عندما تقابل طبيب الجراحة التجميلية والترميم الدكتور الفلسطيني البريطاني غسان أبو ستة، تشعر بعدم الرغبة بالتوقف عن طرح الأسئلة. فالرجل الذي قضى 43 يوماً خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، جرّاح يجري ما بين 10 إلى 12 عملية في اليوم، لا يتوقف دوره فقط كشاهد على استهداف المدنيين والتدمير الممنهج للقطاع الصحي كإحدى وسائل حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي على غزة. ففي جعبة أبو ستة الذي لم يترك غزة وأهلها في أيّ من الاعتداءات الإسرائيلية عليها منذ 2008 إلى اليوم، حيث وصل إلى القطاع في 9 تشرين الأول، قبل ساعات من إقفال معبر رفح وإحكام الحصار عليها، الكثير من الشهادات على كل هذه الحرب التي وصفها ب “التسونامي” بينما الحروب الأخرى كانت، مقارنة معها، فيضاناً. وبرغم استمرار عمله الطبي ل 18 ساعة يوميا، انكبّ على توثيق هدف إسرائيل الممنهج في جعل غزة مكانا غير قابل للحياة. ولم يرصد الأسلحة الفتاكة الجديدة فقط، بل تحدّث عن استعمال الاحتلال للجسد الفلسطيني كرأس مال استثماري تسويقي لها، وأطلق المفهوم المستجدّ على الإبادة لمصطلح “أطفال من دون عائلات”، ومحو عائلات بأكملها عن السجل المدني. وخرج أبو ستّة للعالم بعد قصف المستشفى المعمداني خلال إجرائه إحدى العمليات في غرفه، في شهادة ميدانية من أمام باحتها حيث الجثث والأطراف المبتورة تملأ المكان، لتشكل شهادته أحد أشكال مواجهة تبنّي الإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية التي تقول أن المعمداني أصيبت بصاروخ فلسطيني “صديق”. وحوّل أبو ستة صفحته على X التي يتابعها أكثر من 112 ألف متابع، كما إطلالاته الإعلامية العالمية والعربية، إلى منبر لغزّة وجرحاها وأهلها وزملائه في الطواقم الطبية الذين استشهد من بينهم أكثر من 280 طبيبا وممرضة ومسعفاً، ليُعيد هؤلاء، مع أطفال القطاع، من الأرقام إلى كونهم بشراً، ومن بينهم نحو 1000 إلى 1500 طفل بتر لهم طرف واحد على الأقل.
ويعيد أبو ستة حياكة خيوط القضية الفلسطينية من التجربة المدهشة للكادر الطبي المقاوم وارتباطه بالنضال الفلسطيني منذ النكبة، وكيف قرّرت مستشفيات القطاع مواجهة الإبادة الإسرائيلية بعدم الخضوع للتهديدات بالإخلاء، إلى تضامن المجتمع الغزاوي وانصهاره ومقاومته في مواجهة آلة الحرب وعالم الموت الذي يفرضه الاحتلال، مرورا بالاستعراض الإسرائيلي بالقتل لترهيب الفلسطينيين وتهجيرهم، جاهلاً (أي الاحتلال) أنه بالنسبة للذاكرة الجمعية الفلسطينية هناك شيء أسوأ من الموت وهو ذُلّ اللجوء. ويرى أبو ستة أن الدمّ الذي تمّت إراقته بغزارة في غزة “جعل كل حدوتة منظمة التحرير البائسة وراء ظهر الفلسطينيين” ليدعو إلى إعادة تشكيل حركة وطنية فلسطينية تحمي المقاومة الفلسطينية والإنجازات المتراكمة. ولا ينسى تحليل إدارة أميركا للحرب التي كشفت أن إسرائيل مجرد ناطور في المنطقة للمصالح الغربية، وأداء الإعلام الغربي الذي فقد مصداقيته أمام نشطاء السوشيل ميديا عند الجيل الجديد في الغرب، متسائلاً عن سبب عدم إيجاد جامعة الدول العربية والنقابات العربية لمنظمة صحة عربية وأطباء بلا حدود عرب في مواجهة المنظمات العالمية التي تؤكد أن “مؤسسات السيد لا تهدم منزل السيد”.
أما ديما، زوجته، فتقول للمفكرة أن “قرار ذهاب غسان إلى غزة لم يعد موضع نقاش، هذا واجب وغسان يقوم به”. وقلق ديما كان مضاعفا، ولم يقتصر على شريك حياتها ووالد أبنائها: “كل عائلتي ما زالت محاصرة في غزة حتى الآن، لكن هذه قضيتنا جميعنا والأولاد يدركون ذلك أيضاً”.
وأخيرا وليس أخراً في جعبة أبو ستة حزمة من الخطط لفضح إسرائيل وجرائمها ومتابعة الجهود لمحاسبتها وإثبات جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وهو إذ خرج من غزة عندما أُقفِلت آخر غرف العمليات وتم تعجيز الكوادر الطبية، فإنه “عائد إلى غزة مع فتح أول كوريدور إنساني”.
تنشر المفكرة حوارها مع د. أبو ستة على جزءين: يتمحور الأول الذي ننشره هنا حول شهادته الطبية، والثاني حول جهوده لضمان محاكمة إسرائيل على خلفية جريمة الإبادة الجماعية وتوقعاته بشأن مستقبل غزة وفلسطين عموما وعلاقة الجيل العربي بالقضية الفلسطينية.
استهداف المعمداني كان اختبارا هدفه التمهيد لاستهداف القطاع الصحي برمّته
يدلي الاختصاصي في الجراحة التجميلية والترميم د. غسان أبو ستة بشهادته حول جرائم حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ترتكبها إسرائيل في غزة، كوثيقة تدين إسرائيل وفق القانون الدولي. وهو يحلّل، علاوة على ذلك، دلالاتها لتكريس احتلال يقوم على “لا أنسنة الفلسطينيّ”، مستغلاً الكارت الأبيض (Carte Blanche) الممنوح له من الشمال السياسي “لتحويل القطاع إلى مكان غير قابل للحياة” وبالتالي إبادته. وبما أن القطاع الصحّي يقع في أساس مقوّمات الحياة، فقد شكّل أحد الأهداف العسكرية لإسرائيل منذ بداية الحرب، حيث لم يعد هناك اليوم، بعد 75 يوماً من العدوان، سوى تسع منشآت طبية فقط من أصل 36 تعمل على نحو جزئي في القطاع بأكمله اليوم، وجميعها (العاملة جزئياً) موجودة في جنوب غزة.
وفي إطار توضُّح استهداف القطاع الصحي منذ بداية العدوان، يعود د. أبو ستة، في حواره مع “المفكرة”، إلى الأيام الأولى للحرب حيث بدأت إسرائيل بإشاعة وجود أنفاق وغرف سيطرة وقيادة لحركة حماس تحت مستشفى الشفاء. وفي هذا السياق، يشير إلى أنّ أيّ إنسان كان يَسأل قبل بدء العدوان الإسرائيلي الحالي “ما هو أأمن مستشفى في قطاع غزة؟”، سيجيبه أي شخص سواء في القطاع أو خارجه: “المستشفى المعمداني-الأهلي”. فالكنيسة الإنجيلية في بريطانيا هي التي تديره، كما أن المسؤول عنه هو أسقف من بريطانيا أيضاً. و”كان إحساس الجميع أن إسرائيل إذا كانت ستتجنّب المساس بأي مستشفى فسيكون هذا المستشفى، وفق د. أبو ستة. وعليه، يقول “بالنسبة لي كان قرار الإسرائيليين ضرب المستشفى المعمداني بمثابة اختبار لمدى تجاوب المجتمع الدولي وردّة فعله تجاه قرار إسرائيل بالاستهداف الممنهج للقطاع الصحي”. ولذا بعد مجزرة المعمداني، وفق ما يقول، وتبني الرأي العام الغربي سردية الاحتلال حول الصاروخ الفلسطيني، بالرغم من عدم وجود أيّ أدلة حسيّة أو منطقية، ومن دون أي محاولة للأخذ بأي من إفادات الجرحى والأطباء، أدرك الاسرائيلي أنّ بإمكانه الاستمرار بهجومه الممنهج على القطاع الصحي”. ولذا، بعد قصف المعمداني، واستشهاد 480 فلسطينيا، “استهدفت إسرائيل 4 مستشفيات للأطفال، لتؤكد أنه “حتى الطفل الفلسطيني ليس له أيّ نوع من الحماية، ولا أنسنة له”.
استعراض قتل الأطفال والتمثيل بهم
بعد ضرب مستشفيات الأطفال، يقول د. أبو ستة، تم قصف مستشفى السرطان و”أيضاً لم يحصل بطريقة عبثية”، إذ تشكل هذه الاستهدافات “رمزيات حساسة ضمن القطاع الصحي يصعُب استيعابها في أي حرب ثانية، وهي حتماً اختبار مستمر للرأي العام الدولي باستمرار التدمير الممنهج والهادف”. وهو يستكمل خطّ الرسم البياني لآلية الإجرام الإسرائيلي ودلالاته، يعود د. أبو ستة إلى اللحظة التي حوصرت فيها مستشفى الشفاء: “تمّ التمثيل بأكثر جزء هش من الطفولة وهم الأطفال الخدّج، الذين يقعون في المنظومة الاجتماعية والفكرية للطفولة في رأس الهرم لهشاشة الكائن الذي يحتاج لأوكسجين وماء وغذاء، وتمّ أُخِذ هؤلاء (الأطفال الخُدّج) وجرى التمثيل بهم. وتوجهت الدبابة الإسرائيلية الأولى التي دخلت إلى الشفاء نحو أنابيب الأوكسجين وقطعتها عن قسم الولادة لقتل الأطفال ببطء وبطريقة استعراضية”. ويرى أن هذا الفعل العدواني هو استعراض تمثيلي يشكل جزءاً أساسيا من العنف الإسرائيلي، ويرتبط بـ “الإيغال بالدم ومحاولة خلق الهول عند الفلسطينيين”. ولذا، يرى د. أبو ستة أن ترك جثث الأطفال الخُدّج في مستشفى النصر علانيّة، “لم يكن خطأ، بل جاء عمداً في صلب استعراض القتل عينه”.
واستكمالا لأهدافها في تحويل غزة إلى مكان غير قابل للحياة، وجعل النظام الصحّي هدفا عسكريا رئيسيا، يقول د. أبو ستة: “وجدنا منذ اليوم الرابع أو الخامس للعدوان أن نصف لائحة العمليات الجراحية التي ضمت حوالي 10 إلى 11 عملية يوميا في المشفى، كانوا من الأطفال”. وعليه نحن اليوم، إضافة إلى أكثر من 8200 طفل شهيد لغاية الساعة و6200 امرأة، وهو ما يشكل أكثر من 70% من مجمل 20 ألف شهيد قتلتهم إسرائيل حتى كتابة هذه السطور، من دون احتساب أعداد المفقودين والمتروكين تحت الركام.
وفيما هو يتحدّث عن الأطفال، يتوقّف د. أبو ستة قليلاً عن الكلام، لتكتشف أنه ليس سهلاً على “مُرمّم الوجوه المكسورة في الشرق الأوسط“، كما أسمته صحيفة “لوموند” الفرنسية، أن يقول أنه قام ذات ليلة واحدة في المستشفى الأهلي المعمداني ب “بعمليات بتر لأطراف ستة أطفال”. وعليه، لا يعدّ مستغربا “وجود ما بين 1000 إلى 1500 طفل مبتوري الأطراف، وبعضهم بتر له أكثر من طرف. هذا بحد ذاته يحتاج إلى مجهود جبّار لإعادة بناء الأجساد”. إذ هدفت إسرائيل بشكل رئيسي إلى قصف المنازل السكنية “كنا نستقبل جرحى من مختلف الأجيال من العائلة نفسها في كل قصف جوي، عدا عن العائلات التي مُحيَت عن السجل المدني بالكامل، ومعها الأطفال الذين بُترت عائلاتهم، ففرضت علينا هذه الحرب فئة جديدة خاصة تحت مسمى طفل من دون عائلة”.
عندما تضطر العائلة إلى فرز أبنائها: من يخضع للعملية؟
مع بداية انهيار القطاع الصحي، أضحى الفرز بين المرضى “يزداد صعوبة وإجرامًا كل يوم”. يقول د. أبو ستة: “في البداية بُنيّ الفرز على حالة المصاب الصحية، فنقرر إخضاع هذا لعملية اليوم، ونؤجل هذا من 3 إلى 4 أيام”. مع تناقص الإمكانيات، وازدياد عدد المصابين وتناقص عدد المستشفيات ومعها غرف العمليات، “أصبح الفرز نوعا من الاختيار الشيطاني لمن يعيش ومن يموت”، يقول بأسى. وعندما حوصرت مستشفى الشفاء وأصبح المستشفى المعمداني هو الوحيد الذي يستقبل جرحى، وكان يحتوي على غرفتي عمليات فقط “وكنا جراحيّن اثنين فقط، أنا والدكتور فضل نعيم، جراح عظام، ثم انضم إلينا جراح عام، صار القرار بالإختيار بين 500 جريح ينتظرون في المستشفى، فمن تختار أن تجري له عملية على مدى اليوم؟ كان الأمر صعبا ووصل ذروته عندما قُصف مسجد دغمش في حارة الصبرا”. يومها، أُحضرت عائلة دغمش بأكملها مع الأقارب: “هنا، صارت العائلة نفسها تُشارك في عملية الفرز: خُذّ هذا، هذا لا تأخذه، هذا لديه 17 ولد، وهذا ليس لديه إلاّ ولديّن”. يصف الفرق ما بين الطاقة العلاجية وعدد الجرحى ب “المريع، وأنا متأكد أن الوضع اليوم اسوأ بكثير، رغم أننا لم نكن نتمكن من إجراء عملية لأيّ مصاب بحروق أكثر من 40% أو 50% بسبب انعدام الإمكانيات اللازمة لعمليات مماثلة”. وفي المستشفى المعمداني، حيث استكمل د. أبو ستة عمله بعد الشفاء، كان أيّ مصاب في الدماغ يُترك ليستشهد، بسبب تدمير الشفاء وعدم وجود جراحي أعصاب وتزداد المأساة مع الموت بسبب منع العلاج”. وعندما اضطر لمغادرة المستشفى المعمداني إثر انعدام أدوية التخدير، وإقفال غرفة العمليات، بقي في المستشفى 400 جريح: “كأنك تمارس نوعاً من الإجرام، لأن الجروح ستصاب بالتهابات بكتيرية، وتضطر إلى تنظيف الجروح من دون تخدير. وهذا مؤلم جداً. وعندما تظهر على الأطفال بداية علامات التسمم والالتهابات البكتيرية وتصبح أمام خيار أن تتدخل لتنظيف جراح هذا الطفل من دون مسكّنات وكيتامين، أو تتركه يموت في نهاية النهار”.
عندما انتقل د. أبو ستة من شمال القطاع إلى جنوبه، اكتشف “اضطرار الأطباء إلى القيام بالفرز نفسه بسبب النقص الحادّ بالمعدّات والأدوية، خصوصا أن 90% من العمل هو تضميد الجرحى واختيار المرضى الذين تقدر تعملهم عمليات، وفي الحالتين الاختيار مؤلم”. إذ تصبح المأساة الأكبر في الجروح التي لا تعالج، ف”يتحول الجرح، الذي يمكن إنقاذ الحياة عبر علاجه، إلى قاتل، والجرح الذي لا يؤدي بطبيعته إلى إعاقة دائمة يصبح كذلك”. وهذا كله، غير الموت بسبب الأمراض المزمنة الذي يحدث حالياً، ومن بين هؤلاء، الأطفال الذين كانوا يتعالجون في مستشفييْ الرنتيسي والنصر قبل استهدافهما، ويعانون من مرض السكري ولم يعد لديهم أنسولين، ومعهم مرضى الربو وغسيل الكلى، “كلها أمراض يُمكن علاجها، ولكنها تحوّلت إلى أمراض قاتلة بسبب انقطاع علاجاتها”. ومع انقطاع الأدوية المعقمة، سواء في الشفاء وبعدها في المعمداني، صار د. أبو ستة يشتري “الخلّ وصابون الجلي وأنظف الجروح بها”.
أجساد المصابين تخبر عن أنواع الأسلحة
إذ يسترجع د. أبو ستة أنواع الإصابات التي رآها خلال 43 يوماً من عمله في قطاع غزة، تراه يقرأ “من الجروح وأنواع الإصابات الكثير من تفاصيل الحرب والاستخدام المفرط للأسلحة. يتحدّث عن “قنابل ل 200 رطل، و1500 كيلو، ووزن الطن التي ألقيت على مبان سكنية، ما وضّح طريق الإبادة الشاملة لعائلات كاملة، ثلاثة أجيال من العائلة تُباد”. بعد بضعة أيام من العدوان، “جاءنا المُصابون بحروق صعبة جدا، تغطي أكثر من 50% من الجسم من دون شظايا أو كسور، إنها القنابل الحارقة، وقنابل بمواد مشتعلة، تنفجر وبتعمل كرة نار تحرق الناس. وعندما انهار مستشفى الشفاء، كان هناك 100 مصاب بهذا النوع من القنابل”. ثم عاد الفسفور الأبيض و”حروقه مميزة بسبب مادة كيماوية مثبتة بمعجون، تنفجر في السماء وتنفلش مظلة كبيرة من كرات الفسفور الحارقة، حيث لا يتوقف الاحتراق إلا عندما ينقطع عنه الأوكسجين، إذ تستمر الحروق باختراق جسد المصاب إلى أن تصل إما إلى الأعضاء الداخلية، أو العظم”. واستخدم الفسفور، وفق د. أبو ستة، مع “بداية دخول القوات البرية شمال القطاع وفي أبنية حيّ الكرامة، وفي مخيم الشاطئ بشكل أوسع”. وبما أنه كان قد عالج الحروق الناتجة عن الفسفور الأبيض في قطاع غزة عام 2009 ، عرف د. أبو ستة “جيدا نوعية الجروح والحروق التي يسببها، ورآها على أجساد المصابين”.
وأخبرت إصابات استهداف المستشفى المعمداني عن جيل جديد من ال Hellfire وهو صاروخ تضربه المسيّرات، ويتفتّت إلى شرائح حديدية، ويبتر الأجساد المصابة. وهو بتر، وفق الدكتور أبو ستة، تحدثه هذه الأسلحة في مناطق يصعب فيها البتر. “فالتفجير على سبيل المثال يُحدث بتراً في المنطقة الأضعف في المفاصل وفي أجساد الأطفال، ولكن هذا السلاح يبتر الجسد مثلاً من منتصف الفخذ، وهو أقوى منطقة في الجسم”. وشهد د. أبو ستة على استخدام هذا السلاح لدى معالجته جرحى المستشفى المعمداني، ومسجد دغمش في حيّ الصبرا؛ وبعدها انفلت استخدامه لأنه يحقق أكبر عدد من الإصابات: “أذكر عندما خرجت من غرفة العمليات بعد الانفجار في المعمداني، وفي طريقي إلى غرفة الطوارئ، رأيت باحة المستشفى التي دخلت منها صباحاً وكان الناس نازحين للاختباء فيها. وكانت بعد القصف مشتعلة ومضاءة بنيران القصف. كانت الباحة ممتلئة جثثا وأطرافاً مبتورة. وفي غرفة الطوارئ، رأيت أول جريح: رجل مصاب ببتر في فخده، وبدا البتر كما المقلصة، يختلف عن أي جرح آخر. كانت الأوعية الدموية ما زالت تنزف، فاضطريت لربط الفخذ بحزام لوقف النزف. الجريح الثاني دخلت شظية في رقبته والدم يخرج منها. كل الجرحى مصابين بشظايا حديدية”. الصاروخ العادي يحدث حفرة في الأرض وينفجر، وتكون معظم شظاياه من الحصى ومن التراب وجروحه مختلفة. أما جروح Hellfire فحديدية من الصاروخ المتشظي، والعدد الذي أصيب ومعاينة موقع الانفجار يدلان على ذلك”.
وكشف المصابون في محيط المستشفى الميداني الأردني الذي يصعب على إسرائيل تبرير استهدافه من دون إحداث أزمة دبلوماسية، (كونه يدار من قبل الجيش الأردني) دخول مسيّرة كواد كابتر (Quadcopter) على خط الأسلحة الجديدة. وهي مسيّرة رُكِّبت عليها بندقية قنص (قناصة) أسقطت في يوم واحد 20 جريحا من محيط المستشفى الأردني والمعمداني، أتوا مصابين بطلق ناري قناص منها. كما استُعملت “لاصطياد الناس عندما يضطرّون للخروج لشراء المياه والطعام في الأسواق ومنطقة القديم في غزة”. تختار الكواد كابتر ضحاياها وتتميز بسرعة رصاصها الكبيرة وإحداث ضرر كبير، حتى أن سكان غزة كانوا يسمعون صوتها في الليل تستمرّ بالبحث عن مستهدفين جدد. وفضحت الأجساد المتشظية تطوير صاروخ الفلاتشت flechettes “الذي استخدم في جنوب لبنان، وكان مصنوعا حينها من أسهم صغيرة، فيما صار اليوم يتشظى إلى شرائح حديدية طويلة وحادة تصيب المستهدفين”.
مقاومة في مواجهة “عالم الموت” الإسرائيلي: الكادر الطبي والناس
في مواجهة ما يسمّيه “عالم الموت” الذي تحاول إسرائيل عبر جرائمها فرضه على غزة وأهلها، يتحدث أبو ستة عن “المقاومة اليومية” الغزّاوية في أصغر التفاصيل، وأكبرها: “فكرة مقاومة الإنسان للموت، وللقتل، مستمرة بالرغم من الإجرام، ومعها التعاضد البشري والتلاحم بين الناس: عائلات لا تعرف بعضها تلجأ إلى بيت واحد، عائلات تأوي غرباء عنها، عائلات تحتضن جرحى وعائلاتهم، وعائلات تحتضن أطفالا نجوا لوحدهم ليصبحوا بلا عائلات”. ومع هذا كله “الكادر الطبي الذي أذهل العالم بينما دمرت إسرائيل النظام الصحي بأكمله: “مذهل أن يبقى أطباء وممرّضون ومسعفون كانوا محاصرين في مستشفى الشفاء ل 10 أيام من دون ماء ومن دون طعام، وعندما يُطلق الإسرائيليون سراحهم، يبحثون فورا عن مستشفى ثانٍ ليلتحقوا به. هناك زملاء لي كانوا بالشفا، التحقوا اليوم بمستشفى العودة بالشمال، أو بالمعمداني”. حتى من رحل من الأطباء مع عائلاتهم إلى جنوب غزة: “أول شي عملوه بس استقروا دوروا على مستشفى واشتغلوا فيها، ونفس الشي بالتمريض والإسعاف، فبالرغم من التدمير الممنهج للقطاع الصحي، هناك مكامن مقاومة مستمرة فيه، مثل بقية قطاعات المجتمع الفلسطيني”.
يحصل هذا بينما استشهد أكثر من 280 طبيب ومسعف وممرض لغاية اليوم بطريقة ممنهجة. “كانت إسرائيل تستهدفهم لحظة رجوعهم إلى بيوتهم، لخلق كارثة تستمرّ بالإبادة والتطهير العرقي بعد الحرب. تقتل أكثر من 20 ألفا وتجرح أكثر من 50 ألفا وتترك الجرحى يموتون أمام أهاليهم، وهذا نوع من الاستنزاف والموت البطيء للجريح وللأهل بعد وقف إطلاق النار، لدفعهم لمغادرة غزة حتى لمن اختار البقاء”.
قُتل الأطباء مع عائلاتهم، قُتلت عائلاتهم أو أفراد منها واستمروا في العمل، وكانوا، “مع وصول جرحى وشهداء يركضون كالمجانين ليتفقدوا إن كان أولادهم وعائلاتهم من ضمنهم”.
ويحرص هنا أبو ستة على التذكير أن مستشفى العودة في جباليا كانت المستشفى الأولى التي تلقت تهديدا بالإخلاء (وهو كان في المستشفى حينها) وقد اتُخذ القرار بعدم الخضوع للتهديد وبالتالي عدم إخلاء المستشفى وصار القرار من ثمّ بمثابة كرة ثلج، والكل شعر أنه سيتعرض، كما العودة، للتهديد إذا لم يكن اليوم فغداً، وعليه تم تبني القرار ورفض الإخلاء على مستوى كل القطاع الطبي في غزة.
هذا الإصرار على مقاومة عالم الموت ومواجهته، ينسحب على الناس كما الكوادر الطبية. بعد إقفال آخر غرفة عمليات في المستشفى المعمداني، كان هناك طفل وعمره 13 عاماً، استشهدت أمه وأخوته ونجا مع والده، ولكن بُترت ساقه اليمنى وكان يجب أن يخضع لعملية ترميم ليده المهشّمة: “أخبرت والد الطفل أنه يمكن أن أكون في مستشفى في النصيرات”. يستغرق الانتقال من شمال غزة الى جنوبها 5 ساعات حيث حرثت الدبابات الإسرائيلية الإسفلت: “كان من الصعب على الإنسان الكبير أن يمشي، ويستحيل أن يدفش كرسيا أو شنطة. دفع هذا الأب على مدى ست ساعات ابنه الذي لم يتبقّ له غيره، ولحق بي إلى رفح حيث أجريت له العملية”. هذا ما حصل وهذا ما يسميه د. غسان ابو ستة “مقاومة عالم الموت من قبل العوائل والجرحى أيضاً”.
ومن العوائل، يعود د. أبو ستة إلى الطواقم الطبية من أطباء وممرضين ومسعفين ليتحدث عن المجهود الشاق والخارق الذي قام به هؤلاء في مواجهة حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الهادفة إلى إفراغ قطاع غزة من أهله. يرى أن هذه المقاومة ناتجة عن ارتباط النضال الفلسطيني بالعمل الطبي تاريخيا، وأن الرؤية الفلسطينية لمقاومة الطواقم الطبية هي امتداد لمسيرة طويلة بدأت بعد نكبة 1948، وأن “هذه الخصوصية الفلسطينية لرؤية الصحة كجزء أساسي من النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي والإلغاء الإسرائيلي للجسد الفلسطيني تجلّت في هذه الحرب بشكل مجهود مذهل في مستشفيات شمال غزة. إذ أن مستشفى العودة مثلاً قُصفت مرات عدة ومستمرة، ومستشفى المعمداني ضُربت أكثر من مرة ومستمرة، كما مستشفيات الجنوب تستمر كلها بالرغم من ضعف الإمكانيات، لم تُقفل مستشفى لتقفل… “وأنا مسيرتي امتداد لهذا الإرث الطبي الفلسطيني”، يختم مؤكداً.
الإرث نفسه أوصله ليل 7 تشرين الأول المنصرم إلى معرفة أن هناك حرباً صعبة جداً آتية على غزة، وعليه وصل إليها قبل إحكام الحصار وإغلاق المعابر. اليوم، متسلحاً بالإرث نفسه، ينتظر أبو ستة أن يستعيد القطاع الصحي قدرته على النهوض، ومعه أول “كوريدور” إنساني ليعود إلى غزة، حتى لو لم ينتهِ العدوان الإسرائيلي وجرائمه.