
بوستر المسرحية حين عرضت في كوسوفو (الصورة من حساب حنان على إنستاغرام)
تُدخلنا حنان في مسرحيّتها “جوغينغ” وبخفّة كبيرة تُشبه إلى حد كبير حركتها على المسرح، في عوالم نساء سمعنا رُبما بقصصهنّ، أو حتّى سمعنا قصصًا تُشبهها إلى حدّ يُمكن اعتبارها قصصهنّ. ولكن معها نشعر أنّ قصصهنّ لم ترو بعد، وأنّها مع ما تحمله من تفاصيل كثيرة تدفع نحو السؤال بعمق عن الحبّ والقتل والخيانة والتضحيّة والأمومة.
يوم الثلاثاء الماضي في 6 أيار، وقفت حنان أمام جمهورها على مسرح “دوّار الشمس” لتقدّم “جوغينغ” في عرض يعود ريعه إلى جمعية “سعيد” التي تُعنى بالتوعية من سرطان القولون. منذ العام 2016 تجول حنان على عدد من المناطق والقرى النائية تعرض مسرحيّتها مجّانًا وقد عرضتها على مسارح مدارس مثلما عرضتها على مسارح عالمية ومحليّة. يشهد العرض تعديلات بشكل مستمر فهو بحسب حنان “عرض قيد التطوير” طالما قصص الناس التي ترويها تحتاج إلى استكمال.
حنان نفسها هي إحدى هذه الشخصيات، هي المرأة الخمسينيّة التي تُمارس رياضة الهرولة في مدينة بيروت، لترى نفسها حينًا تغرق في أسئلة واقعيّة حول المدينة فتستعين بشكسبير لتقول “هناك شيء عفن بالجمهوريّة اللبنانيّة”. وتغرق حينًا آخر بالأحلام ومنها حلمها كممثلة بتجسيد شخصيّة ميدي بطلة الأساطير الإغريقية كما تجلّت في مسرحية أوريبيدس الشهيرة حفيدة إله الشمس التي أُغرمت بجازون إلى حد الجنون وتزوّجته وساندته. ميدي التي لم تتحمّل قرار جازون الزواج من كريوز ابنة الملك كريون، فأحرقت العروس قبل أن تقتل أولادها هي وتذهب بهم إلى جدّها إله الشمس. وبين الكوميديا والتراجيديا، تُخبرنا حنان كيف حلمت مرّة بقتل ابنها لتريحه من أوجاعه التي أصابه بها مرض السرطان.
من حنان وميدي ومعهما ننتقل إلى “إيفون” وهو اسم مستعار لامرأة لبنانية قتلت بناتها الثلاث قبل أن تقتل نفسها. حضّرت لهنّ سلطة الفواكه المغطّاة بكريما دست فيها السمّ. وبعدها وبكل هدوء، سجّلت لزوجها الذي يعمل خارج لبنان شريطًا طوله 45 دقيقة، قبل أن تُسمّم نفسها هي الأخرى وتموت قرب بناتها. حاولت حنان السؤال عمّا تضمّنه الشريط الذي لم يصل إلى القضاء بسبب إخفائه من قبل أهل الزوج، بحسب ما تقول. رسمت أسئلة عدّة لتخلص في النهاية إلى تخيّلها أنّ الشريط احتوى الرسالة التي كتبتها الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف قبل أن تنتحر وبعدما أصيبت بالاكتئاب إثر الحرب العالمية الثانية وبعدما خسرت بيتها ولم يلقَ كتاباها الأخيران حينها رواجًا. وبين “إيفون” التي اتّهمت بالجنون لأنّه “مستحيل تصير هيك قصص بضيعتنا” وولف، يختلط الخيال بالواقع ليُعيد أسئلة ويزيد عليها.
ومن حنان وميدي وإيفون ومعهنّ تنتقل حنان إلى زهرة وهي اسم مستعار أيضًا لشخصيّة حقيقيّة تسكن في الضاحية الجنوبية قُتل أبناؤها الثلاثة، ولو ليس على يديها. اثنان منهم في الجنوب في مواجهة العدوان الإسرائيلي في العام 2006 والثالث في العام 2013 في الشمال السوري. زهرة أيضًا يخونها زوجها الذي عشقته كما عشقت ميدي جازون إلى حدّ الجنون، وتركت عائلتها من أجله، وكان شريكها بالنضال وهي التي انتقلت معه من إيديولوجيّة إلى أخرى. إيديولوجيات خذلتها لترى نفسها في نهاية المطاف تعود إلى الله وترى فيه ملجأها الأخير. من خلال شخصية زهرة تطرح حنان إلى جانب كلّ الأسئلة التي طرحت مع حنان وميدي وإيفون أسئلة حول القتل والشهادة والتضحية. وهذا يبدو واضحًا بقراءتها رسالة من ابن زهرة الصغير الذي قتل في سوريا إذ يقول فيها في ما يقوله. “ما تبكيش يا أمي شو ما سمعتي. ما تصدقيش إنو ابنك خاين وجبان وعميل، إذا هيك الشهادة أنا ما بديش كون شهيد” وهذا بعدما أخبرها بأنّه قُتل لأنّه رفض قتل المدنيين.
كان يُمكن أن تنتهي المسرحية هنا كما تُخبرنا حنان وكما كان يحصل في العروض التي قدّمتها بين العام 2017 حتى العام 2019، إلّا أن وقوعها مؤخّرًا على قصيدة لشاعرة صومالية هربت مع عائلتها بسبب الحرب بعنوان “بيت” دفعها إلى إضافة هذا الشعر إلى المسرحية. “ما حدا بدب ولادو بالمي إلا إذا كانت المي أكثر أمانًا من الأرض الصلبة” تقول حنان مقتبسة بتصرّف من الشاعرة الصوماليّة عائدة بنا إلى ميدي وإيفون وزهرة وحنان التي تكمل “الهرولة” التي بدأتها بداية المسرحية.
كما أدخلت حنان الجمهور في تفاصيل قصصها، اعتمدت شكلًا إخراجيًا يُحوّل قاعة المسرح بكاملها إلى خشبة، بحيث تُلغي الحواجز بينها وبين الجمهور الذي عمدت إلى إشراكه في بعض المشاهد. ولم تكتفِ بهذا الأمر فقط، إذ يبدو جليًّا أنّها أرادت أن تُدخل الجمهور معها حتّى في تفاصيل عالم التمثيل والأداء ومنذ المشهد الأوّل. ولم تُشرك حنان الجمهور في تقديم المشاهد فقط بل عبر أدائها هي لأدوار نساء تتقاطع قصصهنّ مع قصص نساء من الجمهور أو نساء يعرفنهنّ، نسجت من تلك القصص خيطًا رفيعًا حاكت به رابطًا معهنّ فوقفن لها في ختام العرض لأكثر من عشر دقائق وصفّقن كثيرًا.
متوفر من خلال: