفرعين، السياسي والتقني. وهذا يحدث من خلال فتح مسارات حوارية يتشارك فيها الجميع.
في مكان ما وبسبب تراكمات من الفشل السابق، أصبح الناس يعتقدون بأن الفشل قدر محتوم، وأنه لا يمكننا أن نصل إلى إصلاحات معينة. لكن، التجربة أكدت، بأنه يمكننا إيجاد مسارات تحقق نجاحات يصبح بنتيجتها من المكلف جداً التراجع عنها وعن نتائجها، وهي تؤسس بدورها لما هو أقوى منها.
هذا هو الحال بالنسبة إلى مشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، والتي طورت على أساس مسار تشاركي. إننا نتحدث عن مسار تأسس منذ أيام حكومة الرئيس الأسبق نجيب ميقاتي (2014-2011)، واستمر تحت حكومة الرئيس السابق تمام سلام (2014-2016)، ثم تسارع وتعمّق في ظل حكومة الرئيس سعد الحريري السابقة (2016-2018). والآن الكرة في ملعب الحكومة الحالية، وذلك بمواكبة بعض السياسيين والكثير من التقنيين لا سيما وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية. المسار تميز بالشراكة وضم أخصائيين وتم خلاله الاستثمار في بناء قدراتهم، ولم يتم استخدام المال كوسيلة لدعم المسار. المجتمع المدني أيضاً لعب دوراً مهماً. تم أيضاً إشراك المجتمع الدولي ليس من باب التمويل، إنما من خلال تبادل الخبرات ومقارنة التجارب. ولم يمكن المسار ضحية ذهنية المشاريع، المرتبطة بآجال زمنية محدودة، والتي تحتم إنتاج “تقارير تقدم عمل” تصبح هي الغاية لا الوسيلة. أما المأسسة فكانت الجزء الأهم في المسار من ناحية القرارات الرسمية المختلفة التي تم اعتمادها والوثائق الهامة التي تم إعدادها ونشرها (مثلاً تقارير التقييم بشأن مدى التزام لبنان باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد).
نجاح المسار تؤكده البيانات الوزارية والتي أقر آخرها بضرورة إقرار الاستراتيجية بمعنى أن هنالك اعتراف صريح بأهميتها، على نقيض استراتيجيات أخرى حيث طلب في البيان الوزاري الأخير أن تحدّث أو أن تراجع أو حتى تم إهمال ذكرها.
وقد قرر مجلس الوزراء مؤخرا تنقيح الاستراتيجية المذكورة، ويتم الآن ذلك بشكل جيد وسريع من خلال الوزارات المعنية. ولا يبدو أنه يدخل تعديلات جوهرية عليها، بل أكثر على بعض الصياغات. ولكنني لن أستبق الأمور وأتطلع إلى ما سيتم الوصول إليه في هذا الشأن. حالي كحال الكثيرين من المتابعين والداعمين لهذا المسار .
المفكرة: هل تثق بأن الملفات المختلفة ستصل إلى خواتيمها؟ وما أثر ذلك على النظام والمجتمع؟
السبلاني: بناء منظومة حقيقية لمكافحة الفساد ليس عملا مثيرا ولا يأتي بالمجد الآني للبنائين، وبالتالي صعب جدا. يمكن أن تكون موضوع حلقة تلفزيونية أو بيان صحفي أو يافطة انتخابية. إنها عملية طويلة، ومتعبة وحتى مملة. فالالتزام بمكافحة الفساد يطلب جلداً والابتعاد عن ذهنية الربح السريع. من يريد أن يكافح الفساد، لا يجب أن يسعى إلى الشهرة. الربح الحقيقي يأتي لاحقاً، ونتشاركه جميعا. بهكذا ذهنية فقط، يصبح هناك إمكانية أكبر للتقدم في مكافحة الفساد.
بناءً عليه، رأيي أن هناك تقدماً حصل على صعيد مكافحة الفساد في لبنان خلال الأعوام المنصرمة. إضافة إلى بعض النجاحات في ملفات محددة على مستويات قطاعية محدودة، تمثل النجاح الأكبر في رأيي بتكوين شبكة ودية من المسؤولين والخبراء والناشطين وبناء لغة مشتركة في ما بينهم قادرة على التحالف في وجه المعرقلي.، وتمثل أيضا بإعداد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وقرب اعتمادها، وهي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد. إضافة إلى بدء وإحراز تقدم في ورشة تشريعية عميقة وشاملة لم يشهدها لبنان ربما منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب، وهي تتجسد في القوانين المتعددة للوقاية من الفساد ومحاربته والتي أقر منها منها “قانون الحق في الوصول إلى المعلومات” (2017) وقانون حماية كاشفي الفساد (2018) على سبيل المثال، والتي تشمل قوانين أخرى تأخذ مسارها نحو الإقرار. من شأن هذه التشريعات أن تساهم في تأسيس أرضية قانونية صلبة لمكافحة الفساد بأبعادها الوقائية والعقابية. الوعي الحالي بضرورة مكافحة الفساد والإهتمام المتزايد بهذا الشأن لدى السياسيين والمواطنين لم يأت من الفراغ. إنما نتيجة لتراكم بطيء من الخطوات والمسارات التي بنت بدورها على مجموعة من المتغيّرات الدولية والمحلية والتي أرجح ان تتصاعد وتيرتها مستقبلا لا أن تقلّ.
1 تعبر الآراء والأفكار الواردة في هذه المقابلة عن وجهة نظر صاحبها ولا تشكل بالضرورة موقفا رسميًّا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أو منظومة الأمم المتحدة أو أي من الدول الأعضاء. يمكن التواصل معه مباشرة على تويتر @aes111 أو بواسطة الإيميل على
[email protected]
“